استشهد الرئيس السوري بشار الأسد، في خطابه الأخير أمام مؤتمر وزارة الخارجية، بمعركة قادش التي حصلت، وفق قوله، عام ١٢٧٤ ق. م، ليبرهن لسامعيه أن «سورية عبر التاريخ هي هدف».
هذا القول هو ذاته الخطاب الاستبدادي الذي فَرض منطقه على مسامعنا بقوة القمع والسلاح منذ منتصف القرن الماضي. فسورية، وفق هذا الخطاب، ليست وطناً للعيش بل قلعة لـ «الصمود والتصدي»، وخندق لـ «الممانعة». فهي ليست موجودة، من قبل التاريخ، من أجل أبنائها، بل من أجل أعدائها: لتكون موضوعاً لاعتداءاتهم الدونكيشوتية، فتتصدى لهم وتمانعهم. فوفق هذا المنطق هي قائمة على رد الفعل من دون أن يتوجب عليها القيام بأي فاعلية.
لكن، للأمانة المعرفية، لا يمكننا نكران أن سورية كانت منذ القِدم هدفاً لكيانات أخرى. لكن هذا ليس لأنها بعثية، أو عربية، أو مسلمة، أو مقاوِمة، أو ممانِعة، بل لكونها بلداً طبيعياً، يتشابه بذلك مع مختلف بلدان العالم «عبر التاريخ». فغالبية البلدان، ما لم تكن جميعها بالمطلق، كانت «عبر التاريخ»، ذاته، «هدفاً» لكيانات أخرى.
لا، ليس ما حصل لسورية ناجماً عن أنها مستهدفة. فالاستهداف قائم دوماً. لكن من أهم مهام الدولة حماية البلد من الاستهداف. والحماية تعني المحافظة على البلاد سليمة معافاة. لكن أن يتشرد أكثر من نصف سكانها، ويُقتل مئات الألوف منهم، وتتهدم نصف بنيتها التحتية، فهذا بكل تأكيد، وبجميع المعايير، وبمحاكمة أصغر العقول، لا تمكن تسميته حماية من الاستهداف، ولا يمكن لواقعة قادش أن تكون دليلاً على أنه نتاج الاستهداف «الغربي». بل هو، ببساطة ومن دون بذل جهد في التمحيص، ناجم عن عدم أهلية السلطات التي من المفترض أن تكون مُؤتَمَنَة على سلامة البلاد بجميع سكانها وممتلكاتها. ولا يعفيها من هذه المسؤولية تذاكيها وتشاطرها باكتشاف أن ما حصل كان نتيجة «مؤامرة» أو «استهداف»، فهذا شأن الصحافة والكتّاب الصحافيين والباحثين والمحللين وليس شأن السلطات، بل إن معرفتها بذلك تضاعف مسؤوليتها لإخفاقها في حماية البلاد.
حماية البلدان ليست أمراً خفيّاً، بل هي جلية لا لَبْس فيها، تظهر للناظر كعين الشمس، لا تحتاج الى تدبيج خطابات ديماغوجية ولا فبركة سرديات بطولية، فالناس تعرف أن البلدان لا تكون إلا ببشرها، وتحصينها يبتدئ من هنا، من الإقرار بأن المبتدأ هو إنسانها وأنه منتهاها. الإقرار بإنسانها على أنه نواتها الجوهر، «وحيد الخلية» المجتمعية الذي لا يقبل الانقسام ولا التجزيء. إن تعرضت حرياته وحقوقه للانتهاك صَغُرَ فيصغر البلد من صِغَرِه.
لهذا فإن تحصين البلاد يكون بصون حرياتها المطلقة، التي لا يحدها شيء سوى حدود حريات الفرد الآخر، شريك المواطن في الوطن، من دون أدنى اهتمام بدينه أو قوميته أو طائفته أو جنسه أو موقفه السياسي.
حالة البلدان هي انعكاس مُطابقٌ لحالة الفرد فيها وليس العكس بتاتاً. فالفرد هو نواتها المؤسِّسة. إن كان حراً تكون البلاد حرة، وإن كان لا يعلو كرامته سوى سلطة الدستور والقوانين تكون السيادة في البلد للقانون وليس للمخابرات، وحين تكون حقوقه مصانة تكون حقوق بلده ومالها العام وأملاكها مصانة من النهب والفساد. هذا ما يحصّن البلاد وليس الجيش والمخابرات والإعلام الكاذب.
لا يكفي لتحصين البلدان مجرد إقرار إنشائي لمُبتدأيّة الفرد، بل لا بد من وقعنة هذه المكانة بجعلها أسّاً للدولة الحديثة. أي أن تقام الدولة لتكون مجالاً لتجسيد حقوق الفرد وحرياته، وكذلك واجباته. فالفرد الكامل الحقوق والحريات هو غاية الدولة بمفهومها الأحدث، وبالتالي هو هويتها. فالدولة السورية، موضوعنا اليوم، وبعد أن فاتها زمن إقامة «الدولة/ الأمة»، الذي قامت الدول فيه على معنى الأمة، أو على العكس من ذلك، الذي تشكلت فيه الأمة لتكون معنى للدولة، صار من الضروري بناؤها بنسختها الأحدث: الدولة/ المواطن، أو دولة المواطنة. أما التباهي الطاووسي بأنها دولة «الممانعة» أو أي عبارة أخرى من هذا النسق النافل فهو يختص بالدولة/ السلطة التي يقوم عليها الاستبداد والطغيان.
فمواجهة التحديات الخارجية، إن قضت الحاجة، من المهام العَرَضية الطارئة، مهما طالت، وليست من صلب الدولة.
بتكثيف: الفارق بين دولة المواطنة والدولة/ السلطة، أي السلطة الاستبدادية المتمظهرة بمظهر الدولة، هو تحديداً وجود علاقة بنائية بين الفرد والدولة خلال عملية تَحوّل الفرد إلى مواطن في لحظة صيرورة تَشَكّل الدولة، فتكون دولة المواطنة. أما السلطة المتمظهِرة بمظهر الدولة فعلاقتها مع الأفراد تقتصر على تعاملها معهم على أنهم مادة ممارسة سلطتها. فالسلطة الاستبدادية القائمة على الغَلبة تنظر إلى نفسها على أنها دولة سابقة على الفرد، فتضع له ولها معاني إنشائية فارغة، ترغمه بأجهزة قمع تبنيها، فتصبح غاية الفرد خارج ذاته وخارج معنى وجوده. أما الدولة التي تقوم على التعاقد الاجتماعي فهي بذاتها عبارة عن اجتماع الأفراد، وليس مجموعهم.
اجتماع الأفراد، هذا الذي نسميه الدولة، يقضي بانفكاكهم عن روابطهم الدموية السابقة، كالرابطة العشائرية أو القومية أو الدينية أو الطائفية. وما يتبقى، بعد ذلك، للفرد من علاقات مع جماعته السابقة للدولة فلا يُعتَدّ به ضمن فضاءات الدولة ومؤسساتها، بل يندرج ضمن حرياته وحقوقه.
هذا الحديث الآن عن الدولة لا يَرد ضمن باب الترف النظري، كما أنه لا يُستدعى للمناسبة الظرفية. فموضوع بناء الدول ليس عملاً تقوم به المجتمعات في أوقات فراغها، أو في المساء مع كأس الشاي، بل هو «حرفة» نخبها المجتمعية، التي يتوجب عليها القيام به طوال وقت «عملها الرسمي» كنخبة. وعليها مضاعفته خلال الأوقات البنائية، كما هي حال اللحظة السورية الراهنة، حيث يتوجب على كافة المجموعات السياسية، والمدنية أيضاً، موالية كانت أم معارضة أم بَيْن بَيْن، أن تعتمد بناء الدولة معياراً رئيساً لأعمالها. فتأخذ بالأعمال التي ترى أنها ركن من أركان الدولة، وتترك ما عداها.
كذلك، فإن الحديث عن بناء الدولة السورية الآن ليس إزاحة لمسار الصراع إطلاقاً. فموضوع الدولة هو عَيْنُ الصراع. وما التفاصيل التي «صَرَعَنا» بها المتصارعون طيلة الفترة الماضية سوى تفاصيل في سياق شكل الدولة وبنيانها. لهذا فالكلام المباشر في موضوع بناء دولة سورية جديدة هو العتبة الرئيسة في عملية النضال الثوري التحرري. فالثورة التي تنتظرها سورية منذ استقلالها هي تلك التي تبني دولة مواطنيها، لا دولة العرب أو الكرد أو الإسلام أو غير ذلك من التعابير التي يعتمدها الاستبداد دعائم لبنيانه.
ليست لدينا دولة في سورية، لم نعرف الدولة منذ استقلالنا، فكل ما عرفناه هو سلطات، معظمها بشع، تلبس لبوس الدولة، تعتمد أجهزة تسلط تعطيها مسميّات دولاتية لتستخدمها في فرض سيطرتها القهرية على السكان. القول بتاريخية التسلط السوري لا يبرر إطلاقاً الأفعال المخزية التي ارتكبتها السلطة السورية الراهنة، والقول الذي سبقه ليس القصد منه سَوْق المآخذ عليها، إذ إنها أثبتت بجميع الطرق أنها أسوأ السلطات التي حكمت سورية، وأظهرت نفسها بجلاء الصورة أنها مجرد سلطة شارعية لا يمكنها تحقيق ذاتها إلا بانتصار أولاد شارعها على أولاد الشوارع الأخرى.
بناء الدولة هو الميدان الحقيقي للصراع مع النظام، وهو، أيضاً، الميدان الحقيقي للصراع مع قوى التخلف والطغيان الأخرى التي كانت شريكة النظام في الحرب التي دارت بينها وبينه لأكثر من ست سنوات خلت. والآن، وبعد أن حطت هذه الحرب أوزارها وخفتت أصوات مدافعها، في شكل كبير، بات من الممكن استئناف العمل على بناء الدولة المنشودة من دون اعتبارٍ لمقولة إرجاء هذا الاستحقاق إلى اليوم التالي لسقوط النظام، أو لما بعد تنحية بشار الأسد عن السلطة. ذلك لأن العلاقة الصراعية بين النظام الاستبدادي والنظام الدولتي لا تقوم على أن تكون البداية تراجعاً للاستبداد مسافة أو أكثر ليَلي ذلك تقدم للدولة لملء ذاك الشغور، بل تقوم على تقدم مشغول لبنى الدولة يجبر النظام الاستبدادي على التقهقر مسافة على قدر الخطوة الدولتية. فانتظار سقوط النظام هو من مخلّفات التفكير الانقلابي، غير أن بناء الدولة لا يتم بالانقلابات بل عبر آليات بنائية.
تلمّس معرفة كيفية تحقيق ذلك يحتاج لمساهمات عدة. ولكن جميع الكيفيات الممكنة يحتاج، مثل أي عمل آخر، إلى أدوات، وأدوات بناء الدولة هي حصراً التنظيمات المجتمعية، أي التنظيمات السياسية والمدنية التي لا تقوم على نزوع قومي كالعروبة والكردية مثلاً، ولا على روابط دينية أو طائفية كالإسلام أو السنية أو العلوية أو غيرها. كما أنها، وبكل تأكيد، ليست تكتلات مقتصِرة على مواجهة بشار الأسد. فكل هذه الأشكال من التنظيمات داعمة للاستبداد، وعت ذلك أم لم تع، ولا يعوّل عليها في بناء دولة مواطنة تحمي البلاد السورية من أي خراب قادم، وتجعل من سورية وطناً فخراً لجميع السوريين.
لؤي حسين
صحيفة الحياة اللندنية