تريثتُ كثيراً قبل أن أنسجَ كلماتي لما صدر عن منظمة العفو الدولية لتوثيقاتٍ وشهاداتِ ثلاثة عشر ألف سوري من أبناء بلدي سورية الذين تمّ سلخُهم بشتّى أنواع الطرق المحدثة لوسائلِ تعذيب، ما كنا نسمع بها إلا في العصر القديم من بداية البشرية.
لم أجد في قواميس اللغة العربية مفرداتٍ مناسبة تعبّر عن هول الصور التي تَقشَعِرُ لها الأبدان، ويندى لها الجبين، فمن غير المنطقي أن يكون ما نتحدّث عنه ينطبق على مفهوم الإنسانية في العصر الحديث، فكيف يمكنُ فهمِ تطوّر نسق العلم والوصول إلى تصحيح مساره من نظريات تمّ إسقاطها، وأخرى تمّ التعديل عليها بأبحاث علمية وتجارب استطاع من خلالها الإنسان أن يسيطر على كامل مظاهر الطبيعة ويُخضعها لخدمة البشرية، لتحقّق له رغد العيش الكريم، كيف ذلك يحدث، وبالمسار الصاعد المتطوّر نفسه، يوازيه مسارٌ هابطٌ ينقاد إلى هلاك البشرية من طغاة الأرض القاتلة لكل مفاهيم الإنسانية والساعية إلى جرّ البشرية نحو عبودية محدثة.
توّقفت كثيراً عند الشهادات التي حصلت عليها منظمة العفو الدولية ممن كُتب لهم النجاة من المسلخ اللا إنساني، ذاك المكان الظلامي المخصّص للذبيحة التي يتم ترويضها قبل تحديد موعد إعداد الوليمة.
كنّا ننام فوق أناس يختنقون حتى الموت، هي إحدى الشهادات الموّثقة في تقرير “العفو الدولية”، وأخرى تتحدث عن صوت العظام، وهم مساقون فرادى وجماعات لمنصة الموت الحتمي، فلا فرق عندي بين الأسد المنقّض على فريسته وهذا المشهد والجلاد يتلذّذ بسماع الأصوات الصادرة عن تلك الأرواح المحرّرة من أسوار سجن جُهٍزَ بأجنحة ثلاثية، تَخيّلُ للناظر لها أنّها مقصات حادة، ما إن تدور بنقطة مركزها الوسطي، حتى تدور معها عجلةُ الموت، لتزهق كل من يعترض رياحها.
لا نتكلم، هنا، عن رواية خيالية مبتكرة لنيل جائرة أفضل روائي جسّد حكايته بفلم سينمائي قصير، ما إن عُرض على شاشات مستطيلة، حتى صفقت له الجماهير الحاضرة، لشدّة تأثرهم بالألم، فربما هنا تكون مقدار الجائزة بحجم ما استحوذ على الناظرين إليه شعور التلذّذ بالتعذيب والمعاناة والألم، وما أن ينتهي دور الجمهور ليأتي دور التقييم من لجنة متخصّصة وباحثة ومبتكرة للأساليب الحديثة لصناعة الموت، وربما تضع ملاحظاتها الإيجابية والسلبية عن الطُرق المستخدمة والمستنبطة لتوليد الألم والأدوات القاتلة التي تخلق شعور الألم داخل الأحشاء الأكثر استشعاراً للألم.
سورية محاطة بكلّ مدنها بشبكة مبرمجة من سجون موزعة بين المدن والأرياف، فسجن صيدنايا هو الأقل وطأة من باقي السجون المتأهبة دوماً لتنفيذ الاعتقالات، وكأنّهم كلابٌ مفترسة، أطلقوا لإشباعِ غرائزهم الحيوانية من حب القتل التعسفي والإبادة الجماعية، فمن كان يصدّق أننا، نحن الشعب السوري، نعيش وسط هذا الموت أربعة عقود ويزيد.
الشعوب الغربية، وإن اصطدمت اليوم بواقعنا المعاصر، إلا أنّنا نحن، أبناء القضية، سنبقى نعوّل على ضمائرهم ونوّجه خطابنا لهم حتى يدركوا أنّ نظامنا المجرم ما كان ليبقى يوما واحدا في سدّة الحكم، لولا رؤساء دولهم الذين يكذبون عليهم بأنّهم حمائم السلام ورعاة الديمقراطية، هذه الخدعة التي تمّ تخديرهم بها منأنظمتهم المستبدة الراعية للأسد الأب والابن في دمشق.
نقول لهم إن كنتم لا تعلمون ما يفعله نظام الأسد بحق أبناء شعبه من قتل وتعذيب، فإنّ الساسة عندكم يعلمون حتى دبيب النمل في بلدنا المدمر، بل ويدعموه ويحموه ويمدوه ويدفعوه لسفك مزيد من الدماء، وما صدر عن سجن صيدنايا غيض عن فيض.
هناك آلاف التقارير التي وثّقها أبناء الشعب السوري عن جرائم أفظع ارتكبها نظام الأسد، ليس تحت الأرض فقط، وإنما فوق الأرض على مدار ست سنوات، وتمّ نقلها بشكل مباشر عبر شاشات التلفاز.
سنبقى نوثق ونكتب، حتى يحق الحق ويزهق الباطل ويحاكم المجرمون الذين عاثوا في الأرض فساداً وخراباً وتدميراً، سنبقى نخاطب ضمائركم ونحن واثقون أنّكم ستصحون يوماً ما.
يمان دابقي
صحيفة العربي الجديد