تشهد العلاقات التركية الإيرانية تقارباً جديداً وغير مسبوق منذ بداية ثورات الربيع العربي قبل ست سنوات، في ما يخص عدداً من المواضيع الخارجية ذات الاهتمام المشترك وبالذات المتعلقة بسورية والعراق، وذلك لمواجهة “خطر الانفصال الكردي” على الأمن القومي التركي والإيراني. بدأ هذا التقارب بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا منتصف شهر يوليو/تموز 2015، إثر الدعم الكبير الذي تقدّمت به كل من طهران وموسكو للحكومة التركية، وما تلاها من توجس تركي عميق تجاه دور الحليف التقليدي، أي الغرب، في المحاولة الانقلابية، عبر حماية المتهمين بالمحاولة الانقلابية، سواء في الولايات المتحدة التي رفضت تسليم زعيم حركة “الخدمة” فتح الله غولن، المتهم الأول بإدارة المحاولة الانقلابية، أو عبر قيام عدد من الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا وهولندا وبلجيكا بتقديم حق اللجوء للمتهمين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية من العسكريين أو المدنيين.
”
غيّرت أنقرة استراتيجيتها وأهدافها في المنطقة بسبب الخذلان الغربي
” خلال ما يقارب العام، بدأت استراتيجية التقارب التركي الإيراني الروسي تتوضّح، فغيّرت أنقرة استراتيجيتها وأهدافها في المنطقة بسبب الخذلان الغربي، من تغيير نظام بشار الأسد في دمشق أو ضرب النفوذ الإيراني في العراق، إلى حماية أمنها القومي المباشر، ممثلاً بضرب تمدد قوات حزب “الاتحاد الديمقراطي” (الجناح السوري للعمال الكردستاني) على معظم شريطها الحدودي بدعم من قوات التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”. وكذلك منع المليشيات الشيعية الموالية لإيران من الاقتراب من حدودها على مسافة تقدر بحوالى 30 إلى 40 كيلومتراً.
أولى بوادر هذا التعاون كانت في عملية “درع الفرات”، التي تمت بموافقة تركية إيرانية روسية، حصل الروس بموجبها على حلب الشرقية، وضمنت لأنقرة قطع الطريق أمام قوات “الاتحاد الديمقراطي” من السيطرة على كامل شريطها الحدودي، وكذلك وجّهت ضربة لحليف الولايات المتحدة بالنسبة للروس، أي “الاتحاد الديمقراطي”، الذي باتت قوته تشكّل أيضاً خطراً على الأمن القومي الإيراني، لناحية طموحه بإعادة إنتاج نموذج إقليم كردستان العراق في سورية، بما يشكله ذلك من دفع كبير لطموحات الأقلية الكردية في إيران أيضاً.
وبعد الالتزام العراقي بعدم السماح لمليشيات “الحشد الشعبي” من الاقتراب من مدينة تلعفر في محافظة نينوى ذات الغالبية التركمانية، عادت التغييرات في المعارك على الأرض لتشكل حافزاً لمزيد من التقارب، في ما بدا رغبة مشتركة لروسيا وتركيا وإيران، لقطع طريق الأميركيين للتعاون مع قوات “الاتحاد الديمقراطي” للتمدد في اتجاه إدلب بحجة محاربة “هيئة تحرير الشام”، وذلك عبر تقاسم المنطقة بما يضمن مصالح الأطراف الثلاثة.
ويعزز التقارب التركي الإيراني بسبب مخاوف البلدين من الاستفتاء الذي قد يؤدي لانفصال إقليم كردستان العراق، وتكوين دولة ستكون مقربة من الغرب الذي قد يستخدمها في أي وقت للضغط على تركيا وإيران. وفي هذا السياق، وبعد اجتماعات مكثفة على المستويات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية، أكان في طهران بعد الحوارات التي أجرتها هيئة تركية ضمت ممثلين عن الاستخبارات والجيش والخارجية، وكذلك بعد النقاشات التي جرت مع الروس بالذات بين وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، على هامش قمة أسيان، يبدو أن موسكو وطهران وأنقرة تمكنت من التوصل لتوافق في ما يخص منطقة “خفض التصعيد” في محافظة إدلب. هذا الأمر استوجب زيارة كل من رئيس الأركان الإيراني، الجنرال محمد باقري، ورئيس الأركان الروسي، سيرغي شويغو، إلى أنقرة، لوضع اللمسات الأخيرة على العملية العسكرية المزمعة في إدلب.
وفي ما بدا تقدّماً كبيراً في التنسيق التركي-الإيراني، بدأ الجنرال باقري، يوم الأربعاء، بزيارة إلى أنقرة، تُعد الأولى من نوعها لرئيس أركان إيراني منذ 38 عاماً، تلت التوافق بين الطرفين على قيام أنقرة ببناء جدار على الحدود المشتركة في كل من ولاية أغدر وأغري التركيتين، لمنع عمليات التسلل والتهريب، سيمتد بطول 144 كيلومتراً من أصل 550 كيلومتراً هو طول الحدود المشتركة. هذا الأمر دل على تخلٍ إيراني عن “العمال الكردستاني”، بالموافقة على إغلاق أحد أهم معابر تسلل مقاتلي “العمال” نحو الأراضي التركية من جهة إيران. وتستمر زيارة الجنرال باقري لأنقرة ثلاثة أيام، بدأها بلقاء نظيره التركي، الجنرال خلوصي أكار، على أن يلتقي بكل من وزير الدفاع التركي، نور الدين جانكلي، وكذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
باقري أول رئيس أركان إيراني يزور تركيا منذ 38 عاماً وهو “متخصص” في الشأن الكردي
وربما يكون أكثر ما يلفت في السيرة العسكرية لباقري، أنه “أخصائي شؤون كردية” إن جاز التعبير، فقد اكتسب تجارب كبيرة في المسائل العسكرية والأمنية بسبب الأعمال الأمنية والاستخباراتية والعسكرية التي تولاها، بما أنه من المشاركين في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1989) وخاض تجربة طويلة في التعامل مع المنظمات الكردية الإيرانية المسلحة بحكم عمله في أجهزة المخابرات. وانضم الرجل إلى الحرس الثوري الإيراني بعد اندلاع التمرد العسكري الكردي شمال غربي البلاد عقب قيام الثورة الإسلامية عام 1979 واستمر هذا التمرد حتى أواخر 1983. وكان مسؤولاً عن شؤون الاستخبارات خلال العمليات التي نفذها الحرس الثوري في التسعينيات ضد قواعد الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب كوملة الكردي الواقعة على الجبال بين إيران والعراق.
وأكد مصدر تركي مطلع لـ”العربي الجديد” أن الزيارة “تؤكد مستوى التنسيق التركي الإيراني ورغبة الطرفين بالتعاون لعقد الصفقات سواء في سورية أو في العراق”، مضيفاً أن “تفاصيل الاتفاق غير واضحة تماماً، ولكن يمكن القول إن الطرفين وجدا نفسيهما مجبرين على التعاون، لمواجهة مخاطر انفصال إقليم كردستان العراق وصعود العمال الكردستاني في سورية على أمنهما القومي”. وأوضح أنه “من المنتظر أن يحقق التوافق لتركيا على الأقل السيطرة على ريف حلب الشمالي في كل من تل رفعت ومنغ ومحاصرة الاتحاد الديمقراطي في عفرين والحد من نفوذه، والسيطرة المباشرة على عمق 30 إلى 40 كيلومتراً في محافظة إدلب بضرب هيئة تحرير الشام”، مضيفاً أن هذا الاتفاق “يضمن للإيرانيين تعاوناً تركياً للحد من طموحات رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، الانفصالية، التي ستصبح غير ممكنة في حال تم إغلاق نافذة أربيل التركية الوحيدة على العالم”. أما بالنسبة للروس “فسيضمن الاتفاق لهم توسيع نفوذهم باستعادة النظام السوري السيطرة على أجزاء من محافظة إدلب بما في ذلك مركز المحافظة، مقابل عدم اقتراب المليشيات الموالية لطهران من هذه المناطق، وضمان روسي لعدم تهجير أهلها”، وفق المصدر نفسه.
زيارة باقري إلى أنقرة تؤكد رغبة الطرفين بالتعاون لعقد الصفقات سواء في سورية أو في العراق
على الجانب التركي، بدأت مفاعيل التوافقات مع طهران بالظهور، مبدئياً، عبر إبعاد تركيا نفسها تدريجياً عن الملف السوري في ما يتعلق بالمستوى السياسي، وعدم مواجهتها الضغوط الهائلة التي تتعرض لها المعارضة السورية للموافقة على بقاء الأسد في الحكم. ولم يظهر موقف تركي داعم للائتلاف السوري، وسط حديث عن ضغوط كبيرة تشارك فيها السعودية لتوسيع الهيئة العليا للمفاوضات السورية بشكل يتم فيه إدخال منصات متهمة بالقرب من النظام السوري، مثل منصات القاهرة وموسكو وأستانة. وتحدثت تقارير صحافية عن تخفيض دعم أنقرة للائتلاف، مقابل التركيز على دعم الحكومة السورية المؤقتة العاملة في مناطق “درع الفرات” وما سيتم السيطرة عليها في إطار منطقة “خفض التصعيد” في إدلب، بما قد يدخلها في وقت لاحق في سياق المصالحات التي تضمن استمرار النظام ونفوذ الدولة المركزية وإنهاء حلم جناح “الكردستاني” السوري بالفدرالية، خصوصاً في ظل التسليم الدولي بمركزية الدور الروسي في سورية. وكذلك عبر ارتفاع صوت المسؤولين الأتراك برفض إقامة استفتاء إقليم كردستان العراق، الأمر الذي بدا واضحاً بتأكيد المتحدث باسم الحكومة التركية، بكير بوزداغ، الثلاثاء الماضي، أن الاستفتاء سيشكل تهديداً للأمن والاستقرار، تلاه تصريحات مشابهة لوزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو، أمس الأربعاء، اعتبر فيها أن استفتاء الانفصال ربما يؤدي إلى حرب أهلية في العراق. وخلال مقابلة أجراها مع التلفزيون الرسمي التركي، قال جاووش أوغلو: “بينما تعيش البلاد (العراق) كل هذه المشاكل، فإن استفتاء الانفصال سيجعل المشاكل أسوأ، ومن الممكن أن يؤدي إلى حرب أهلية”. وبينما جدد انتقاده لاستمرار الولايات المتحدة بدعم قوات “الاتحاد الديمقراطي”، أكد جاووش أوغلو أن “روسيا أكثر تفهماً من واشنطن لموقف تركيا من قوات الاتحاد الديمقراطي”.
العربي الجديد