كان مطعم “سيدتي الجميلة” يشهد تجارة رائجة عندما دخل المفجر الانتحاري إلى الواجهة المفتوحة من المطعم، والتي تجاور دواراً نشطاً في شرق الموصل، وقام بتفجير المتفجرات التي كان يلفها حول خاصرته. واجتاح التفجير الداخل المسامي للمطعم، وأفضى إلى مقتل الموظفين والزبائن الذين كانوا يستمتعون بوجبة غداء من الكباب والسلطة والحساء في واحد من أشهر مطاعم المدينة.
وكان مالكو المطعم قد أعادوا افتتاحه بتحدّ بعد طرد ما يدعى “داعش” من الضفة الشرقية لنهر دجلة الذي يقسم المدينة إلى شطرين، ويشكل الآن الحاجز الطبيعي ضد الجهاديين. ولأن له سمعة تقديم الطعام الشهي الجيد، ولكونه يشغل موقعاً رئيسياً في ضاحية الزهور المكتظة، أصبح المطعم يتمتع بشعبية لدى المواطنين المحليين وأفراد القوات الأمنية على حد سواء، ويجتذب في العملية أيضاً انتباه النوعيات الخطأ.
يقول محمد، نجل أحد مالكي المطعم: “تم استهداف المطعم لأن الحياة كانت تعود إلى الموصل. هذا المطعم هو مركز ضاحية الزهور، والزهور هي مركز شرق الموصل”.
وكاد محمد، البالغ من العمر 22 عاماً، والذي يرتدي سترة حديثة من الجلد وله لحية مشذبة، على حافة البكاء وهو يروي كيف أن شقيقه الأصغر سناً وعمه وابن عمه كانوا من بين الأشخاص العشرة الذين قضوا بسبب الهجوم على المطعم يوم 10 شباط (فبراير). وكان عمه الحاج ناصر واحداً من الإخوة الثلاثة الذين يديرون المطعم، وهو شخصية معروفة جيداً في الموصل وخارجها.
عندما شاع نبأ وفاته، بدأت التعازي بالتدفق، ليس من المدينة وحسب وإنما من كل أنحاء العراق -وحتى من عراقيين يعيشون في أوروبا. ويشعر الموصليون بالرعب -ليس بسبب مقتله وحسب، وإنما أيضاً بسبب تهديد الإرهاب الذي ما يزال حياً في الجزء المحرر من المدينة، حتى مع بدء الهجوم الرئيسي الذي شرعت الحكومة بشنه لاستعادة الجزء الغربي من المدينة.
لم يكن الهجوم على المطعم هو الأول من نوعه الذي يقع في الجزء الذي تسيطر عليه الحكومة من الموصل، نظراً لأن “داعش” يحاول منع عودة الحياة الطبيعية إلى أي جزء من المدينة، بينما تثير هذه الهجمات تساؤلات عن المدة الزمنية التي ستستغرقها المدينة ككل حتى تعود تحت السيطرة، حتى لو استطاع الهجوم المضاد الراهن طرد مقاتلي “داعش” المنغرسين غرساً على الجانب الغربي من نهر دجلة.
في كانون الأول (ديسمبر)، قتل تفجير وقع في ثلاث سيارات مفخخة ذكر أنها كانت متخفية على شكل موكب جنائزي 23 مدنياً في الجزء المكتظ من إحدى ضواحي الموصل. ومن الجانب الآخر من النهر، يستهدف المتمردون شرق الموصل بقنابل الهاون والطائرات المسيرة من دون طيار، التي تسقط القنابل اليدوية على مجموعات من المدنيين، وحتى على المدارس التي أعادت فتح أبوابها.
كانت الأعمال العدائية على الضفة الشرقية للنهر قد توقفت في الشهر الماضي، بعد أن طهرت القوات العراقية الخاصة المنطقة من المتمردين بعد أربعة أشهر من القتال. ولكن، وكما أظهرت التفجيرات، لم يكن الجيش قادراً على القضاء على التهديد الجهادي الذي تجسده في الوقت الراهن خلايا “داعش” النائمة.
مع إعادة انتشار قوات النخبة في مكافحة الإرهاب لشن الهجوم على غرب الموصل، يسيطر حالياً على الشرق خليط من وحدات الجيش ومجموعات المليشيات والشرطة الفيدرالية والمحلية. وقد عهد بمهمة استئصال خلايا “داعش” إلى الشرطة المحلية في نينوى وجهاز الأمن الوطني وجهاز المخابرات.
يقود رجال الشرطة في نينوى الذين يشهرون بنادق “كلاشنيكوف” والذين يرتدون بذلات فوتيك قتالية سيارات “بك أب” أميركية الصنع، تعلوها رشاشات ثقيلة في دوريات في الضواحي المتوترة في شرق الموصل، مبحرين بعرباتهم فوق الحفر التي أحدثتها القنابل ووسط المنازل المنهارة حيث يقيمون نقاط التفتيش.
بالنسبة لقوة الشرطة هذه، والتي سميت على اسم المحافظة التي تحيط بالموصل، فإن توفير الأمن لسكان المدينة يشكل مهمة كبيرة جداً. ويعود هذا في جزء منه إلى أن “داعش” كان قد أجرى عملية تجييش واسعة النطاق خلال فترة حكمه للمدينة، والتي طاولت العامين ونصف العام.
يقول العقيد إسلام محمود من جهاز الأمن الوطني: “ثمة خلايا في الموصل الآن أكثر بكثير مقارنة مع ما قبل الاحتلال. وعندما شاهد الناس سقوط الكثير من أجزاء البلد في يد داعش، اعتقدوا أن الحكومة لن تتمكن من استعادة سيطرتها أبداً، فانضموا إلى الدولة الإسلامية”.
وعندما ارتفعت أعداد “داعش”، تفككت قوة الشرطة. وبدأ الإرهابيون حملة إفناء بعد اجتياح المدينة في العام 2014. ويعتقد أن آلافاً من رجال الشرطة وأفراد الأمن قتلوا بعد اصطيادهم من جانب المجموعة الإرهابية المنتصرة. ودفنت الجثث في قبور جماعية خارج المدينة.
ويقول زياد طارق، الشرطي البالغ من العمر 27 عاماً والذي فقد بصره بسبب قنبلة على قارعة الطريق قبل أن يستولي “داعش” على الموصل في العام 2014، والذي تم تعذيبه وأمره سادة المدينة الجدد بالإعراب عن الندم لانخراطه في القوات الأمنية، يقول أن “داعش” أخذ كل رجال الشرطة وأفراد الجيش الذين استطاعوا العثور عليهم وقتلوهم. وقد قتلت غالبية الشرطة. وخوفاً على حياته، توارى زياد عن الأنظار. ومع الوقت عرف عن وفاة العديد من أصدقائه في الشرطة.
قبل قدوم “داعش”، كان عدد أفراد الشرطة في الموصل 28.000 رجل، وفق العقيد عدي صابر الذي هرب من المدينة وتوجه إلى منطقة كردستان العراقية ذات الحكم شبه الذاتي، والذي حاربت وحدة الشرطة التي كان فيها مع الجيش عندما تركت المدينة للخلافة في العامين الماضيين. وهناك راهناً 6.000 رجل فقط في صفوف شرطة نينوى وفق العقيد صابر. ويقول: “هناك العديد من الرجال الذين ليست لدينا معلومات عنهم، ولا نعرف إن كانوا أحياء أو أمواتاً”.
لكنهم لم يقتلوا كلهم. وهناك رجال الشرطة وبعض الجنود الذين استطاعوا الهرب من الموصل في العام 2014، والذين يتلقون التدريب حالياً على يد الجيشين الأسترالي والآسباني في معسكرات ببغداد والكوت وديالى. وقد أنهت دفعة أولى قوامها 1.700 رجل دورة تدريبية مدتها خمسة أسابيع في بغداد، وهي على وشك الانتشار في الموصل.
في مدينة حيث كانت الانقسامات الطائفية تتفاقم في الماضي بسبب السلوك البائس لقوات الأمن، يشكل تعزيز الشرطة المحلية خطوة حكيمة.
كانت فرق الجيش العراقي التي المتمركزة في الموصل قبل استيلاء “داعش” على المدينة مكروهة كثيراً من جانب السكان المحليين. وكان يشار إليها بسخرية على أنها “جيش المالكي”، والتي أصبحت القوة الشيعية الرئيسية المرادفة للتمييز ضد الأقلية السنية في المدينة من جانب الحكومة برئاسة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي. وساعدت حالات المعاناة هذه في تمكين “داعش” من التغلب على الجيش العراقي الذي كانت قوته تعادل خمسة أضعاف قوة “داعش” وطرده من المدينة ذات الأغلبية السنية.
وترتبط بالمليشيات الشيعية التي تحتفظ بالأرض في المناطق المحررة من شرق الموصل سمعة مزدوجة، فهي متهمة بارتكاب إساءات خطيرة لحقوق الإنسان ضد المدنيين السنة عملياً في كل حملة شاركت فيها.
ويقول العقيد صابر: “من المهم أن يكون رجال الشرطة من الموصل”. ويضيف: “قبل داعش كانت هناك العديد من القضايا بين القوات الأمنية العراقية وبين الناس. كان سقوط الموصل بسبب قضايا سياسية أكثر منه بسبب قضايا عسكرية”.
وكان العقيد قد عاد إلى الموصل فقط قبل أيام وهو يبذل قصارى جهوده لاستعادة القانون والنظام -وفوق كل شيء آخر، الأمن. وقد أنشأ رجاله نقطة تفتيش عند معرض تجاري نشيط حيث ينتقون عربات “البك أب” لإجراء تفتيش أدق عليها. وفي شارع جانبي مغلق بشاحنة صغيرة مركونة على الطريق، صادرت الوحدة منزلاً مهجوراً. وكانت البناية الفارغة وفيها أثاث رخيص الثمن وحديقة غير أنيقة محتلة لمقاتلي “داعش” قبل التحرير.
وفي الفناء، ثمة رجلان راكعان وقد عصبت أعينهما وقيدت أيدهما. وقد اعتقلا للشك في أنهما ينتميان إلى “داعش”، وهما ينتظران التحقيق معهما.
لتنظيم “داعش” وأسلافه جذور عميقة في الموصل، حيث كانوا يديرون شبكة إرهابية وكانوا يجنون ملايين الدولارات شهرياً ويغتالون المعارضين قبل طويل وقت من أن قيام “داعش” بطرد الجيش من المدينة.
ولكن، بعد سنتين من الحكم الإسلاموي البربري، تآكل دعم المجموعة في الوقت الذي يهب فيه الكثير من المواطنين المحليين لمساعدة الشرطة. ويقول العقيد صابر: “أصبح الجهاديون نشيطين في العام 2004. وكان من الصعب القضاء عليهم. لكن الوضع الآن مختلف لأننا نتلقى معلومات من الناس”.
في طريق سكني مطوق بأسوار ضد التفجير في منطقة نور، أسست الشرطة مقراً مناطقياً في شرق الموصل. وفي الطابق الأول من منزل حديث، هناك غرفة عمليات مزودة بطاولات موزعة فيها. وثمة ألواح بيضاء مثبتة على الجدران إلى جانب علم عراقي وبندقية كلاشنيكوف قديمة. وتعج الألواح بالأعمدة التي تفصل قوة الوحدة وإمدادات الذخائر.
يجلس ضابط على الطاولة في انتظار جهازي هاتف متنقل للشروع في الاتصال. ولم يكن يترتب عليه الانتظار طويلاً. فعلى مدار اليوم يتصل الموصليون برقم ساخن يبث على ترددات التلفزيون العراقي للإبلاغ عن خلايا نائمة لـ”داعش” في شرق الموصل. وتعمل وحدة الاستخبارات والشرطة معاً لجمع هذه المعلومات، حيث يتم تدوينها في دفاتر ثم تدخل إلى الحاسوب الموجود في زاوية الغرفة.
ويقول العقيد إبراهيم، ضابط الشرطة المخضرم من قوة الشرطة في نينوى: “إننا نتلقى المزيد من المعلومات عن خلايا داعش الآن مقارنة بما كنا نتلقاه قبل سقوط المدينة، لأن داعش كان وحشياً جداً ولأن الوضع في المدينة كان سيئاً جداً عندما كانوا يمسكون بزمام الأمور”.
يتلقى الضباط الآن ما يصل إلى 200 مكالمة في اليوم الواحد، كما يقولون. وخلف أبواب موصدة، يقر ضباط أمنيون بأن أحد الأسباب التي لا يستطيعون معها مواكبة هذا الحجم هو أن مرافق الاعتقال في الممدينة مليئة حتى الحافة، وأن عليهم الانتظار حتى يتم نقل المشتبه بهم إلى مرفق اعتقال أكبر في بلدة القيارة المجاورة.
خوفاً من الانتقام، ما يزال العديد من الناس في شرق الموصل خائفين من التحدث عن “داعش”. وبالنسبة للبعض، يعود السبب إلى أن الشرطة قليلة العدد ليست قوية بما فيه الكفاية.
يقول محمد، الذي يظهر الغضب في عينيه وهو يمسح بناظريه المداخل المسودة لمطعمه الذي التهمته النار: “الشرطة تعتقل داعش، لكنهم يطلقون سراحهم بعد يومين لأنه لا يوجد لديهم أي دليل على أنهم ارتكبوا جريمة. والناس يخافون من إبلاغهم عن الخلايا النائمة لأنهم يخشون من التعرض للقتل بسبب إبلاغهم”.
فلوريان نيوهوف
صحيفة الغد