مع دخول معركة الموصل أسبوعها الثالث، يتابع العالم أطوار هذه المعركة بنهم شديد، منذ أن انطلقت، في ترقب لنهاية وشيكة تنتظر تنظيم «الدولة الإسلامية» على يد القوات العراقية، التي يبدو أنها تتقدم سريعا نحو مركز المدينة، تحت حماية أسراب طيران التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
وفي خضم الأحداث الساخنة، المرتبطة بعملية تحرير الموصل، تظل أسئلة مؤرقة حول مستقبل الوضع العراقي، بعد طرد عناصر تنظيم «الدولة» من مدينة الموصل، ما يثير المخاوف من الاقتتال على المدينة بعد السيطرة التامة عليها.
تمثل عملية تحرير الموصل المرحلة الأسهل في طريق القضاء على تنظيم «الدولة»، بالنظر إلى حجم التحديات التي ستواجه الحكومة العراقية بعد المعركة. فقد بات طرد التنظيم من الموصل والرقة مطلبًا عاجلًا بالنسبة للإدارة الأمريكية، مذ أن توسع نشاط التنظيم بشكل مفزع في مختلف أنحاء العالم خلال عام 2016، الأمر الذي جعل واشنطن تركز جهودها في سبيل دحر التنظيم، دون أن يعني ذلك عودة قوات «المارينز» إلى حلبة الشرق الأوسط من جديد. لا غرابة أن جهود الإدارة الأمريكية تشكل عماد الحملة الحربية لتحرير الموصل من قبضة التنظيم، ليس فقط من خلال المقاتلات الجوية وطائرات «الدرونز» التي تجوب سماء العراق، ولكن أيضا بفضل مئات المستشارين الأمريكيين الذي يديرون العملية العسكرية على الأرض، بالإضافة إلى الأسلحة المتطورة التي زودت بها الجيش العراقي. لكن مركزية التحالف في نجاح الحملة العسكرية العراقية، سيف ذو حدين، فما الذي سيحدث لو تلاشى دعم التحالف بعد تحرير الموصل؟ هل ستكون إذن عملية الموصل مجرد انفراج مؤقت، ليعود التنظيم من جديد بعد مدة، كما فعل في سنة 2010، بعد أن دُحر في سنة 2007 على يد القوات الخاصة العراقية الأمريكية، وقوات الصحوات السنية المسلحة أمريكيًا؟ هناك من تسكنه هذه الهواجس في الولايات المتحدة، لكن الواضح أن أيام التنظيم في طريقه إلى النهاية وربما تستمر الحملة عليه حتى القضاء على وجوده الظاهر والعلني في كل من سورية والعراق.
تحرير الموصل والعراق لن ينهي وجود تنظيم «الدولة»، بل سيتحول الأخير إلى فروع أصولية تنشط في مناطق متفرقة، وربما يعود لتنظيم صفوفه مرة أخرى إذا ما سادت الفوضى مجددًا. وعلى الرغم من أنه سينتهي تنظيميًا، إلا أن فكرة إنجاز «الخلافة المنتظرة» التي أبدعها سوف تستمرّ في إلهام الهجمات بالعالم. وقد يرى كثير أن مسلحي التنظيم، ما هم إلا شرذمة من المتعصبين الهائجين المتلهفين لتفجير أنفسهم، إلا أنهم في الواقع يتمتعون بمهارات عالية وتنظيم يضاهي الجيوش التقليدية.
وأمام هذه الفعالية القتالية، يُستبعد ألا يكون الأعضاء الحاليون لم يفكروا في مستقبل التنظيم في مرحلة ما بعد تحرير الموصل، ومن المؤكد أنه في حالة خسارتهم الحرب في الموصل، سيتحولون إلى خلايا جهادية متفرقة، تنتظر الفرصة المناسبة للتكتل من جديد.
بعد دحر التنظيم من الموصل والرقة، من المتوقع أن يعود الآلاف من الجهاديين الأجانب إلى أوروبا، حيث موطن استقرارهم الأصلي، ثم سيحاول قسم منهم تنفيذ عمليات انتقامية في البلدان الأوروبية، فيما قسم آخر سيتجه إلى مناطق أخرى مضطربة كليبيا وسوريا. القضاء على التنظيم يحتاج «حلًا متأصلًا»، يقوم على شراكة أمنية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة الأمريكية بالاستعانة بقوات سنية، في ظل ضعف الإدارة العراقية على تأمين المدن السنية المحررة من العناصر الجهادية، كحل جذري لاجتثاث التنظيم من العراق. الإدارة الأمريكية تعي أن نشاط التنظيم لن يندثر بمجرد ضرب مراكز قوته في العراق وسوريا، فقد سبق لقائد قوات التحالف، شون ماكفارلن، أن أوضح كون الحملة العسكرية الجارية تهدف إلى استئصال التنظيم في الموصل والرقة، ثم محاربة الخلايا السرطانية الناشئة، الناتجة عنه حول العالم، وحماية الدول من الهجمات.
بعد رحيل الأمريكان نهاية 2011 اندلعت مباشرة مظاهرات عراقية ثائرة، تزامنًا مع عاصفة «الربيع العربي»، خرج فيها السُّنَّة الساخطون على سياسات نوري المالكي، الذين شعروا بالاضطهاد والتهميش، وتحولت الأجواء الاحتجاجية في المناطق السنية إلى بؤر مشحونة بالطائفية، واستغلت الخلايا السلفية والجهادية الفرصة للخروج إلى العلن، وتقمُّص دور المدافع عن السنة في وجه الشيعة. مع 2014، بدأ تنظيم «الدولة» توسعه في المناطق السنية بسرعة تثير الحيرة، دون أي صعوبات، لما لاقاه من حاضنة اجتماعية، وجدت في فكرة «الخلافة» التي جاء بها التنظيم حلمًا مثاليًا ومخلصًا من سياسات المالكي المهمّشة للسنة، قبل أن يُصدم العديد من الناس بما رأوا من وحشية التنظيم خلال المدة التي عاشوها تحت سيادته. وعلى الرغم من أن التنظيم فقد الكثير من الزخم والتأييد الذي كان يحظى به في المناطق السنية، لكن يظهر أنه البديل الوحيد أمام سنة العراق الذين يرون أن الشيعة يستفردون بالدولة، فالتنظيم بات الكيان السياسي السني الرئيسي في العراق في الوقت الراهن.
ليس من المتوقع من عملية تحرير الموصل أن تطفئ الغضب السني تجاه حكومة بغداد، ما ينذر بصراع سياسي مذهبي حول السلطة مباشرة بعد إجلاء التنظيم من الموصل، ولا سيما مع دعم السعودية وتركيا حلفاءها السنيين ودعم إيران حلفاءها الشيعة، وهو ما يخشى البعض أن يتطور إلى حرب طائفية جديدة بين السنة والشيعة، على غرار ما حدث في 2006. فقد يطالب السنة بحكم أنفسهم بعيدًا عن سلطة بغداد، إذ يحاول تحالف القوى السنيّ، تشكيل مجلس يتولّى القيادة في المحافظات ذات الغالبيّة السنيّة (الأنبار، نينوى، صلاح الدين، كركوك وديالى) بعد هزيمة التنظيم، وإعداد نظام داخليّ لهذا المجلس، وهو ما يوحي بالرغبة في تحقيق إقليم سني ذي حكم ذاتي، على غرار كردستان العراق، المشروع الذي يحظى بدعم السعودية وتركيا.
بالمقابل، لا تقبل الحكومة المركزية في بغداد، المحسوبة على الشيعة، أي مشروع انفصالي، خصوصًا إذا كان سنيًا، لما تراه تهديدًا لوجودها، كما أن فصائل الحشد الشعبي، الشيعية في الغالب، ترفض أن تكون «ماكينة إيجار» لتحرير المناطق السنية من تنظيم «الدولة» لتصبح في الأخير مستقلة بذاتها. أما بالنسبة للإدارة الأمريكية، فلا ترى أن تقسيم العراق يمكن أن يحل مشكلة العراق، بقدر ما يمكن أن يمهد مستقبلًا لحرب طائفية حدودية بين السنة والشيعة، وتطرح بدل ذلك مشروع الحكم الفيدرالي، كنظام سياسي يمنح الولايات الثلاث؛ مناطق الشيعة، ومناطق السنة، وكردستان العراق، صلاحيات سياسية واقتصادية واسعة تحت حكم دستور واحد.
لعل التحدي الأكبر الذي يواجه العراق بعد تحرير الموصل، هو بناء الدولة القادرة على إشعار كل العراقيين بالانتماء وتحقيق العيش المشترك بين الشيعة والسنة، والعودة إلى الانتماء الوطني بصرف النظر عن الولاءات المذهبية والعقدية.
هشام منور
صحيفة القدس العربي