عندما كتب جورج أورويل «1984»، لم يقدم مجرد رواية، بل نشر وعياً بأهمية الوعي الذي يكتسبه الإنسان بصعوبة عبر تجارب مؤلمة وفي ظل حصار يستهدف طمس هذا الوعي. فالعلاقة بين تحرر الإنسان ووعيه أكثر من وثيقة. ويرتبط تعبيد الطريق الصعبة إلى الحرية باكتساب الوعي وترسيخه ومقاومة محاولات طمسه.
وما الثورات الشعبية التحررية العفوية، التي لا يسبقها تدبير أو تنظيم، إلا نقطة البداية في طريق اكتساب الوعي تدريجاً عبر مسار متعرج يرتبط مداه الزمني بقدرة المجتمع على مقاومة المحاولات التي لا تتوقف لمسخ ما يكتسبه الناس فيه من وعي، كما لا تنتهي بتغيير نظم الحكم التي تتحكم بالمجتمعات وتستعبد الشعوب لقدرتها على مسخ وعي الغالبية فيها. فالقوى المضادة للثورات التي تُحدث تغييراً في هذه النظم تظل قادرة على التأثير في عملية اكتساب الوعي وعرقلتها وتعطيلها.
يساعدها في ذلك أن الوعي يبدأ جنينياً، يحتاج إلى بيئة ملائمة لكي ينمو وينضج. غير أن التناقض الذاتي في بنية هذه الثورات هو أن الوعي الذي يقترن بها يصطدم بالاضطراب المترتب عليها. ومن شأن هذا الاضطراب أن يُحدث التباساً يؤثر سلباً في عملية بناء الوعي ويطيل بالتالي أمدها.
ولعل هذا يفسر الفارق الذي يبدو مدهشاً بين حال المجتمعات التي حدثت فيها الثورات الآن، وما كانته قبل أربع سنوات. فلم يكن وهماً أو خيالاً ذاك الوعي الذي بدأ يولد في ثنايا هذه الثورات، وكانت بدايته كبيرة، وما أكثرها الأدلة على ذلك. يكفي أن هذا الوعي بلغ المبلغ الذي أتاح إدراك أن الطغيان والظلم والفساد وإهدار الكرامة الإنسانية هي موطن الداء. ولذلك اختفى الخطاب التقليدي الذي حمَّل الاستعمار والإمبريالية والصهيونية المسؤولية كاملة عن تدهور الأوضاع العربية، وكان جزءاً من أدوات طمس الوعي العام.
تحرر خطاب ثورات 2010 – 2011 وشعاراتها من الوعي الزائف الذي جعل القوى الخارجية سبب الداء الذي خلقته وكرَّسته سياسات أنظمة طاغية مستبدة فاسدة. وهذا دليل كاف على بداية وعي لا يتيسر لمسار تحرري، ثورياً كان أو إصلاحياً، أن يصل إلى غايته من دونه. فالوعي هو الذي يمكّن المجتمع من أن يصل بمسار التحرر إلى مبتغاه. ولذلك أعطاه عمانويل كانط اهتماماً خاصاً في كتابه الذي ستبقى قيمته على مر الزمن «رد على سؤال ما هو التنوير» الصادر عام 1784. فقد كتب قبل خمس سنوات فقط على اندلاع الثورة الفرنسية: «إذا كانت ثورة ما كافية لإنهاء اضطهاد يمارسه طاغية، فالمجتمع يتنور ويتحرر تدريجاً، وبشكل بطيء غالباً. فما لم يتعود الناس أن يفكروا بأنفسهم ولأنفسهم، سيبقون كالدمى في أيدي حكام جدد يحلون محل الطاغية المخلوع. لذلك فالمهم ترسيخ الحرية التي تُعد أكثر الحريات براءة، وهي حرية أن يعقل الإنسان الأمور في رأسه».
وهذه هي المعضلة الأكبر التي تواجه مساراً تحررياً عربياً مضطرباً انزلق غالباً إلى العنف بدرجات مختلفة، وصار في إمكان القوى المضادة له أن تجد في الإرهاب فرصة لطمس الوعي في بداياته. وعندما ينتشر العنف ويزداد خطر الإرهاب، يصبح الأمن مقدّما على ما عداه، وتتراجع الحرية إلى مرتبة متأخرة في أولويات المجتمع. وفي ظرف كهذا، يستعيد شعار من نوع «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» قوته، ويسعى أصحابه إلى توظيف المعركة ضد الإرهاب بطريقة مشابهة لتلك التي اتُبعت في استخدام المعركة ضد الصهيونية والاستعمار كذريعة لتقييد الحرية ووسيلة لطمس الوعي.
وتبدو حالة مصر، في الذكرى الرابعة لثورتها، بالغة الدلالة هنا. فالأصوات التي يعي أصحابها خطر توظيف المعركة ضد الإرهاب بهذه الطريقة خافتة، مع أنها ليست قليلة. لكن أصحاب هذه الأصوات يتركزون في أوساط الشباب الذي أُصيبت قطاعاته الأوعى بصدمة، وليس فقط بإحباط، نتيجة نجاح القوى المضادة لثورة 25 يناير في القفز على موجتها التي حدثت في 30 يونيو وتوجيهها في اتجاه معاكس للمسار التحرري.
وفي ظل الصدمة، وما يقترن بها من خروج مسار الفئات الأكثر وعياً وإيماناً بالمسار التحرري من المشهد العام موقتاً، تنشط آلة طمس الوعي وتعمل بلا هوادة مستغلة خطر العنف والإرهاب ومستثمرة الأخطاء الفادحة لقيادة جماعة «الإخوان» حين وصلت إلى السلطة واصطدمت بالجميع تقريباً. والمفارقة، هنا، أن الثورات التي حملت معها بشرى انحسار الإرهاب الذي أفقدته مبرر وجوده، وهو استحالة التغيير السلمي، صارت ضحية تناميه وتوظيفه من القوى المضادة لها بأشكال مختلفة ودرجات متباينة.
كانت اللحظة «الربيعية» الأولى مبشرة بانحصار الإرهاب حتى أن قيادة تنظيم «القاعدة» بدت مستسلمة في أوائل 2011 لواقع جديد. فقد استمدت حضورها من قدرتها على سلب ألباب شباب غاضبين ويائسين. وكان مفترضاً أن يقل استعداد هؤلاء الشباب للتفاعل مع تحريض «القاعدة» لهم بعدما صار التغيير السلمي مخرجاً من الإحباط والغضب. وازداد الاعتقاد بذلك عند مقتل أسامة بن لادن في أول مايو 2011. لذلك استخدم حازم صاغيّة تعبيراً بالغ الدلالة حينئذ، وهو أن بن لادن مات سياسياً قبل أن يُصفى جسدياً (الحياة، 3/1/2011).
غير أن الاضطراب الذي زاد عن حده في بداية المسار التحرري عطّل الأثر الذي كان متوقعاً أن يُحدثه باتجاه انحصار الإرهاب، الذي تنامى مجدداً وعلى نطاق أوسع نتيجة ما بدا من إحباط للمسار التحرري. كما أن سعي بعض القوى المضادة للثورات العربية إلى إنكار طابعها السلمي، وإمعانهم في تشويهها، ساهم، ولا يزال، في دفع بعض الشباب المُحبط نحو العنف. فينطوي هذا الموقف على إسقاط الخط الفاصل بين ثورة سلمية وعنف إرهابي، وبين الاحتجاج المدني والعمل المسلح.
ومع ذلك، لم يخرج مسار العلاقة بين طريق التحرر ومسار اكتساب الوعي هنا عن القواسم العامة للثورات الشعبية التحررية على مدى قرنين ونحو ربع قرن.
كانت معركة الوعي محورية في تاريخ هذه الثورات. وهي الآن كذلك في البلدان العربية التي بدأت مساراً تحررياً مضطرباً سيطول أمده. لذلك ينبغي الحذر في الحكم عليه مبَّكراً، لأنه يتعلق بعملية تاريخية طويلة المدى