واجهت تركيا في الأشهر الماضية أحداثا كبيرة كانت فيها بين الموت والحياة، بين الوحدة السياسية والتشرذم والحرب الأهلية، بين مواصلة مشروع النهضة الذي يقوده حزب العدالة والتنمية وبين تيه المغامرين والارهابيين.
والغريب أن ذلك حصل في لحظة استقرار داخلي متين دام أربعة عشر عاماً، أي منذ تسلم حزب العدالة والتنمية وظهور رجب طيب أردوغان على قمة السلطة السياسية في تركيا عام 2002، ولكن مفاجأة الانقلاب الدموي في 15 يوليو الماضي أيقظت الشعب التركي على ضخامة الخطر الذي كان يتهدده وهو يظن أنه في مأمن من الانقلابات العسكرية الداخلية، التي أرقت نفسية الشعب التركي في النصف الثاني من القرن الماضي كثيرا، فكان الانقلاب الدموي الفاشل نقطة فارقة في تفكير الشعب التركي، فرض عليه ان يقف في الشوارع نحو شهر كامل، وهو يسترجع خطورة ما حصل، وهو يستوعب صدمة ما حدث، ويستعد لمواجهة ما قد يحصل في المستقبل أيضاً.
هذه المشاعر الوطنية شاركت فيها الحكومة التركية أولاً، وانعكست عليها مسؤوليات كبيرة تجاه شعبها، وبالأخص أن الشراكة في الانقلاب الدموي جاءت من الأطراف التي ظنت الحكومة التركية انها صديقة لتركيا، إن لم تكن صديقة لحزب العدالة والتنمية وحكوماته، فعلى الأقل أن تكون صديقة للشعب التركي وحريصة على مستقبله، ولكن طرفي الانقلاب غدرا بتركيا شعبا وحكومة وليس بحزب العدالة والتنمية فقط، وأقصد بطرفي الانقلاب جماعة فتح الله غولن أولاً، والولايات المتحدة الأمريكية وبعض المخابرات الأوروبية ثانيا. وبناء على كل ذلك، فإن الحكومة التركية أصبحت مطالبة امام شعبها وأمام العالم أن تتخذ الإجراءات التي تجعل من تركيا دولة يقظة من اعداء الداخل والخارج معا، وفق الخطوات التالية:
1 ـ أن تعتمد على نفسها في كل المجالات الأمنية والعسكرية والمخابراتية وغيرها، فالعديد من المخابرات الدولية الصديقة كانت على علم بالانقلاب ولم تخبر تركيا بذلك.
2 ـ ألا تأمن بحليف لمجرد ادعائه الصداقة، بل لا بد أن يثبت ذلك عملياً.
3 ـ أن تؤمن تركيا بأن الصداقات الدولية بين الثابت والمتحول.
4 ـ أن تعمل لزيادة الدول الصديقة، وان تقلل الأعداء قدر المستطاع.
5 ـ أن تجعل من الديمقراطية سلاحا يحمي الشعب التركي.
حول هذه الأسس الخمسة وغيرها كانت مدارات حديث الساسة الأتراك في الأشهر الماضية بعد انقلاب يوليو الفاشل، فقد تحدث الرئيس التركي في مؤتمراته في اسطنبول قبل أيام قائلاً: «حلفاؤنا أخلفوا وعودهم، فهم وعدوا بعدم دخول حزب الاتحاد الديمقراطي في منبج، ولذلك تدخلنا في سوريا»، والحليف الذي يقصده أردوغان هو أمريكا، التي وعدت الحكومة التركية بخروج عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي من منبج بعد تحريرها من «داعش»، بل مغادرة غرب الفرات بالكامل، فقد كان ذلك وعدا مؤكدا من أمريكا لتركيا أيضاً، ولكن أمريكا لم تلتزم بهذه الاتفاق، ما اضطر الدولة التركية إلى دعم الجيش السوري الحر لتحرير مدنه وقراه من المحتلين، وبالأخص ان لديهم أطماع تغيير ديمغرافي في المنطقة، تدعمه امريكا وهي تعلم انه ضد مصالح تركيا، وضد أمنها القومي، ويحاول السناتور الأمريكي الجمهوري جون ماكين أن يكون أذكى من الحكومة التركية، ويقرر لها كيف تكون مصالحها، حيث أنه هو المخطط لوجود الكيان الكردي شمال سوريا، منذ زيارته لشمال سوريا 2012، واجتماعه مع قادة المعارضة السورية بمن فيهم قادة الأحزاب الارهابية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي وغيره، فهو يطالب تركيا اليوم بقبول تواجد حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته المسلحة شمال سوريا، وعدم اعتبارها خطرا على تركيا، أي أنه يطلب من الحكومة التركية أن تتنازل عن أمنها القومي وتتخلى عن حماية شعبها.
أما المثال الآخر فهو مطالبة إيران بواسطة العبادي أن تتخلى الحكومة التركية عن حماية امنها القومي على الحدود العراقية، فتساءل أردوغان في الرد على ذلك: «كيف لا تدخل تركيا الموصل، ولنا حدود 350 كم على حدود العراق قرب الموصل»، وسأل الإيرانيين والأمريكان:»هل دعاكم صدام قبل 14 عاما لاحتلال العراق»، وطالما لم يدعُكم وتدخلتم في العراق بادعاء امنكم القومي وأمن الشعب العراقي، فكيف لا يحق لتركيا حماية امنها القومي حتى لو دخلت الحرب، كذلك فإن تركيا ستشارك في عملية الموصل، وسوف تجلس إلى طاولة المباحثات بشأن الموصل دون انتظار احد ان يسمح لها بذلك، لأن الدولة التركية لم تعد تنتظر أن يسمح لها أحد بالتدخل أو عدمه، فهي صاحبة تقدير مصالحها وأمنها القومي وكيف تحمي شعبها وامتها، وقال أردوغان: «نحن في بعشيقة ولن نغادرها، وسنواصل عملياتنا ضد داعش، ونحن من درّب البيشمركة، ولو لم ندربهم لما وجدتم من يحارب داعش»، وقال:» حلفاؤنا يدربون الارهابيين في سوريا والعراق، ونحن ندرب من يحارب داعش، وهذه مفارقة كبيرة»، وأيضا فإن الحلفاء المقصودين هم الأمريكان والإيرانيون، فأمريكا وإيران تسمحان لحزب العمال الكردستاني ان يشارك في عملية تحرير الموصل، وتدعي الحكومة العراقية ألا سلطة لها على اقليم كردستان حيث يتواجد حزب العمال الكردستاني، وبالتالي تريد ان تقول بأن لا مسؤولية لها هناك، فهل لها تواجد في بعشيقة طوال سنتين؟ وهل استطاعت حمايتها من «داعش»؟
إن أخطر ما ترفضه الدولة التركية اليوم هو تورط الحكومة العراقية في حروب طائفية بين الشيعة والسنة، ولذلك قال أردوغان: «نحن لن نسمح بالصراع بين السنة والشيعة، فمن يتضامن مع الحشد الشعبي، لا يختلفون عمن يتحالفون مع «ب ي د» الارهابي»، وقال: «إن الاسلحة التي وجدت مع حزب الاتحاد الديمقراطي هي الأسلحة نفسها التي وجدت بيد داعش»، وبذلك يقدم أردوغان أدلة على أن أمريكا متورطة بتقديم الأسلحة لداعش كما تقدمها لحزب «ب ي د»، أي أن أمريكا في نظر الحكومة التركية دولة داعمة للإرهاب الذي يضرب تركيا، فكيف تقبل تركيا التحالف مع أمريكا وهي تعمل ضد الأمن القومي التركي؟ فضلاً عن شبهات تورطها في الانقلاب الفاشل في يوليو الماضي.
هذه الأحداث تفرض على الدولة التركية إعادة النظر بكل الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الحكومات السابقة، وبالأخص الاتفاقيات الدولية التي لها آثار سلبية على الدولة التركية، ومنها معاهدة لوزان، فالدول توقع الاتفاقيات الدولية التي تحفظ مصالحها وتؤمن حدودها الخارجية، ولذلك كان لا بد ان تتخذ الدولة التركية قرارا مهما بمهاجمة الارهابيين الذين يهاجمون تركيا، وضربهم في اوكارهم وقبل أن يتمكنوا من قتل أبناء الشعب التركي بكل قومياتهم، أي بانتقال الدولة التركية من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم، بغض النظر عن اسماء الإرهابيين واوصافهم ومذاهبهم، سواء كان تنظيما يدعي تمثيله للسنة أو تمثيله للشيعة او تمثيله للأكراد أو للأتراك أو غيرهم، فالشعب التركي اختار من يمثله سياسيا والدولة التركية بكل مكوناتها بما فيها الحكومة التركية المنتخبة مطالبة ان تحمي الشعب التركي دون انتظار إذن من أحد، فلن تنتظر الدولة التركية حلولاً خارجية لأزمة الإرهاب الذي يضرب داخل الأراضي التركية وخارجها، وستحاربه الدولة التركية داخلياً وتلاحقه خارجيا، سواء عبر حدود تركيا مع سوريا أو العراق أو غيرها.
هذا التغيير في السياسة التركية هو تعبير عن وجود دولة تركية جديدة، غير التي كانت قبل أشهر أو سنوات او عقود، فالدولة التركية اليوم متناغمة بين مؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية، ومتوافقة بين سلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولم تعد الحكومة التركية تخشى ردود أفعال المؤسسة العسكرية على سياساتها المختلفة، لأن قرار الدولة التركية تشارك فيه كل مؤسسات الدولة المدنية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية معاً، فمجلس الأمن القومي التركي الذي يترأس جلساته رئيس الجمهورية أردوغان، يشارك فيه رئيس الوزراء بن علي يلدرم ووزراء الخارجية والدفاع والداخلية وقيادة هيئة الأركان العسكرية والاستخبارات الوطنية التركية، وهذه الأجهزة تعمل بتنسيق تام، ولا تخشى مؤسسة منها ردود أفعال مؤسسة أخرى كما كان في السابق، أي أن القرار السياسي في تركيا أصبح موحدا أولاً، وواحداً ثانياً، وليس قرار حكومة فقط، وهذا تجسد في قرار فرض حالة الطوارئ بعد الانقلاب وتمديده لمدة ثلاثة أشهر اخرى، وكذلك تجسد في قرار «درع الفرات» في دعم الشعب السوري لحكم مدنه بنفسه شمال سوريا، وإقامة منطقة آمنة لنفسه، وكذلك ستتخذ الدولة التركية الموقف اللازم من معركة الموصل، فلن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية المراهنة على ضغوط الجنرالات على الحكومة السياسية في تركيا كما كان يحصل من قبل، ورئيس هيئة الأركان التركي الجنرال خلوصي آكار الذي لعب دورا بارزا في إفشال الانقلاب، قضى أياما طويلة في اجتماعات عسكرية في واشنطن الأسبوع الماضي للتفاهم التركي الأمريكي حول شمال سوريا ومعركة الموصل، وهو في هذا الأسبوع في اجتماعات عسكرية مهمة في موسكو، تلبية لدعوة روسية لعقد اجتماعات عسكرية مهمة، وتوقيع اتفاقيات تعاون عسكري بين تركيا وروسيا، أي أن الدولة التركية هي صاحبة السيادة في اتفاقياتها العسكرية مع الدول الكبرى، ولم تعد تتلقى الأوامر العسكرية من دولة واحدة ضد شعبها، ولا ضد دولة أخرى أيضاً.
محمد زاهد غول
صحيفة القدس العربي