لم يكن عصيا على العراقيين أن يعيدوا لملمة أحوالهم بعد انتهاء مرحلة الاجتياح السياسي والاقتصادي والعسكري الأميركي على العراق عام 2003، فهذا الشعب بعربه وأكراده وسنته وشيعته تعب من الحروب المتواصلة والحصار الجائر، لكن مشكلته كانت بنخبه السياسية الجديدة، فحزب نظام صدام حسين لم يسمح لأي قوة سياسية أن تنشط في العراق قبل عام 2003 ولم يسمح للتعددية السياسية على نفس القالب الذي يقوم عليه نظام عائلة الأسد في سوريا، لكن أغلب السياسيين وأنصافهم القادمين من خارج حدود العراق ليحكموه برعايتين، إيرانية وأميركية، كانوا خريجي المساجد والحسينيات مع الاحترام لمكانتها الدينية، لكن وظيفة خريجيها انتقلت من الديني إلى السياسي، والبعض القليل ممن احتضنتهم بلدان اللجوء الغربية وتعلموا فيها قواعد المدنية وحقوق الإنسان، تبخرت عن رؤوسهم عند عتبة مطار بغداد.
والمشكلة الأخطر هي عدم حب غالبيتهم للعراق خصوصا الموالون منهم لإيران. كانت الفرصة قائمة أمام مزيج من الليبراليين ونخب الداخل لكي يأخذوا مبادرة العمل السياسي، وتحويل حالة الاحتلال إلى فرصة لقيام مشروع وطني عراقي ينهض على ركام ما خربه الاحتلال العسكري البشع الذي رحبت به القوى الدينية، والمرجعيات المذهبية لأنه أمّن لها السلطة والجاه.
وتمت محاربة أي جهد وطني عراقي لوضع البلاد على قواعد الدولة المدنية الحديثة، كان الهدف إغراقه بالفوضى من خلال هيمنة التشكيلات الطائفية التي بنت جمهورا زائفا قائما على اللعب عليه بموروث علي والحسين، واستحضار قصة صراع الخلافة منذ ألف وأربعمئة عام ليكون ميدانا للصراع الاجتماعي بين أبناء العراق الواحد، في الوقت الذي كانت الحاجة فيه إلى استعادة الإنسان العراقي لكرامته وحقوقه في الحرية والمدنية والخدمات.
وكان من المفترض أن يتحول مشروع المقاومة الوطنية المسلحة ضد الاحتلال إلى جهد سياسي وطني إلى جانب القوى السياسية الأخرى ومن بينها الدينية التي دخلت في لعبة متقنة مع الاحتلال لإقصاء قوى رفض الاحتلال ما عدا رجل الدين مقتدى الصدر الذي أبقى على تقاليد عائلته الوطنية حية.
اجتمع الأميركان والإيرانيون على قطع الطريق على محاولات بناء مشروع وطني عراقي قائم على التحالفات السياسية غير الطائفية وتوفير الفرص الديمقراطية أمام الجميع، لكن الحاكم الأميركي بول بريمر لم تكن لديه تعليمات من واشنطن بذلك، بل فرضت قواعد المحاصصة الطائفية. لهذا لجأت التكوينات التي أفرزتها حملة الانتخابات عام 2006 بعد تشريع الدستور إلى الدخول تحت خيمة “العملية السياسية” وهي مجموعات مبعثرة لا يجمعها شعار وبرنـامج وطني واضـح انتهت إلى “البلوكات الطائفية”.
وكان المشروع الوحيد الذي كانت له الفرصة الذهبية هو مشروع إياد علاوي المستند إلى حركته “الوفاق” وقائمته الانتخابية “العراقية” والذي خسر فرصته في الوصول إلى السلطة عام 2010 بسبب حجم القوى الطائفية التي نمت بسرعة بحماية من طهران وواشنطن، رغم أن علاوي هو أحد أصدقاء أميركا، ولا نبالغ القول بأن جميع المشاريع التي تلته لم تصل إلى ما انتهى إليه من حلول.
مشكلة إياد علاوي بنيوية ذاتية، فقد أراد حمل العملية السياسية على كتفه مستندا على كوادر متواضعة وليست ذات قدرات قيادية مما جعل منتقديه يصفونه بالمتفرد والدكتاتوري الخ، وقد توهم بأن استناده على العمق العربي سيعينه في مشروعه الجامع، ولم يكن يعلم حجم عملية التخريب التي شرعها الدستور وقد ساهم هو وغيره في قيامه. ونسي علاوي قرار واشنطن الذي أبلغته للسعودية عام 1995 برفع يدها عن الملف العراقي، وكان هو وشريكه في حركة الوفاق صلاح عمر العلي قد علما بذلك.
ومن أوهامه أنه اعتقد بأن الأميـركان سينجزون مهمـة القضاء على نظام صدام ويتركون قيـادة البلد لأبنائه، واعتقد كذلك بأن تحالفات المعارضة قبل عام 2003 تصلح لتحالفات جديدة بعد استلام الحكم وفق المفهوم الفضفاض “للشراكة”، لكن الصدمة كانت في استسلام المحتل الأميركي للعبة الطائفية بقيادة الأحزاب الشيعية، وإزاحته عـن مهمته كـرئيس للوزراء عام 2005 بعد تعجيل مرجعية السيستاني بتنسيق أميركي إيراني لقيام الدستور والانتخابات.
وجعل التحالف “الشيعي الكردي” قاعدة انطلاق الحكم بعد إلحاق مجموعة هامشية من العرب السنة، وموالاة الحزب الاسلامي، وغلق جميع فرص المشروع الوطني العابر للطائفية وتشظي رموزه التي ظهرت بتواضع بعد مشروع إياد علاوي، وانتهت إلى “البلوك الطائفي” وكانت جميع الفعاليات والتي أطلقت على نفسها اسم كتل انتخابية لا تنتمي إلى برامج وطنية سياسية، واكتسبت فعالياتها من طلب الدعم المادي من بعض دول الخليج تحت شعارات وهمية لـدعم العرب السنة في العـراق، وكانت الأموال تذهب إلى جيوب أولئك الناشطين.
وبعد مشروع “حركة الوفاق” الذي سمي (بالعراقية والوطنية في ما بعد) الذي له إمكانيات أكثر من غيره، لم يظهر مشروع وطني جدي قادر على بلورة تحرك سياسي لـه قيمتـه، يستنـد على ثـوابت رئيسيـة أهمها عدم الخضوع للعملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية، وعدم إغفال دور المقاومة الوطنية المسلحة ضد الاحتلال.
فما ظهر خلال السنوات الأربع الماضية ليس حركة سياسية لها أثرها الواضح، وإنما محاولات لا تتعدى الاجتهادات الإعلامية هي أقرب من النوادي العامة منها إلى برامج فعالة ذات تأثير في الشارع العراقي، فيما عبرت البعض من النشاطات المعارضة للعملية السياسية عن عدم استقلاليتها وطائفيتها، وتبع البعض الآخر أجندات إقليمية تقدم لها الأموال تحت عنوان “المشروع الوطني العراقي” ونخص بالذكر المشـروع العربي لخميس الخنجر الذي لم يتمكن بسبب الفيتو الأميركي عليه من بلورة نشاطه رغم إمكانياته المادية الخاصة، ولم يحصل رغم ما بذله من مال سـوى على مقعد واحد انقلـب عليه، والمشروع الآخر الذي ولد في الدوحة بقيادة جمال الضـاري (رجل أعمال من عائلة مؤسس هيئة علماء المسلمين الراحل حارث الضاري) حيث عقد مؤتمره التأسيسي في باريس في مايو الماضي، وأعلن عن قيام “مشروع وطني عراقي” حاول ملء الفراغ السياسي، لكنه حمل معه بذور فشله منذ البداية، لأنه لم يتمكن من استقطاب القوى والشخصيات الوطنية العراقية ذات القدرات السياسية المجربة والنزيهة، ولم يقدم برنامجا سياسيا قادرا على ترجمة العبارات الإنشائية التي احتواها البيان التأسيسي للمؤتمر، وهو بصدد عقد اجتماع قريب في إسطنبول لن يخرجه من مأزق تشكيله رغم دعم الدوحة لهذا الكيان المتواضع إلى جانب ما تشتغل عليه مع البعض من سنة العملية السنية من قيادات الحزب الإسلامي لخلق “مصالحة سنية سنية” مع معارضي الحكم القائم.
وهناك من يشتغل على هامش العملية السيـاسية لتعديل مسارها من ذوي المال، لكن رموزه يلعبون السياسة على طريقة “البوكر” السياسي المعزولة عن الناس الحقيقيين، ولا تتجاوز مشاريعهم طاولاتهم في فنادق الخمس نجوم رغم أنها تصب في خانة مشاريع “الأقلمة الطائفية” الرائجة الآن.
أفرز احتلال داعش للعراق وإمكانية هزيمته في الموصل معطيات جدّية تدعو إلى عدم الاستسلام لما يرّوج حاليا من هيمنة محتملة لقوى الميليشيات وهيمنة إيران الكاملة على الوضع العراقي.
فالوضع الجديد أفرز قوى وطنية عراقية جدّية لم تتورط في الطائفية السنية مقابل الطائفية الشيعية، قادرة على بلورة مشروع وطني عراقي عابر للطائفية، بعيدا عن لعبة الصفقات السياسية، وينبغي مراجعة جميع المشاريع الفرعية والنشاطات النزيهة من دون إقصاء وتهميش ذاتي أو طائفي، خصوصا بين العرب السنة حيث وقع تجمع سنة الحكومة في مأزقه، ولعل فرصة لملمة الجهود متوفرة.
ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مشروع إياد علاوي الذي حاول شكليا تجديد نفسه أخيرا بتحوله إلى حزب سياسي، ولن يتمكن من تخطي أزمته التنظيمية إذا لم ينفتح على القدرات السياسية العراقية البعيدة عن المصالح الفردية، وكذلك مشاريع صغيرة أخرى هنا وهناك، وشخصيات وطنية معروفة لدى الرأي العام الشعبي العراقي حافظت على نزاهتها، وذلك بالدخول في حوار وطني علني وجدي داخل “المشروع الوطني العراقي” بعيدا عن شروط العملية السياسية القائمة ودستورها حيث وصلت إلى مأزقها بعد تسربلها بالفساد الوسخ. قد تكون هناك فرصة عملية لمقاومة تعيد للمواطن العراقي ثقته بنفسه وتزيح عنه حالة الإحباط المدمر.
د. ماجد السامرائي
نقلا عن العرب