عندما توصّلت حكومة الرئيس حسن روحاني إلى الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 في 14 يوليو 2015، بدأت بتدشين حملة للترويج للمكاسب العديدة التي يوفرها الاتفاق لإيران على أصعدة مختلفة، كان من بينها انتهاء معظم أزمات إيران مع المجتمع الدولي وبداية مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق في الملفات الأخرى غير النووية.
وبدأت تظهر اتجاهات في إيران تدعو إلى الانفتاح على الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، واستبعاد شعار “الشيطان الأكبر”، وأن الصفقة النووية ستفتح كل الأبواب التي كانت مغلقة أمام إيران خلال العقود الماضية.
لكن هذه الطموحات لم تتحقق في مجملها، إذ لم تنجح إيران في الحصول على مكاسب، كما لم تنته أزماتها مع المجتمع الدولي، بل أنتجت الصفقة في النهاية تداعيات عكسية. ويتمثل أحد أهم هذه التداعيات في تصاعد الاهتمام الدولي بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران.
اعتبارات رئيسية
من المنتظر أن يقرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب منتصف الشهر المقبل ما إذا كان يعتقد أن إيران ستفي بالتزاماتها أو يسعى لفرض عقوبات جديدة قد تنسف جوهر الاتفاق. ولم تكشف السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي صراحة عن نصيحتها لترامب بشأن الاتفاق، لكنها تركت الباب مواربا للشكوك بأنها تعتقد أنه حان وقت مراجعة الاتفاق “المليء بالثغرات”.
وحذّرت هايلي من أن الاتفاق الذي تنتهي مدته خلال عشر سنوات يفتح الباب أمام طهران لمواصلة البحوث العسكرية. وإذا قرر ترامب الشهر المقبل أن إيران خرقت الاتفاق، وهو أمر محتمل بشكل متزايد، فإن ملف حقوق الإنسان سيكون من بين أبرز الأوراق التي سترد بها الإدارة الأميركية على إيران ومن يعارض مراجعة الاتفاق من الجهات المستفيدة منه.
ويمكن تفسير اللجوء إلى ملف حقوق الإنسان تحديدا في ضوء ثلاثة اعتبارات رئيسية، قد تتقدم أو تتأخر لكن في مجملها تمثل ركيزة لفهم ما يجري بخصوص هذا الملف. يتمثل الاعتبار الأول في إصرار الولايات المتحدة خلال المفاوضات مع إيران حول الاتفاق النووي على استثناء ثلاثة ملفات من العقوبات التي سترفع على إيران بعد الوصول إلى هذا الاتفاق، وهي دعم الإرهاب والصواريخ الباليستية وحقوق الإنسان.
واعتبرت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن إصرارها على الاحتفاظ بخيار فرض عقوبات على طهران في هذه الملفات يمكن أن يساعدها على تمرير الصفقة النووية، لا سيما في ظل المعارضة التي أبداها الجمهوريون وبعض الديمقراطيين إزاءها، باعتبار أنها لا تضمن بقاء الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني دون تغيير على المدى الطويل، وباعتبار أنه لا يمكن الوثوق في التزام دولة ترتكب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان بأي اتفاقات دولية.
وسعت القوى الغربية الأخرى كذلك إلى استيعاب الضغوط الداخلية التي فرضت عليها بعد الاتفاق ومواجهة الانتقادات التي تعرضت لها من قبل بعض التيارات الرافضة له بسبب هرولة بعض شركاتها إلى إبرام اتفاقات اقتصادية كبيرة مع إيران، من خلال إبداء المزيد من الاهتمام بملف حقوق الإنسان في إيران.
وانعكس ذلك في سماح فرنسا لقوى المعارضة الإيرانية بتنظيم مؤتمر دولي واسع في 9 و10 يوليو 2016، حضرته شخصيات عربية وأجنبية رفيعة وانطلقت خلاله دعوات إلى إسقاط النظام الإيراني وتوجيه إدانات قوية للأخير بسبب انتهاكاته المتواصلة لحقوق الإنسان. وبدا الموقف لافتا من جانب باريس التي استقبلت في 28 يناير من العام نفسه الرئيس الإيراني حسن روحاني، ووقّعت خلال تلك الزيارة صفقات اقتصادية ضخمة.
الولايات المتحدة أصرت خلال المفاوضات مع إيران حول الاتفاق النووي على استثناء ثلاثة ملفات من العقوبات وهي دعم الإرهاب والصواريخ الباليستية وحقوق الإنسان
ينصرف الاعتبار الثاني إلى الجهود التي بذلتها قوى المعارضة الإيرانية من أجل توجيه اهتمام المجتمع الدولي إلى أن المشكلة مع إيران لا تنحصر في برنامجها النووي فقط رغم مخاطره المحتملة، وأنها تمتد أيضا إلى الملفات الأخرى الشائكة، على غرار القمع الذي تمارسه السلطات تجاه المعارضة السياسية والقوميات العرقية والأقليات المذهبية.
تمكنت تلك القوى من استقطاب دعم من جانب بعض برلمانات الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وعدد من المنظمات الدولية، على غرار الاتحاد الأوروبي الذي قام في 11 أبريل 2017 بتمديد العقوبات التي يفرضها على إيران بسبب الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان حتى أبريل 2018، تضمنت حظر سفر وتجميد أصول على 82 شخصا وكيان واحد وحظر تصدير معدات قد يتم استخدامها في القمع الداخلي.
يتعلق الاعتبار الثالث بالجدل المتصاعد الذي تشهده إيران حول ما يسمّى بـ”فرقة الإعدام” أو “لجنة الموت” التي تم تشكيلها من بعض المسؤولين في الدولة للإشراف على عمليات الإعدام التي نفذت ضد الآلاف من أنصار بعض قوى المعارضة في يونيو 1988 بناء على فتوى من الخميني.
ورغم مرور نحو 29 عاما على هذه القضية التي تعمّد النظام التعتيم عليها، إلا أنها فتحت من جديد بعد التسجيل الصوتي الذي نشره أحمد منتظري ابن نائب الخميني السابق حسين علي منتظري، في أغسطس 2016، ويتضمن مناقشة بين الأخير وبعض المسؤولين في اللجنة مثل مصطفى بور محمدي وزير العدل الحالي وإبراهيم رئيسي المشرف على العتبة الرضوية والمرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ووفقا لهذا التسجيل، طالب منتظري بإيقاف هذه الإعدامات، إلا أن طلبه قوبل بالرفض وأدى في النهاية إلى إقصائه من منصبه ثم فرض الإقامة الجبرية عليه.
موقف مضاد
انعكس هذا الاهتمام في التقرير الأخير الذي أصدرته الأمم المتحدة في الثالث من سبتمبر 2017 حول حالة حقوق الإنسان في إيران، والذي أكد وقوع تلك الجرائم، التي تقول قوى المعارضة إنها تعدت الثلاثين ألف شخص، وهو ما يوفر فرصة للقوى الدولية من أجل فرض عقوبات جديدة على إيران استنادا إلى هذا الملف تحديدا، خاصة في ظل حرص إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على عدم حصر خلافاتها مع إيران في الاتفاق النووي، وإنما توسيعها لتشمل هذا الملف.
لا يمكن الوثوق في أن تلتزم دولة مثل إيران، ترتكب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، بأي اتفاقات دولية
والواضح أن إيران تقابل تلك الضغوط بتبني سياسة أكثر تشددا، حيث أن النظام دائما ما ينظر إلى هذه العقوبات على أنها تمثل محاولة لتكريس التدخل الغربي في الشؤون الداخلية للبلاد، ومن هنا يمثّل هذا الملف تحديدا محورا للتوافق بين التيارات الرئيسية في الدولة، خاصة تيار المعتدلين الذي يقوده الرئيس روحاني وتيار المحافظين الأصوليين، وهو ما انعكس في استمرار احتفاظ مصطفى بور محمدي بمنصبه كوزير للعدل في حكومة روحاني الجديدة رغم أنه كان عضوا فيما يسمّى بـ”لجنة الموت”.
ويشير ذلك إلى أن دعوة روحاني إلى تبني سياسة أكثر اعتدالا وإفساح المجال لتوسيع نطاق الحريات السياسية والاجتماعية والانفتاح على الخارج وتحسين العلاقات مع دول الجوار ما هي إلا ادعاءات لا تتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض. كما أن التشدد الإيراني تجاه هذا الملف انعكس أيضا في رفض القضاء الإيراني يوم 3 سبتمبر، وبالتزامن مع صدور التقرير الأممي الأخير، دعوات الاستئناف التي قدمها 4 أشخاص منهم أميركي صيني ومواطنان إيرانيان يحملان الجنسية الأميركية ولبناني، والذين حكم عليهم بالسجن عشرة أعوام بتهمة التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية.
وتسعى إيران من خلال هذه الأحكام إلى توجيه رسالة للإدارة الأميركية بأن حرصها على فتح ملف حقوق الإنسان سيفرض تداعيات عكسية ولن يدفع طهران إلى تبني سياسة أكثر مرونة في الملفات الخلافية.
محمد عباس ناجي
صحيفة العرب اللندنية