“نخلةٌ في الزابْ. كان يأتي العمرُ يقضي صبوةً فيها، ويصغي للأقاصيص التي من آخر الدنيا يُفضي بها الأعراب”. هي كذلك، كانت تصغي للجميع، بأزقتها الحجرية المتعرجة، وبواباتها العالية. ربما يحتاج حالها اليوم، إلى من يصغي إليها، ويراها من خارج العراق. يصف ما عرفه عنها، وما يشهده من تراجيديا تحيط بها وتهدد وجودها كجوهرة على صدر المشرق، بعد أن كانت أحد أعظم أسباب كون المشرق عربياً. فلولا الموصل لما جاءت طيء وكندة وربيعة وعبد قيس وزبيد في هجرات متواصلة على مجرى الأنهار الحضارية شمالاً وجنوباً.
نينوى المضيئة عبر العصور، عاصمة العالم القديم، والحضارات الأولى، التي روت التوراة أن ملوك الأشوريين كانوا يعنون بإحضار الغنائم والأسلاب معهم إليها، وتركها هناك، لتنمو المدينة وتزداد عظمة وغنى وجمالا. حتى أنهم اعتبروا العالم القديم كله “عبداً لنينوى يمدّها بما تحتاجه”.
فنيت نينوى بعد أن ولدت قبل آلاف السنين، لتنبت محلها على الضفة المقابلة للنهر، مدينة الموصل، واصلة الشام والمشرق كله بالشرق البعيد.
معركة الموصل الدائمة
الآن لم يبق سوى الموصل من حواضر المدن العربية القديمة، الأموية والعباسية، تكاد تكون واقفة على قدميها. وهي التي أعيد بناؤها وتسويرها في عهد عبدالملك بن مروان. حينها تم رصف شوارعها بالحجارة وشق نهرها “الحر”. لتتحول إلى عدوة من عدوات الفتح في جهة الشرق. لكن أهل الموصل لم يكونوا على توافق مع الأمويين، لأمر ما يخص علاقتهم بالمراكز الإدارية. ولعل نفوسهم، كانت ولم تزل، تأبى أن تُحكم من غير الموصل.
كذلك فعلوا مع العباسيين. فكان التوتر والحذر هو الغالب في علاقتهم مع كل سلطة، سواء كانت في دمشق أو بغداد أو سواهما. رغم أن الموصل شهدت في عهد العباسيين ولادة المدارس المرتبطة بالكنائس، وكان هذا تطوراً هائلاً امتازت به عن مدن العالم. حتى جاء اليوم الذي استطاع فيه الخوارج الاستيلاء على الموصل في عهد مساور الذي جعلها جزءا من إمارته، كما ذكر ابن خلدون وابن الأثير، غير أن العباسيين استردوها لاحقا.
لقد كان على كل من أراد حكم المشرق العربي أن يجعل أولى مهامه حيازة الموصل. فبعد كل “معركة للموصل” عادة ما يتغير المشرق.
روح كالموسلين
أهل الموصل من المسيحيين اليوم، يشكون تهجيرهم من “حصنا عبرايا” وهو الاسم السرياني القديم لما يعرف بمحلة القلعة على الساحل الأيمن للموصل على كتف دجلة، بعد أن رفعت عصابات داعش الصوت من المآذن بإمهال المسيحيين في الموصل ثلاثة أيام للخروج.
“تركنا كل شيء، بيوتنا ومكتباتنا وطلعنا بحواسنا” هكذا يقولون. خرجوا بثيابهم فقط خشية القتل. هذا التغيير الكبير لم يحصل في يوم ويومين، ولكنّ قروناً ساهمت في مراكمته، بعد أن كان “الناقوس يُقرع في بغداد فيسمع صوته في تكريت”، كما يقال، وكما روى كتاب “الديارات” للشابشتي الذي وثّق كل دير وكنيسة في الموصل والجزيرة.
منذ أن أصبحت مدينة، لم تتوقف الموصل عن تصدير البضائع والمتاجرة بها، شرقاً، حتى وقعت تحت سيطرة العثمانيين، فأصبحت موانئها متجهة ناحية الغرب، على البحر الأبيض المتوسط في بعلبك وبيروت، وأصبحت منتجاتها تتدفق عبر ماردين وحلب ومنها إلى الشمال، ولم تبق امرأة عربية أو كردية لم تضع على رأسها خماراً من “هباري الموصل” الرمادية والحمراء والفضية والسوداء الحريرية.
الموصل بقيت من صيف العام 2014 وحتى خريف هذا العام 2016 تحت احتلال تنظيم دموي وحشي، دون أن يسعى الجيش العراقي إلى تحريرها إلا بعد تكوين تحالف دولي كبير. وفي تلك الأثناء امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت بالمقالات والخطب ومقاطع الفيديو التي تتهم أهل الموصل بالخيانة لأنهم لم يطردوا داعش
ولعل البعض لا يعلم أن ذهنية أهل الموصل التجارية خلقت ظواهر بقيت علامات فارقة في الأسواق العالمية مثل قماش “الموسلين” الذي حمل اسمه من اسم المدينة التي تصنعه “الموصل” وما زال حتى اليوم يعدّ من أفخر أنواع الأقمشة.
الموصلي موسيقي وحائك وتاجر. في بيئته تنتشر أسماء العوائل التي تعود إلى المهن المدينية، متفوقة على العشائرية والقبلية والروحية. وبمدنيته تلك امتد فضاء الموصل الحيوي إلى ديار بكر وماردين ودير الزور والرقة وحلب وإسطنبول ودمشق والقدس شمالاً وغرباً، وبغداد والبصرة والخليج العربي والهند جنوباً.
كانت الثقافات والصناعات المختلفة ملامح تمدّن شكلت كلها أجنحة لذلك الفضاء. عاش فيه أهله الأصلاء من العرب المسلمين السنة والشيعة واليهود والمسيحيين، والأعراق المختلفة كالأكراد والشبك والإيزيديين والسريان والآشوريين.
“هنا الموصل” من حلب
حدثٌ وقع في العام 1959 تسبّب بهجرة أهل الموصل عنها إلى بغداد وعموم العراق. نشأ عنه فراغ سكاني في المدينة. فالموصل العريقة لم تحتمل، حينها، بمجتمعها المتماسك الهندسي، التغيير الذي رافق انهيار الملكية قبل عام من ذلك التاريخ.
آنئذٍ قاد العقيد عبدالوهاب الشواف القيسي آمر اللواء الخامس بالموصل، والعميد ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية في كركوك والعقيد رفعت الحاج سري رئيس الاستخبارات العسكرية ومعهم آخرون، تحركاً انقلابياً عسكريا مدنياً عشائرياً سمّي بـ”ثورة الموصل”، رفضاً لـ”قطار السلام” أو “مؤتمر الشبيبة العالمية” الذي استفز منظموه حساسية أهل الموصل المحافظين.
عرفت الموصل كواحدة من كبريات مراكز الوعي القومي العربي في العراق والمشرق. وكانت فوق ذلك، وحسب الباحثين “موطن ما يتراوح بين ربع وثلث مجموع ضباط الجيش” في تلك الفترة.
وبينما كان عدد سكانها يقدر بـ180 ألف نسمة، قيل إن 400 موصلي منهم فقط كانوا من الشيوعيين. وهذا لم يكن يرضي عبدالكريم قاسم. لذلك قرر اليساريون إغراق الموصل بالمؤيدين، فتدفق عشرات الآلاف منهم إلى المدينة.
رافق ذلك انتفاضة شعبية هائلة قام بها أهالي الموصل. فأصدر قاسم أوامره بقصف مقرات الشواف في الموصل. وكانت إذاعة “هنا الموصل” تذيع من حلب، بيانات الشواف وتندد بحكم قاسم. جرح الشواف واغتاله ممرض في المشفى. وكان الانتقام من الموصل بوابة للانتقام من طبقة سياسية وعسكرية نخبوية منها من أعدم بمحاكمات المهداوي الشهيرة، ومنها من اعتقل واتهم بالخيانة.
ورغم أن “ثورة الموصل” تلك لم تدم سوى يوم واحد عملياً، إلا أن القرار كان اجتياح الموصل وتحريرها من الانقلابيين. فتدفقت عليها سيول الميليشيات وما سمّيت بالمقاومة الشعبية التي تتبع مباشرة لقاسم والمشكّلة بالحرف من “حشود” من الإيزيديين وأتباع للبارزاني. وبدأت عمليات الانتقام الوحشية من السكان المدنيين والقتل والسلب والنهب لا تتوقف أعماله على مدى أيام.
ذكر المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو أن تلك الأحداث وصلت بالفعل إلى ما يمكن وصفه بـ”الحرب الأهلية”، لأن أهل الموصل لم يقفوا مكتوفي الأيدي. وقال مهدي حميد قائد ما سمّي بالمقاومة الشعبية في الموصل إن عبدالكريم قاسم أصدر يومها أوامره بـ”إبادة كل من أظهر مقاومة أو حمل السلاح ضد الحكومة”.
ونشرت جريدة “اتحاد الشعب” الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي، في عددها بتاريخ 13 مارس 1959 مقالاً لصلاح الخرسان معلقاً على مجزرة الموصل قال فيه بالحرف “انجلت المعركة. فإذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة مدنيين وعسكريين، صرعى في دورهم أو على قارعة الطريق في الموصل وتلعفر”.
في السادس عشر من أبريل من العام 1972 منحت الحكومة العراقية حقاً خاصاً تميزت به عن بقية دول المشرق، بإقرارها لقانوني “الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية” و”قانون المجمّع العلمي السرياني”. فانتعش مسيحيو الموصل. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، بدأ استهداف المسيحيين من جديد. كان عهد سبعينات وثمانينات القرن العشرين عهداً مختلفاً بالنسبة إلى الموصليين، ففيه بنت الدولة العراقية سد الموصل الكبير وأولت اهتماماً خاصاً للتعليم والجامعات والخدمات. فاستقرت المدينة وازدهرت وتجاوزت البصرة لتصبح ثاني مدن العراق.
الموصل بعد الاحتلال الأميركي
احتلت الموصل بعد يومين فقط من الاحتلال الأميركي لبغداد، بقيادة الجنرال بترايوس قائد الفرقة 101 ومعه القوات الكردية، وتم نهب مصارفها وثرواتها. وبقي أهلها منذ العام 2003 رافضين لكل أشكال المشاركة في ما سمّي بالعملية السياسية.
فاستغل الكثيرون الفراغ الذي خلفه إصرارهم على المقاطعة السياسية. واندفعت فئات وشرائح لتحل محلهم في تمثيل الموصل في بغداد ومؤسسات الدولة العراقية الجديدة.
وصل لواء “الذئب” إلى الموصل سريعاً. وبدأت المدينة تشهد عمليات وحشية بقيادة قائد اللواء “أبو الوليد” وأخذ أهلها يعانون من المعتقلات والتعذيب، لاسيما موظفو الدولة السابقون، وضباط الجيش العراقي الذي كان قد تم حلّه.
خلف “لواء الذئب” النقيب جبار حسن الكردي الذي نكّل بأهل الموصل باسم الشرطة، ثم جاء الدور على ناصر الغنام آمر الفرقة الثانية، الذي أصدر أمراً بتقسيم الموصل إلى قطاعات لتسهل السيطرة عليها، وسط الحواجز الأمنية والسيطرات التي كانت توقف الأهالي وتهينهم وتذلهم وتكسر شوكتهم. وتم تطبيق الإجراءات الأمنية المشابهة لما تقوم به قوات الاحتلال بحق أهالي الموصل، فكان عليهم أن يستخرجوا الموافقات الأمنية قبل أن يقدموا على فعل أي شيء. وتحولت حياتهم إلى جحيم.
ازدادت الاعتقالات والقتل تحت التعذيب وغاب القانون كلياً عن المدينة الحدباء. وتم استنزاف المدينة الثرية بالتجار والمثقفين والصناعيين، من خلال الفساد الذي كان يضرب كل معاملاتهم الرسمية، وعلى رأسها الاطمئنان على أبنائهم المعتقلين.
فلم يكن ذلك يحصل دون دفع الرشاوى للمعنيين. جاء بعد الغنام مهدي الغراوي قائد الفرقة الثالثة، الذي واصل مسيرة الضغط على الموصل وأهلها. وأهان القضاة واعتقل المزيد من المصلاويين، وأغلق الساحات والشوارع وشرعن الإعدام الميداني بلا قضاء ولا محاكمة.
لكنّ الموصل كان قد قررت أن تثور من جديد. ولم يكن لدى العقول التي لا تريد لها هذا، سوى تسليط أخطر التنظيمات الإرهابية في العصر الحديث عليها.
أبحاث أنثروبولوجية وتاريخية كثيرة ستجرى لإدراك ما الذي تعرض إليه أهل الموصل، الذين احتفظوا رغم كل شيء بلهجتهم الخاصة، وأزيائهم وتراثهم الحاني الرقيق، فقد تكون هذه هي أيامه الأخيرة
بين فكي داعش
كان الغراوي أول العسكريين المنسحبين من الموصل أمام بضعة مئات من إرهابيي داعش في يونيو 2014. وحين صدر التقرير الرسمي الذي أعدته لجنة برلمانية عراقية، حمّل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي و35 مسؤولاً آخرين مسؤولية سقوط المدينة بيد داعش.
يذكر ذلك التقرير أن المالكي لم يكن يتوقع سقوط الموصل، وأن خط الدفاع الأول، اللواء السادس في الفرقة الثالثة، كان يضم فقط 500 مقاتل معظمهم ينقصهم السلاح والذخيرة.
لكن أبرز تعليق على ما جرى حينها، صدر عن أمين عام وزارة البيشمركة في إقليم كردستان العراق الفريق جبار ياور، الذي قال إن عدم وجود “عقيدة قتالية” مشتركة بين عناصر الجيش العراقي الاتحادي كان المسبب الرئيسي لسقوط الموصل وانهيار الجيش وهروبه.
جاءت التعليمات من جهة مجهولة للغراوي وبقية القادة بالانسحاب، وترك الجنود بزّاتهم العسكرية وعتادهم وخوذهم في الشوارع وفرّوا. واستولى داعش على أموال البنوك في الموصل، التي قدر المكشوف عنها منها بنصف مليار دولار، وعلى أكثر من 2300 عربة هامر أميركية من الجيش، وعلى مئات الأطنان من الذخائر التي تركها الجيش خلفه.
وقام التنظيم بإعدام ما يقارب 3250 مدنيا من أهل الموصل خلال العام الأول من سيطرته عليها. وأعدم في العام التالي قرابة 880 مدنيا، وتسبّب بنزوح أكثر من نصف مليون إنسان منهم. وبقي ما يقارب المليون ونصف المليون موصلي رهائن لدى داعش في قلب المدينة. وبدأت الإبادة الجماعية بحق أيزيديي سنجار التي تتبع للموصل.
وبدءاً من فبراير العام الماضي 2015 طبق داعش حملة تدمير واسعة لأشهر المعالم الأثرية في الموصل، مستهدفا متحف المدينة. ودمر مدينة نمرود الأثرية الآشورية شرقاً، ومدينة الحضر التاريخية جنوب غرب الموصل، ومدينة خورسباد الأثرية شمال شرق الموصل. إضافة إلى تدمير مكتبة الموصل وقلعة تلعفر ومرقد النبي يونس وقلعة باشطابيا وبوابتي أدد والمشكى.
تحت “التحرير”
بقيت الموصل من صيف العام 2014 وحتى خريف هذا العام 2016 تحت احتلال تنظيم دموي وحشي، دون أن يسعى الجيش العراقي إلى تحريرها إلا بعد تكوين تحالف دولي كبير.
وفي تلك الأثناء امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت بالمقالات والخطب ومقاطع الفيديو التي تتهم أهل الموصل بالخيانة لأنهم لم يطردوا داعش، بعد أن تسلّمهم التنظيم الإرهابي منهكين عزلاً من كل سلاح من يد الحكومة العراقية.
واليوم يشنّ التحالف الدولي ومعه الجيش العراقي وقوات البيشمركة وميليشيات الحشد الشعبي الطائفية حرباً عنيفة لما أسموه “تحرير الموصل”، العملية التي كتبت عنها بعض الصحف في دول العالم من أن إيران بقيت قروناً طويلة تتحضّر لها. ولم يكن ليسهل عليها هذا لولا احتلالان تمهيديان؛ الأول أميركي في العام 2003، والثاني داعشي في العام 2014.
كان من بين أهل الموصل الرَفَّاء الموصلي، والرفاء تعني المطرّز أو الخياط. وكان من مدّاحي آل البيت المحبين البارعين، وهو من أطلق على الموصل اسم “الزهراء”، قبل أن يغادرها منفياً إلى حلب. وهناك قال عنها “سقى رُبى الموصلِ الزهراءِ من بلدٍ/ جودٌ من الغيث يحكي جودَ أهليها/ أرضٌ يحنّ إِليها من يفارقها/ ويحمدُ العيش فيها من يُدانيها”.
أبحاث أنثروبولوجية وتاريخية كثيرة ستجرى لإدراك ما الذي تعرّض إليه أهل الموصل، الذين احتفظوا رغم كل شيء بلهجتهم الخاصة، وأزيائهم وتراثهم الحاني الرقيق، فقد تكون هذه هي أيامه الأخيرة.
همجية داعش وأشباهه من أصحاب المشاريع الطائفية والعنصرية الغرائزية تردد رغبات آخرين لطالما حلموا بتدمير “مدنية” أهل الموصل. وكان دليلهم في هذا بضع كلمات تبعثرت هنا أو هناك في ذهنيات وكتب قديمة، “فلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة”، كما تقول التوراة. والآن لا أحد يشفق على أمّ الربيعين ولا على أهلها الأنقياء الباقين بين جدرانها الحجرية العتيقة.