صفق الكثيرون وهللوا وطبلوا داخل الولايات المتحدة وخارجها للضربة الصاروخية التي أمر بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قاعدة الشعيرات الجوية جنوب مدينة إدلب السورية، صباح يوم السبت الماضي بتوقيت سوريا.
وقد برر الرئيس الأمريكي هذه الضربة بأنها رد على استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي في خان شيخون قرب إدلب في 4 أبريل. بدأ الكثيرون يعيدون حساباتهم السلبية من الرئيس ترامب، ويردون له الاعتبار ويصفونه بالحزم بعكس سلفه أوباما، الذي اتهمه الكثيرون وأولهم ترامب بالضعف والتردد. وسأناقش في هذا المقال ردود فعل الرئيسين أوباما وترامب وكيف تصرف أوباما حيال الهجوم الكيميائي على الغوطة الشرقية يوم 21 أغسطس 2013 مقارنة بما قام به ترامب ردا على الهجوم الأخيرعلى خان شيخون، لنرى بطلان تلك المقولة ونتأكد أن ما قام به أوباما أعمق وأخطر وأبقى لإسرائيل على المدى البعيد.
استخدام السلاح الكيميائي في النزاع السوري
منذ أن تحولت الثورة السورية إلى نزاع مسلح، كانت الولايات المتحدة وحليفتها الأولى إسرائيل قلقتين على ترسانة الأسلحة الكيميائية في سوريا. وكان السؤال المرعب ماذا لو سقط النظام فجأة وعمت الفوضى البلاد ووقع السلاح الكيميائي في أيدي الجماعات المتطرفة أو حزب الله. وذكرت تقارير لاحقة أن الولايات المتحدة وضعت خطة سرية بالتشاور مع إسرائيل وبعض دول الجوار لإرسال الفرقتين المحمولتين جوا 101 و82 للتدخل السريع في سوريا في حال انهيار الدولة، لتأمين تلك الأسلحة وضمان عدم تسربها إلى أيدي الجماعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» أو حزب الله. وقد تضمنت الخطة جزءا يتعلق بتدمير الدفاعات الجوية السورية، وإرسال أعداد كبيرة من الجنود إلى المواقع العديدة المنتشرة فيها مخازن الأسلحة الكيميائية التي تزيد عن 20 موقعا، والتحضير لاستخدام قنابل خارقة للتحصينات تنفذ لمسافة 35 مترا في الإسمنت المسلح. وقد كان هذا القلق مبنيا على احتمالات أن تكون هناك مواقع غير مكشوفة، واحتمال أن تكون هناك مقاومة شرسة، لأن المعتدي أجنبي، واحتمال أن تسيطر الجماعات المسلحة على مناطق فيها مستودعات أسلحة كيميائية، وبالتالي يمكن أن تستخدمها ضد قوات النظام أو المدنيين في مناطق يسيطر عليها النظام.
وحسب مصادر صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية فقد طلبت الولايات المتحدة رسميا من إسرائيل عدم قصف مخازن الأسلحة الكيميائية السورية، لما في ذلك من تداعيات خطيرة على المدنيين من جهة وإعطاء النظام السوري شرعية بطولية، تجعل الشعب السوري يلتف حوله لأنه في معركة مصيرية مع العدو التاريخي لسوريا. وتؤكد مصادر استخباراتية نقلتها الصحيفة وغيرها، أن سوريا مع تفاقم النزاع عام 2012 اتصلت بالعراق وإيران، وتم بحث تأمين مخزونات الأسلحة الكيميائية بنقلها إلى إيران عبر العراق، خوفا من سقوط بعض المناطق في أيدي المعارضات. كما رفض الأسد عرضا روسيا بتخزينها في القاعدة البحرية الروسية في طرطوس.
وحسب وثائق الأمم المتحدة استخدم السلاح الكيميائي في النزاع السوري لأول مرة في خان العسل في منطقة حلب بتاريخ 19 مارس 2013، تلاه هجوم في 13 أبريل في الشيخ مقصود في حلب، وهجوم آخر في منطقة سراقب بإدلب في 29 أبريل 2013. ومنذ تلك الحوادث الثلاث تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن الأسلحة الكيميائية استخدمت في النزاع نحو 27 مرة، كان أهمها على الإطلاق ما حدث في الغوطة 2013 وما حدث في خان شيخون 2017.
هجوم الغوطة
طلبت الحكومة السورية من الأمم المتحدة التحقيق في حادثة خان العسل، لكن الأمم المتحدة أصرت على التحقيق في الهجمات الثلاث المذكورة أعلاه. وصلت اللجنة دمشق يوم 18 أغسطس بهذه المهمة المحددة. في 21 أغسطس، أي بعد وصول اللجنة بثلاثة أيام، وأثناء وجود اللجنة في فندق «الفصول الأربعة» في دمشق، حدث إطلاق قذائف محملة بالأسلحة الكيميائية الحاملة لكميات كبيرة من غاز السيرين على منطقة الغوطة بريف دمشق. وقد وصف الهجوم بأنه مخطط له وجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، إذ سقط على أثره نحو 1400 شخص، من بينهم مئات الأطفال حسب التقارير التي اعتمدتها الأمم المتحدة. وكما هو الأمر في كل الحروب يوجه كل طرف اللوم لخصمه. فقد حملت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة دون تحقيق مسؤولية الحادث للنظام السوري، متعللة بأن كميات الذخيرة المستخدمة ونوعيتها والمسافة التي أطلقت منها ونظام القذائف المستخدمة تشير إلى النظام. لقد أثار الهجوم استياء دوليا عارما، وشكل تحديا للرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي كان قد أطلق مقولة «استخدام السلاح الكيميائي خط أحمر»، فهل سينفذ أوباما ما ألزم نفسه به ويقوم بتحرك عسكري قوي لردع نظام بشار الأسد الذي في رأيه «تجاوز الخط الأحمر».
أعد الرئيس أوباما الرأي العام الأمريكي لهجوم على سوريا لمعاقبة بشار الأسد، وأخذ تفويضا من الكونغرس، وكانت كل المؤشرات تشير إلى أن الضربة العسكرية مقبلة، إلى أن التقى أوباما بالرئيس الروسي بوتين على هامش قمة العشرين يوم 6 سبتمبر، وتوصلا إلى حل سياسي شامل يضمن انصياع النظام السوري الكامل لتدمير كافة مخزوناته من الأسلحة الكيميائية، وتفكيك المختبرات وتدمير المعامل بشكل شامل، وعلى سوريا أن تنضم إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية كشرط مسبق. وقد أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم، فورا قبول النظام بالشروط يوم 9 سبتمبر. بعد تلك الموافقة على كل هذه الشروط القاسية اعتمد مجلس الأمن القرار 2118 بالإجماع بتاريخ 27 سبتمبر 2013 بهدف التدمير الكامل للأسلحة بتاريخ لا يتجاوز 30 يونيو 2014. وهكذا كان، عينت الأمم المتحدة الهولندية سيغرد كاغ التي أشرفت على التدمير، وكانت تقدم تقارير دورية لمجلس الأمن إلى أن أنهت مهتمها بنجاح وأعلنت خلو سوريا من الأسلحة الكيميائية.
الهجوم على خان شيخون
الهجوم الآخر الذي أثار الرأي العام الدولي على طريقة الغوطة، هو ما حدث يوم 4 أبريل الحالي في خان شيخون، حيث قامت طائرة بإلقاء كميات من غاز السيرين أيضا على منطقة سكانية، بما فيها مستشفى أو على مستودع للذخائر التابعة للمعارضة، حسب الرواية الروسية، وألقت بحمولتها فقتلت نحو 72 شخصا من بينهم أطفال ونساء. تحرك الرأي العام الدولي والتأم مجلس الأمن على الفور في اليوم التالي، وأمامه مشروع مقدم من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لحق به مشروعان آخران. وأثناء مناقشات مجلس الأمن يوم الجمعة قامت البوارج الأمريكية في شرق المتوسط بإطلاق 59 صاروخا على قاعدة الشعيرات الجوية. وقد ألقى الرئيس ترامب بيانا مقتضبا أكد فيه «أن المحاولات السابقة لتغيير تصرف الأسد قد فشلت وفشلت بشكل ذريع، ونتيجة لذلك تفاقمت مشكلة اللاجئين واستمرت مرحلة عدم الاستقرار في المنطقة، الأمر الذي يهدد الولايات المتحدة وحلفاءها».
هللت كافة الدول والجماعات المعارضة للنظام السوري بالضربة الجوية وراحت تصف الرئيس ترامب بالحزم والشجاعة، لكن السؤال ماذا حققت الضربة الجوية؟ لقد أبلغت الولايات المتحدة كافة حلفائهاعن الضربة قبل وقوعها. ومن بين الذين بلغوا بالضربة روسيا، التي بدورها أبلغت النظام السوري الذي قام بإخلاء القواعد الجوية الأساسية بما فيها قاعدة الشعيرات. وأبقى النظام بعض الطائرات القديمة «الخردة» للتضحية بها. ولم تتعطل القاعدة حيث قامت بعد أربع ساعات فقط بشن هجمات جوية على مناطق المعارضة، وقيل إن عدد الضحايا بين 6 و 19. وارتطمت الجهود السياسية بفيتو روسي ثامن في مجلس الأمن. والضربة الصاروخية عززت من موقف الرئيس السوري، بل صورته على أنه يقاوم الولايات المتحدة وإسرائيل معا، خاصة بعد أن أطلق صاروخا يتيما على غارة إسرائيلية يوم 17 مارس الماضي لأول مرة منذ عام 1973.
أما المنتصر الحقيقي في الغارة فهو ترامب نفسه، الذي كان يعيش مأزقا كبيرا بعد ثبوت اتصالاته مع الجانب الروسي في موريشياس بترتيب إماراتي. وكانت أسهم الرئيس تكاد تشير إلى أنه في مأزق قد يطيح به كليا. وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم أسباب الضربة الصاروخية. وأترك أمر المقارنة بين تصرف أوباما وترامب على الحادثتين للقراء والسؤال المهم: من أحدث منهما تغييرا إستراتيجيا في المنطقة لصالح الكيان الصهيوني لا ينمحي مع الأيام وكبل سوريا إلى الأبد بعدم اقتناء أسلحة كان حافظ الأسد يسميها «توازن الرعب» وفتح البلاد أمام المفتشين الدوليين للتحقيق في أي حادثة تتعلق بالسلاح الكيميائي؟
د.عبدالحيد صيام
صحيفة القدس العربي