قال الشاعر جون بيريمان ذات مرة: “يستطيع المرء أن يعيش حياته كلها في هذا البلد من دون أن يكتشف ما إذا كان جباناً”. وهذه بركة يجب أن نكون كلنا ممتنين لها. لكنها لعنة أيضاً، وهو ما قد يكون السبب في أن هذه الكلمات شكلت هاجساً دائماً لي. فأنا أمضي حياتي في كتابة كلمات لا يُحتمل أن تضعني تحت أي خطر حقيقي. فكيف لا أتساءل عما كنت سأفعل إذا تغير عالمي، بحيث تستطيع الكلمات أن تجلب الجبروت الكامل لقوة سياسية على رأسي؟ الآن، فجأة، لم يعد هذا سؤالاً عبثياً. ففي الليلة التي انتخب فيها دونالد ترامب، كتبت أن أقرب تشبيه لارتقائه سدة الرئاسة يتمثل في رواية فيليب روث الكابوسية “المؤامرة ضد أميركا”. والآن سوف نرى ما إذا كان الأسوأ سيذهب إلى أسوأ.
اليوم بطبيعة الحال، تشكل الاحتجاجات ضد ترامب تمريناً في الكارثية الليبرالية. قبل عدة أيام تلقيت رسالة بالبريد الإلكتروني من منظمة تدعى Refusefacism.org، والتي تدعو الأتباع إلى تطويق فندق ترامب الدولي في واشنطن. وأرعد المنظمون: “إننا نرفض القبول بأميركا فاشية”. ولو كانت المشكلة فادحة حتى من بعيد بقدر ما ادعوه، تطويق فندق لن يفعل الكثير لوقفها –كما لن يُسمح لهم، بالطبع، بتطويق الفندق في المقام الأول.
وأنا أيضاً تحمست في ذلك اليوم. ولدي ذكريات جميلة عن حضور تجمع “حشد من أجل السلام” في واشنطن في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1969. كان الجو بارداً ومربكاً ومليئاً بالشعور بالأحقية. ووجدت توصيلة للعودة إلى نيويورك مع سيدات يهوديات لطيفات مسنات من اتحاد الفراء.
إننا نشعر بأننا نعيش في أوقات قاتمة: لكن قتامة أوقاتنا حتى الآن منحتها بارقة من الأمل، مثل الإعصار الذي لم يقتل أحداً، لكنه جعلنا نجلس سوية على ضوء شمعدان في قاعة الرياضة في المدرسة الثانوية. لكن هذا الوقت ربما يكون مختلفا.
ربما تستطيع أن تستشعر، عندما نتحدث عن العام 1932، ليس بالخوف فقط، وإنما بالرغبة في شيء كبير ومهدِّد، شيء يدعونا إلى الوقوف والعمل، مهما كلف الأمر. وقد يلزمنا ترامب بشيء من هذا القبيل.
فما الذي قد يبدو عليه ذلك؟ لتكوين الحس الداخلي، أنت لا تحتاج إلى النظر أبعد من المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب في الأسبوع الماضي، حيث تسلى بمراسلي البيت الأبيض مثلما تلهو القطة بفأر محشور في زاوية. إن انتصار ترامب المتبجح وعادته في وصف إمبراطوريته التجارية والولايات المتحدة الأميركية ككيانات لها نفس الأهمية -إذا كان كذلك- أصبحت كلها قديمة في هذا الوقت. أما الأمر الذي كان مخيفاً في تلك المناسبة، فهي الطريقة التي جمع بها جمهوراً من الموظفين الشباب لتحيته فيما هو يستأسد على الصحافة، على سبيل المثال، عندما قال لسائل أن لا أحد باستثناء المراسلين أنفسهم يهتمون بعوائده الضريبية، بما “أنني كسبت” بعد كل شيء.
كنت قد دأبت على متابعة رودي غيولياني وهو يذل المراسلين ويعاقب المنتقدين عندما كان عمدة لمدينة نيويورك. وكان المشهد منفراً، لكنني أعدت التأكيد لنفسي بأن عمدة سلطوياً فقط هو الذي يستطيع إلحاق الكثير من الضرر. فالصراخ على الناس لا يشكل خطراً حقيقياً على الجمهورية. وعموماً، كان غيولياني تصغيرا لترامب وحسب. ويستطيع ترامب الذهاب إلى أبعد من هذا بكثير كثير في ملاحقة منتقديه، ليس فقط لأنه يتمتع بالنفوذ الاستثنائي الذي توفره الرئاسة، وإنما لأن لديه الولع والموهبة لتحويل حشد من الناس إلى رعاع. كان أولئك الضاحكون والمصفقون والمساعدون الشباب الساخرون في المؤتمر الصحفي ممثلين لترامب عن الشعب الأميركي.
كشف ترامب عن تلك الموهبة القاتمة حتى في أكثر اللحظات جدية، خطاب التنصيب. فبعد أن ذكًر السناتور روي بلنت (جمهوري-ولاية ميزوري) الجمهور بالعبارة الأكثر أهمية في خطاب تنصيب أبراهام لينكولن في العام 1865 -“بلا حقد على أحد، ومع الإحسان للجميع”- عرض ترامب كأساً مزبداً من الحقد. فأعلن أنها لن تستطيع “أي مجموعة صغيرة في عاصمة دولتنا أن تسرق ثروتنا، ولن تعاني الطبقة الوسطى من -سلب ونهب البلدان الأخرى- التي أخذت وظائفنا”. وصرخ ترامب في النقطة العالية من خطابه قائلاً: “اعتباراً من هذا اليوم فصاعداً، ستكون أميركا أولاً! أميركا أولاً!” والويل لك يا من تقف في طريق أميركا.
ليس كافياً ، بالطبع، بالنسبة للرئيس ترامب أن يزدري الحريات النفيسة. فقائد الرعاع لا شيء من دون الرعاع. ولم يكن جو مكارثي ليصبح أكثر من شخص ثمل جهوري الصوت، لولا جمهور مفترس يبحث عن أماكن اختفاء الشيوعيين. وفي عالم روث الروائي، ذهب الرئيس تشارل ليندبيرغ ليصطاد اليهود. ولم تصل الولايات المتحدة إلى أي مرحلة من هذا القبيل من الغضب العام: الازدراء الموجه للنخب الليبرالية التي التي أذكى نارها ترامب بعيد جداً عن فعل الإيمان المكارثي. لكننا لم نزل بعد في الأيامال مبكرة. فترامب لم يعان بعد من رد فعل يضرب الأنا المتضخمة وسريعة الانفعال لديه. كما أنه لم يواجه بعد جسماً من الحقائق التي لا يرغب فيها أو يقول بتغريدها. لكن ذلك سوف يحدث. وسوف يظلم مزاجه: وسيؤيد المتوددون له هوسه الجنوني؛ وسيلاحق أعداءه بشيء أكثر من الكلمات. أو ربما سوف يقترح على أتباعه غير المتسامحين أن الوقت قد حان بالنسبة إليهم لاستخدام شيء أكثر من الكلمات ضد أولئك الذين يقفون في طريق خطته لأميركا.
عندما أتخيل السيناريو الذي ستقف بموجبه النخب المدللة وتحتج، فإني لا استشرف أفراد شرطة يخرجون من عربة دورية ويطوقون المنشقين. ولا أعتقد تحت أي ظرف أن باستطاعة ترامب أن يحيل أميركا إلى دولة بوليسية مثل تركيا أو مصر. بل إنني اتخيل المواطنين الأميركيين وهم ينقلبون على الناس الذين قيل لهم أنهم يأنفون قيمهم والأمة نفسها. أتخيل واحدة من تجمعات حملة ترامب، والتي شجع خلالها مؤيديه على ضرب المضايقين بالأسئلة والتحديات وقد تحولت إلى أداة للحوكمة. أم هل هي حالة هجران القرن العشرين حتى نقلق بخصوص” الحشد”؟ ربما يجلس أتباع ترامب في غرف نومهم ويفيضوا على أعدائهم بتهديدات على الموقع الألكتروني، بالطريقة التي يحصلون من خلالها على مذنب مثل مطعم البيتزا في واشنطن الذي زُعم أنه يستضيف حلقة لمحبي ممارسة الجنس مع الأطفال. وربما يعمد المزيد من الناس إلى ترجمة تلك التهديدات إلى أفعال.
إنني لا أرى أنه من المستحيل تماماً توقع لحظة يجلب فيها الانتقاد ثمناً لا يمكن دفعه مقدماً بشكل معقول. متى ما توقف الناس عن الاعتقاد بقدسية الرأي ومتى ما اقتنعوا بأن ثمة فئة شاسعة وغامضة مثل “النخب” تحتفظ بوجهات نظر ليست خاطئة وحسب، وإنما خيانية.
سوف يحتاج ترامب، مثل مثاله فلاديمير بوتين، إلى تعليق لامع لوسم عدو حتى تتم مطاردته. وتستطيع “ريتبايت نيوز” أن تقوم بالعمل الصعب المتمثل في تحويل تغريدة إلى سرد خيانة. وإذا حدث شيء رهيب؟ لن يكون خطأ الرئيس ترامب أو بريتبارت بالطبع. عندها ستأتي الشجاعة بثمن، وربما نتوق إلى الأيام التي كنت تستطيع خلالها العيش كل حياتك من دون أن تدرك أنك جبان.
هل أعتقد بأن هذا سيحدث؟ كلا، لا اعتقد. أعتقد بأن ترامب سيفشل في جبهة بعد الأخرى وسيتراجع بثبات في استطلاعات الراي العام، وسيفقد قدرته على إملاء الإجراءات في الكونغرس بتغريدة، ويذهب إلى حالة من التجهم الكبير. أو بالأحرى، هذا هو ما آمله. ولكن، إذا كانت هذه الانتخابات قد علمتني شيئاً، فهو أن لا أثق بما آمله.
جيمس تراوب
صحيفة الغد