لم يعد الجدل العراقي هذه الأيام يدور عن كيفية انتزاع محافظة نينوى وعاصمتها الموصل من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، لأن الحشود العسكرية تؤكد أن المسألة قد حسمت. فعلى محاورها الأربعة تجاوز عدد تلك القوات المتجمعة أكثر من ثلاثين ألف عسكري مدعومين بوحدات أميركية خاصة للتدخل السريع، بينما تغطي سماء نينوى ثلاثة أسراب لطائرات أميركية وفرنسية وعراقية، غير أن هناك ما يشي بأن المشاكل السياسية، التي ستعقب عملية تحرير الموصل، أكبر من المعركة نفسها، وهو ما بات يطلق عليه “مرحلة ما بعد داعش”. مرحلة تتنازعها مشاريع سياسية مختلفة ومتناقضة، منها التقسيمي ومنها الآخر التفتيتي، وفي هذا السياق يندرج تصويت البرلمان العراقي، أمس الاثنين، على إبقاء محافظة نينوى موحدة بحسب حدودها التاريخية قبل احتلال عام 2003، ومنع مشاريع تقسيمها. وقال النائب عن المحافظة، أحمد الجربا في مؤتمر صحافي، عقده في مبنى البرلمان، إنّ “البرلمان صوّت خلال جلسة اليوم (أمس) بالأغلبية على قرار إبقاء محافظة نينوى على حدودها الإدارية قبل عام 2003، كمحافظة عراقيّة محميّة، ولا يمكن إجراء أي تغيير بوضعها القانوني والإداري”، جازماً بأنّ “القرار يعدّ ملزماً للجميع، ولا يمكن لأي جهة أن تتجاوزه، وتسعى لتنفيذ مشاريع التقسيم في المحافظة”. وأشار الجربا الى أنّ “القرار يخوّل أهالي المحافظة تحديد مصير محافظتهم بعد تحريرها”.
وتتصارع، حالياً، ثلاثة مشاريع تطرحها قوى داخل العراق لمرحلة ما بعد التحرير في نينوى. وتضم هذه المحافظة العربية أقليات كردية وتركمانية فضلاً عن ديانات إلى جانب الإسلامية، وهي المسيحية، والصابئية، والإيزيدية، وأخرى قديمة مثل الزرادشتية، والكاكائية، والآشورية، والشبك، مما دفع مراقبين إلى التعبير عن مخاوفهم من أن يؤدي ذلك إلى صراع جديد في البلاد.
وعلى الرغم من استمرار “داعش” في تحصين مواقعه حول الموصل وضواحيها، يبدو أنه قرار نهائي بعدم تسليم الحدباء بسهولة، قبل أن يكرر التنظيم مسلسل خراب المدن التي احتلها عوضاً عن شلالات الدم التي تسيل بين أزقة المدن من المدنيين قبل غيرهم. وتشير المعطيات التي تسربت لـ”العربي الجديد” إلى أن “جميع الاستعدادات اللوجستية اكتملت للهجوم على المدينة بخطة أميركية تم إعدادها سلفاً، يتخللها قصف مكثّف لثلاثة أيام على مواقع ومعسكرات التنظيم ومصادر نيرانه.
وتعقب ذلك عملية زحف بري وإنزالات جوية على مواقع منتخبة داخل المدينة وعلى أسوارها الخارجية، تهيئ لانهيار التنظيم بشكل كامل وتسمح بتقدم القوات البرية التي ستكون 30 في المائة قوات كردية، و10 في المائة قوات محلية من العشائر العربية والمتطوعين المدعومين من قبل أنقرة وأربيل. أمّا النسبة المتبقية وهي الأكبر ستكون من القوات العراقية الحكومية كالجيش، والشرطة الاتحادية، وجهاز مكافحة الإرهاب، وفصائل من مليشيا الحشد الشعبي، وفقاً للمصادر ذاتها.
وكشف وزير عراقي بارز في حكومة حيدر العبادي لـ”العربي الجديد” عن وجود ثلاثة مشاريع طرحها زعماء الكتل السياسية الرئيسية في البلاد، لكن لا يوجد من بينها مشروع مرجح حتى الآن على الرغم من دعم إيران أحد المشاريع، والأميركيين مشروعاً آخر.
وبحسب الوزير ذاته، فإن المشاريع الثلاثة هي مشروع سني، وآخر كردي، وثالث تتبناه حكومة حيدر العبادي ومليشيات الحشد وهو بطبيعة الحال المشروع الشيعي. ويشير إلى أن المشروع الأول، “مشروع القوى السنية” يقضي بتحويل نينوى الى إقليم مستقل يضم محافظات عدة بداخله للحفاظ على كيان نينوى وضمان عدم تشظيها تحت لافتات وقوى متصارعة على أسس قومية وإثنية. ويشمل الإقليم محافظات عدة بعد تحويل قضاء تلعفر، وقضاء مخمور، وسهل نينوى، وسنجار والحضر إلى محافظات، فيما تتحول الموصل الى محافظة وتكون هي عاصمة الإقليم”.
أما المشروع الثاني (الكردي) وهو قريب من المشروع المطروح من قبل القوى السنية، ويقضي بتحويل نينوى إلى محافظات عدة ثم حسم المادة 140 من الدستور، التي تقضي بحسم المناطق المتنازع عليها وتحديد سكان المناطق الحدودية مع إقليم كردستان العراق في حال قرروا البقاء في نينوى أو الالتحاق بالإقليم من خلال استفتاء تشرف عليه الأمم المتحدة. وبعد ذلك يتم تحويل نينوى إلى إقليم وهو مشروع، بحسب الوزير ذاته، يتجاوب معه الأميركيون.
أما المشروع، الذي تتبناه حكومة حيدر العبادي ومليشيات الحشد وتدعمه إيران، فهو بقاء الوضع على ما هو عليه قبل “داعش”، وهو ما يرفضه الأكراد ويعتبرونه مستحيلاً ويراه السنة عودة إلى المشاكل السابقة التي تسببت بظهور التنظيم. ووفقاً للوزير، فإن سبب دعم إيران والمليشيات مشروع أو رؤية العبادي هو أن المشروع نظرياً يعني سيطرة الجيش العراقي على هذه المناطق لكن عملياً هو سيطرة المليشيات التابعة لإيران على المحافظة، وخلق طريق بري مريح مع سورية خلال الفترة المقبلة، وبالتالي ضمان تواصل مستمر إلى هناك.
وعن خطة التحرير، اعتبر المستشار الإعلامي لإقليم كردستان، كفاح محمود، في حديث مع وسائل إعلام كردية، الأربعاء الماضي، أن “العملية العسكرية المرتقبة لتحرير مدينة الموصل أسهل بكثير من مرحلة ما بعد داعش”. وقال محمود إنه “من دون وجود خارطة طريق واتفاقية بين جميع الأطراف من الصعب تحرير مدينة الموصل، التي تضم أكثر من مليون ونصف المليون نسمة ومئات العشائر”، مبيناً أن “الاتفاق السياسي هو الجانب الأهم في عملية التحرير”. وأضاف أن “تنظيم داعش نجح في تمزيق النسيج الاجتماعي بين المكونات والعشائر”.
إلّا أن زعيم المجلس الإسلامي الأعلى، عمار الحكيم، قال إنه يجب الاستعداد لمرحلة ما بعد داعش بالموصل، مضيفاً في بيان له عقب لقاء مع قيادات كردية جرى في بغداد، قبل أسبوعين، أن “الجانبين بحثا مرحلة ما بعد داعش في الموصل وضرورة الاتفاق على المعطيات، التي تحول دون عودته”، داعياً الجميع إلى تحمل مسؤولياتهم في هذا الأمر.
من جانبه، أصدر القيادي في ائتلاف دولة القانون بزعامة نائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي، محمد الصيهود، بياناً قبل أيام، حذر فيه الأكراد من قضم أراض من المدينة وضمها إلى الإقليم، لافتاً إلى أنه “في حال أصرت قوات البشمركة على البقاء في المناطق التي حررتها ضمن محافظة نينوى، فإن خيارنا الوحيد هو المواجهة”. وأوضح أن “مشاركة البشمركة في تحرير بعض القرى في نينوى أمر يختلف كلياً عن بقائها في تلك الأراضي، وهذا الأخير مرفوض ويعتبر (احتلالاً وليس تحريراً)”، على حد وصفه.
في هذا السياق، أكد المحلل السياسي العراقي، الدكتور محمد القيسي، أن “صراع الأجندات الثلاث يمكن تسويته بسهولة لو لم تكن إيران على الخط”. وأضاف أنه “بالنسبة للأكراد فهم لا يرغبون سوى بحدود آمنة وتطبيق مادة الاستفتاء للقرى المختلطة (الكردية والعربية) الحدودية معها، بشأن الانضمام إلى الإقليم من عدمه، كما نص الدستور. والقوى السنية غير مستعدة لإضاعة مدينة لصالح النفوذ الإيراني كما حدث في ديالى. لذلك على واشنطن القيام بدور وسيط وضامن والضغط على بغداد لتشكيل قوات من أهل نينوى أنفسهم، وإبعاد الجيش والمليشيات”.
ولفت إلى أنه من غير المرجح أن تحسم النتيجة لأي من تلك المشاريع بعد استعادة الموصل بشكل مباشر، لأسباب عسكرية وسياسية فضلاً عن وجود الرئة الخارجية لداعش المتمثلة بالأراضي والمدن السورية المجاورة، إذ ستبقى نينوى مهددة منه بأي وقت ما لم تتم السيطرة على المدن الخاضعة له في سورية الملاصقة للمحافظة العراقية.
وتعد محافظة نينوى وعاصمتها الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق من حيث السكان، البالغ عددهم نحو خمسة ملايين نسمة، تتركز غالبيتهم في مدينة الموصل. تقع معظم مدن نينوى على نهر دجلة الذي يدخل المحافظة من الجارة تركيا. تبعد المحافظة عن بغداد 500 كيلومتر. تعتبر من أقدم مدن بلاد الرافدين، إذ كانت نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية، تمّ بناؤها في بداية 6000 ق.م. أصبحت في ما بعد مركزاً دينياً هاماً لعبادة الإله عشتار، وسميت نينوى نسبة إلى مؤسسها الملك الآشوري، نينوس.
تبلغ مساحة المحافظة 32 ألفاً و308 كيلومترات مربعة، وأبرز مدنها الموصل، والبعاج، والشورة، والحضر، وربيعة، والقيارة، والقحطانية، والقيروان، وحمام العليل، وتلعفر، وتلكيف، وبرطلة، وسنجار، وقرة قوش، وزمار، والشيخان، وكرمليس، والقوش، وباعذرة، وتل عزير، وبعشيقة، والمحلبية. تضم المحافظة قبور عدد من الأنبياء التي فجرها “داعش” بعد دخوله، أبرزهم النبي يونس، والنبي شيت، والنبي جرجس، فضلاً عن أقدم الكنائس في العالم، مثل كنائس مريم العذراء، وسيدة النجاة، والأرمن، والكاثوليك، ودير ما كوركيس، وغيرها الكثير دمرها التنظيم بشكل كامل. وتقطن المحافظة أغلبية عربية بنسبة 80 في المائة، موزّعين بين ديانات عدة، أبرزها الإسلامية، والمسيحية، والآشورية، إضافة إلى القوميتين الكردية والتركية.
عثمان المختار
صحيفة العربي الجديد