ظهرت الحفلات ممثلة لأحدث ساحات المعارك في إيران، حيث حاول المحافظون إظهار سلطتهم وقوتهم ضد منافسيهم المعتدلين، الذي يقودهم الرئيس حسن روحاني، فمنذ إتمام الاتفاق النووي، شدد المحافظون الرقابة على القيم الثقافية والأخلاقية بالبلاد، وكان ذلك في البداية وسط مخاوف من أن تقترب البلاد من نهج الغرب وتفقد قيمها، نتيجة تلك التأثيرات الغربية، وفي هذا الصدد، أصبحت الحفلات الموسيقية، التي تبث مباشرة، هدفا للمتشددين الدينيين.
لكن منذ انتخاب روحاني في العام 2013، صعّد المحافظون من هجماتهم على الحفلات الموسيقية، على الرغم من مقاومة روحاني وفريقه، فقد حاولوا العمل على إلغاء الحفلات في مدن مختلفة، وحشد الدعم من قبل السلطات المحلية، التي تتفق معهم في الرأي، وفي عدة حالات، هاجموا الحفلات بشكل مباشر.
وفي الأحداث الأخيرة، تدخلت الشرطة والقضاء لمنع الحفلات الموسيقية، وفقا لما وصفوه بشكل غامض على أنه “مسألة أخلاقية”، وذلك على الرغم من أن وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي كانت أعطت الإذن لمنظمي الحفل.
توترات الصيف
وتصاعدت المواجهات بين المعتدلين والمتشددين بشأن الحفلات منذ يوليو، وخلال اشتباك ردا على أمر تنفيذي من إدارة روحاني، نص على أن الشرطة ليس لديها السلطة لوقف الحفلات، دعا المتشدد سيد مسعود جزايري، وهو نائب رئيس مقرات القوات العسكرية المشتركة، دعا الشرطة لمواجهة “الأمراض الأخلاقية والثقافية في المجتمع، وتحديدا فيما يخص الحفلات”.
وبعد ذلك في يوم 5 أغسطس، بالرغم من الحصول على إذن من وزارة الثقافة والإرشاد لهذا الحفل للمغني الإيراني ذو الشعبية “سالار عقيلي”، تدخلت السلطات القضائية، وأعلن المدعي العام بمحافظة خراسان رضوي، شمالي البلاد، أن الحفل تم إلغائه.
وقال، “نظرا لبعض المسائل الأخلاقية في مستويات الأداء السابقة، وحتى يتم النظر في تلك المسألة في إطار المجلس الثقافي للمحافظة، فقد تم تعليق جميع الحفلات بالمحافظة”.
وردا على ذلك، انتقد وزير الداخلية “عبدالرضا رحماني فضلي” تعليق السلطة القضائية لجميع الحفلات الموسيقية في محافظة خراسان رضوي، وفي خطاب لرئيس القضاة المحافظ، آية الله صادق آملي لاريجاني، كتب فضلي: “لا يمكننا الحكم بشكل مسبق على نوايا الموسيقيين، واتخاذ القرارات على أساس احتمالية حدوث شيء سيء خلال جميع الحفلات، لن يكون هذا صحيحا”.
وفي يوم 12 أغسطس، قال الزعيم المتشدد للغاية وممثل المرشد الأعلى في محافظة خراسان رضوي، “أحمد علم الهدى”، في خطبة الجمعة، في مشهد (مقر ضريح الإمام الرضا، إمام الشيعة الثامن) وهو مكان للحج الخاص بهم، “إذا كنت ترغب في إقامة الحفل، ارحل وعش في مكان آخر”.
وفي أواخر أغسطس، وتحت ضغط منظمة الباسيج الطلابية -وهي جزء من ميليشيا المتطوعين شبه العسكرية- تم منع إقامة الحفلات الموسيقية في كافة الجامعات الإيرانية أيضا.
ليس من شأنك
وفي أوائل اكتوبر، نقل المتعصب المتشدد آية الله محمد يزدي، رئيس للمنظمة الدينية الفاعلة لمجتمع المعلمين لمدينة قم، بالمواجهة مع روحاني وفريقه بشأن القوانين الدينية إلى مراحل جديدة، وتعد “قم” ثاني المدن المقدسة في إيران، وهي المكان الذي يوجد به ضريح فاطمة بنت موسى، أخت الإمام الرضا، ويوجد بها كذلك أكبر مركز للمنح الدراسية الشيعية في العالم.
وحتى شهر مايو الماضي، كان رجل الدين البارز، يزدي، رئيسا لمجلس الخبراء، وهو الهيئة المكلفة بمراقبة وانتخاب المرشد الأعلى الإيراني، وكمتشدد رائد، واجه هزيمة غير متوقعة -وربما مذلة- بعد خسارته لمقعده في الهيئة، في أثناء الانتخابات التي أجريت في فبراير.
كذلك في مؤتمر صحفي عقد في يوم 2 أكتوبر، هاجم يزدي بضراوة وزير الثقافة ووزارة الإرشاد الديني، علي جنتي، وهو المدافع عن الأطراف المعتدلة وابن المحافظ المتشدد آية الله أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور.
وقال يزدي، “سيدي الوزير، ليس من شأنك أن تقرر ما إذا كان “وجود” موسيقى في مدينة قم مناسب أم لا. اهتموا بشؤونكم الخاصة، ليس لديك الحق في التدخل في المسائل الدينية”.
كما خاطب حسن روحاني، وذكّره بأنه كرجل دين، ينبغي ألا يتسامح مع الأحداث، التي تعتبر إثمًا.
وفي محاولة لجذب المرشد الإيراني للنزاع، قال يزدي مخاطبا جنتي: “أنت تقول إنك من أتباع المرشد الأعلى.. المرشد أعطى الإذن لإقامة نوعيات معينة من الأنشطة الموسيقية، لكن (من وجهة نظر الدين) اعتبر الترويج للموسيقى جائزًا”.
من الموسيقى إلى كرة القدم
وانتقد يزدي أيضا إدارة روحاني بقسوة، بسبب عدم إعادة جدولة أو إلغاء مباراة التصفيات بين كوريا الجنوبية وإيران لكأس العالم 2018. وتتزامن المباراة مع يوم إحياء ذكرى محرم الشيعية، وهي ذكرى استشهاد الإمام الثالث، الحسين، حفيد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-
وطلب من الحكومة إلغاء الحدث، إذا كان سيتم احترام هذا اليوم المقدس، قائلا، “هل يمكننا منع الناس من الهتاف بعد إحراز إيران لهدف (في اليوم الذي من المفترض أن يحزنوا به)؟ وردا على تعليق يقول إن إيران ستدفع ثمن عدم لعب المباراة، أجاب، “من الأفضل أن ندفع الثمن، من أن تصاب مقدساتنا بأي أذى”.
جدير بالذكر أن التوتر بين الحداثة والمحافظة داخل المجتمع الإيراني، يعود تاريخيا إلى الثورة الدستورية في إيران من العام 1905 حتى العام 1911، وقام رجال الدين الذين قادا الثورة، وهم آيات الله سيد محمد الطباطبائي، وسيد عبد الله بهبهاني، بتعبئة الجماهير من خلال المطالبة بإنهاء الاستبداد في إيران، وكما هو ملحوظ اليوم، كان هناك رجال دين ممن رفضوا الحداثة، وأصروا على تشكيل حكومة تعمل على أساس الشريعة.
وعلى الرغم من أن جوهر هذه المعركة الحالية هي الطبيعة الأيديولوجية، يسعى المحافظون لأهداف أخرى أيضا، ففي محاولة لإظهار قوتهم، سعوا إلى تشويه سمعة روحاني، الذي وعد خلال حملته الانتخابية بتحقيق المزيد من الحريات.
إنهم يريدون تصوير الوضع، كما لو أنه لم يتغير شيء خلال قيادة روحاني، وذلك على الرغم من دفاعه المستمر عن حق الشباب الإيرانيين في التعبير عن الفرح والسعادة، ويأمل المحافظون في أن يخيب أمل الناخبين في الانتخابات الرئاسية في ربيع عام 2017، ويؤدي ذلك إلى هزيمته.
والغريب بما يكفي، هو أن روحاني ربما يكون يتضرع بالدعاء بألا تهزم إيران كوريا في مباراة التصفيات المؤهلة في 11 أكتوبر، ويرى البعض أن آية الله يزدي، على حق، فالهتافات قد تندلع في البلاد في نفس اليوم، الذي يجب أن يحزنوا فيه، وعلى وسائل الإعلام الاجتماعية، حذّر المستخدمون أيضا بعضهم البعض، بعدم الاحتفال في الشوارع، إن فازت إيران على كوريا.
وإذا فازت إيران، فسيكون لدى المحافظين حجة قوية لاتخاذ مسألة عدم احترام القواعد الدينية تحت قيادة روحاني، إلى مستوى أعلى من الخلاف.
التقرير