اشتراطات أحادية من الفلسطينيين
ناقش الطرفان الأميركي والفلسطيني آفاق تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، و”الشراكة الأميركية – الفلسطينية” في بناء قدرات قوات الأمن الفلسطينية لـ “مكافحة الإرهاب والحفاظ على السلام […] ومواصلة التنسيق الأمني القوي مع الحكومة الإسرائيلية”، وذلك حسب البيان الصادر بعد لقاء ترامب – عباس. وفي حين حفل البيان باشتراطاتٍ أميركيةٍ على الجانب الفلسطيني، لم يشر إلى أي شروطٍ ينبغي لإسرائيل تنفيذها؛ فقد طالب البيان السلطة الوطنية الفلسطينية بالعمل على “وقف خطاب الكراهية والتحريض ومحاربة الإرهاب والتعاون الأمني مع إسرائيل”، وضرورة وقف المخصّصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية إلى الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وعوائلهم ممن تتهمهم إسرائيل بارتكاب أعمالٍ إرهابية. وشدّد ترامب، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع عباس، على أنه “لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم، ما لم يتكلم القادة الفلسطينيون بصوت موحّد ضد التحريض والعنف والكراهية”. ومع أن عباس سعى إلى طمأنة ترامب، بقوله: “إننا نربي أطفالنا وأحفادنا وأولادنا على ثقافة السلام، ونسعى إلى أن يعيشوا بأمن وحرية وسلام، كباقي أطفال العالم، بما فيهم الأطفال الإسرائيليون”، فقد بادر عدد من أعضاء مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري إلى صياغة مشروع قانونٍ لفرض عقوباتٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ على السلطة الفلسطينية، إن لم توقف دفع مخصصات الأسرى الفلسطينيين.
ومن الواضح أن إدراك المؤسسة الأميركية الحاكمة عمومًا، وجماعات الضغط المؤثرة فيها، لمدى تمسّك القيادة الفلسطينية بالسلطة القائمة في ظل الاحتلال، واعتمادها الكلي على التمويل الخارجي والدعم الأميركي في إدارتها والحفاظ على الوضع القائم، وتسليم القيادة الكامل بـ “عملية السلام” بقيادة أميركية خيارًا سياسيًا وحيدًا؛ يشجّعها على القيام بضغط مستمر على هذه القيادة.
غياب حل الدولتين في الخطاب الأميركي
على الرغم من أن الرئيس محمود عباس أشار غير مرّة، في كلمته في المؤتمر الصحفي المشترك مع ترامب، إلى حل الدولتين القائم على انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية عليها، تكون عاصمتها القدس الشرقية؛ غاب “حل الدولتين” عن كلمة ترامب، ولم يحضر في البيان الختامي الصادر عن الجانبين بعد انتهاء المباحثات. كما كان لافتًا غياب أي حديثٍ لترامب، أو البيان الختامي المشترك، عن مسألة المستوطنات، والتي تعدُّ مخالفةً للقانون والقرارات الدولية، وكان آخرها القرار الدولي 2334 الصادر عن مجلس الأمن في كانون الأول/ ديسمبر 2016، والذي امتنعت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، عن نقضه، وهو ما دانه ترامب حينها بوصفه رئيسًا منتخبًا.
وعلى الرغم من أن حل الدولتين أصبح موقفًا رسميًا للإدارات السابقة الجمهورية والديمقراطية، في مرحلة ما بعد اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ)، مع تحفّظ على تعريف حدود الدولة الفلسطينية التي ينبغي أن تكون حصيلة مفاوضاتٍ فلسطينية – إسرائيلية، بحسب المقاربة الأميركية، فإن إدارة ترامب أرسلت إشاراتٍ عدة أنها ليست ملزمةً بهذه السياسة، فقد ألمح ترامب، في المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمعه، منتصف شباط/ فبراير الماضي، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى أن إدارته غير ملتزمةٍ بحل الدولتين، كما صرّح مسؤولٌ رفيع في البيت الأبيض قبيل لقاء ترامب – نتنياهو بأن الإدارة الجديدة لا تصر على حل الدولتين صيغة توافقية لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. والأمر نفسه يتعلق بالمستوطنات، فمع أن ترامب طلب من نتنياهو، في مؤتمرهما الصحفي المشترك، بضرورة “كبح المستوطنات قليلًا”؛ أكّد البيت الأبيض، غير مرة، أن المستوطنات لا تشكل عقبةً في طريق السلام، وإن كانت لا تساعد على تحقيقه.
مقاربة ترامب
لئن كان ترامب يعدّ نفسه الأقدر على حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فإنه لا يطرح أفكارًا سياسية واضحة ومحدّدة لكيفية بلوغ ذلك، وخصوصًا أنه لا يلزم نفسه بحل الدولتين. وكل ما يقوله إنه يريد التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وإنه سيعمل ما في وسعه لتحقيق ذلك. وما يُضاعف من غموض موقف ترامب أنه أعلن أن إدارته لا ترى أنه يمكن فرض حلٍّ على الطرفين، سواء من الولايات المتحدة أم أي جهةٍ أخرى. وإذًا، “ينبغي للفلسطينيين والإسرائيليين العمل معًا للتوصل إلى اتفاقٍ يسمح للشعبين بالعيش والعبادة والنمو والازدهار بسلام”. أما دوره فيحدّده في “الوساطة، والتحكيم، أو رعاية” المفاوضات. بمعنى أن إدارة ترامب تلغي أي إمكانٍ أو آليةٍ لضمان ترجمة القرارات الدولية، والمواقف الأميركية الرسمية السابقة، القائلة إن حلًّا نهائيًّا يقوم على أساس دولتين؛ إسرائيلية وفلسطينية، تعيشان جنبًا إلى جنب في أمان وسلام.
لكن ثمّة إشارات تفيد بأن إدارة ترامب ترى أن “تحقيق سلام” فلسطيني – إسرائيلي غير ممكن إلا عبر مقاربة إقليمية، وأن النظر إليه من هذه الزاوية يخدم الأجندة الأشمل للولايات المتحدة في المنطقة، والتي تتضمن احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، ومحاربة التطرّف والإرهاب. وبحسب هذه القراءة، تريد إدارة ترامب أن تقدم حافزًا في اتجاهين؛ الأول لإسرائيل، ويمكن أن يتحقق عبر اعترافٍ بها، وتقارب بينها وبين بعض الدول الخليجية، وما يسمى “محور الاعتدال العربي”. أما الثاني، فهو لدول الخليج و”محور الاعتدال العربي”، الذين يريدون انخراطًا أميركيًا أكبر في الإقليم، وتحديدًا في “مكافحة الإرهاب”، ومحاصرة النفوذ الإيراني. وبحسب هذه الرؤية، قد تجد إسرائيل في سلام إقليمي أوسع معها حافزًا لتقديم بعض التنازلات للفلسطينيين، في حين أن تنازلاتٍ إسرائيليةً للفلسطينيين سترفع الحرج الشعبي عن “محور الاعتدال العربي”، وتشجّعه على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وصولاً، ربما، إلى تحالفٍ معها. وفي حال نجاح هذه المقاربة، سيحظى الفلسطينيون بغطاءٍ سياسي ودبلوماسي، فضلًا عن مساعدات اقتصادية خليجية للقبول بتقديم تنازلات مقابلة. السؤال الذي يتجنّب جميع أطراف هذه المقاربة الإجابة عنه: هل تبقّى شيءٌ للفلسطينيين، حتى يتنازلوا عنه؟ والحقيقة أن إسرائيل ترى الصورة على نحو مغاير تمامًا، فهي تعدّ التقارب مع بعض الدول العربية في التحالف مع ترامب ضد إيران سببًا لتهميش قضية فلسطين، بوصفها ليست عائقًا أمام أي تطبيع عربي – إسرائيلي.
خلاصة
يشكك مراقبون كثيرون في قدرة إدارة ترامب على تحقيق ما فشلت إداراتٌ سابقةٌ عديدة في تحقيقه، ليس لأن هذه الإدارة تفتقر إلى الإرادة الحقيقية والمقاربة الواقعية للحل فحسب، بل أيضًا لأن الفريق الذي أوكل إليه ترامب الإشراف على هذا الملف، وتحديدًا صهره، جاريد كوشنر، ومحاميه السابق للعقارات، ومبعوثه الحالي للسلام في المنطقة، جيسون جرينبلات، لا يقلان جهلًا عن ترامب نفسه بهذا الموضوع. ويعد كوشنر وجرينبلات، إضافة إلى السفير الأميركي في القدس، ديفيد فريدمان، من التيار المحسوب على إسرائيل أميركيًا. وبناء عليه، تبدو النبرة التفاؤلية التي تحدث بها عباس عن قدرة ترامب على تحقيق “معاهدة سلام تاريخية” غير مفهومة. وللمفارقة؛ يتفق الناطق باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، مع عباس في تقويمه؛ فعندما سُئل عن المؤهلات التي يمتلكها ترامب، والتي تخوله تحقيق إنجازٍ فشل كل من سبقه من الرؤساء في تحقيقه، أجاب: “أعتقد أن الرجل مختلف. الأسلوب الدبلوماسي الذي يتبعه الرئيس يجني ثمارًا […] أسلوبه يتلخص في إقامة روابط شخصية مع القادة الأجانب […]، وهو قد طوّر الكثير منها”.
ويبرّر بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية تفاؤلهم ذاك بأن ترامب جعل من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أولويةً لديه على أساس أنه مرتبطٌ بالأمن القومي الأميركي، فضلاً عن أنه ليس في “جيب أحد”، أي جماعات الضغط. وبعيدًا من تلك المزاعم التي لا يبدو أن الفلسطينيين يؤمنون بها حقًا؛ يبدو أن الجانب الفلسطيني يراهن على الجانب النرجسي في شخصية ترامب، إذ يعتقد الرجل أن لديه قدراتٍ تفاوضيةً استثنائيةً جاء بها من عالم المال والأعمال، وبأن هذا قد يدفعه إلى محاولة تحقيق إنجاز فعلي في السياق الفلسطيني – الإسرائيلي. الواقع أن ترامب قد يسعى فعلًا إلى تحقيق إنجازٍ ما في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولكن هذا “الإنجاز”، كما يبدو إلى الآن، سيكون على حساب الفلسطينيين، وخصوصًا أن إدارته لا تزال تؤكّد أنه ملتزمٌ بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، فضلاً عن تجاهله “حل الدولتين”، وضرورة وقف الاستيطان. ومما يعزّز ذلك أن جلّ حديث ترامب والبيان الختامي، بعد لقاء الرئيس عباس، ركّز على السلام الاقتصادي و”محاربة الإرهاب”.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات