كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب صريحاً في الإعراب عن ازدرائه لخطة العمل الشاملة المشتركة التي تم توقيعها في العام 2015، والتي تحد من البرنامج النووي الإيراني. وقال أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 19 أيلول (سبتمبر) الماضي “إن الاتفاق الإيراني كان من أسوأ وأكثر الصفقات أحادية للجانب التي تدخل فيها الولايات المتحدة على الإطلاق”. وأضاف ترامب: “بصراحة، تلك الصفقة تشكل إحراجاً للولايات المتحدة، وأعتقد بأنكم لم تستمعوا بآخرها -صدقوني”.
ومثل مضيف برامج تلفزيون الواقع الذي كانه، أعلن الرئيس أنه اتخذ قراره أصلاً حول ما إذا كان سيدلي بشهادته حول التقيد الإيراني بالصفقة يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي -لكنه لم يشأ الإفصاح عما قرره. هل سيفعل أم لا يفعل؟ ابقوا متنبهين لمشاهدة حفل التصنيفات الذي سيتم فيه الكشف عن كل شيء!
لا أتوافر شخصياً على أي فكرة حول ما سيفعله الرئيس -فهو غريب الأطوار جداً إلى درجة يصعب معها التنبؤ بما يدور في خلده- لكنني أستطيع أن أعرض وجهة نظري كشخص عارض الاتفاق النووي الإيراني لأنني أعتقدت أنه كان مرِناً جداً. فهو لم يضع نهاية لبرنامج إيران النووي، وإنما علَّقه فقط لعقد من الزمان، كما أنه لم يتعامل مع تهديدات إيران الإقليمية الأخرى، وبالتحديد رعايتها للإرهاب وتطويرها للصواريخ الباليستية. ومع ذلك، فإنني لا أوصي بالانسحاب من الصفقة الآن -ليس عندما شهدت وكالة الطاقة النووية الدولية التي يرصد مفتشوها 27 موقعاً منفصلاً بأن إيران متقيدة جيداً ببنودها.
بدلاً من قصف الصفقة النووية بالسلاح النووي، يجب على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات أخرى لضبط تصاعد النفوذ الإيراني.
سوف ترسل الولايات المتحدة رسالة رهيبة إلى الدول الأخرى التي ربما تكون مهتمة في المستقبل بالتوصل إلى معاهدة للسيطرة على الأسلحة إذا كانت واشنطن يمكن تلغي معاهدة ببساطة بسبب تغير في الإدارات. فلماذا سيثق أي أحد بأن واشنطن يمكن أن تلتزم بكلمتها مرة أخرى؟
سوف يؤدي الانسحاب من المعاهدة الآن إلى عزل الولايات المتحدة، وليس إيران. وإذا انسحبت إدارة ترامب من المعاهدة ببساطة من دون إعادة فرض عقوبات مؤثرة على إيران، فسوف يكون التأثير رمزياً صرفاً -وسوف تتجسد هذه الرمزية في وقوف أميركا وحدها. وقد ظهر الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي يترأس نظاماً استبدادياً أكثر اعتدالاً وعقلانية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مقارنة بما بدا وأنه الرئيس الأميركي حاد الطباع وسريع الغضب، والذي صنع عناوين الأخبار الرئيسية عندما نعت الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، بـ”رجل القمر” وهدد بتدمير بلده. ومن شأن الانسحاب من اتفاق إيران من دون استفزاز معقول أن يخلق تعاطفاً دولياً مع إيران، على الرغم من انتهاكاتها المرعبة لحقوق الإنسان -ومن المرجح أن يسفر ذلك عن عدم المساس بالاتفاق وتركه قائماً كما هو.
وفي الأثناء، يستطيع الكونغرس فرض عقوبات على إيران إذا انسحب ترامب من الاتفاقية. لكن الولايات المتحدة لا تجري الكثير من الأعمال التجارية مع طهران. وربما تكمن الطريقة الوحيدة لمعاقبة إيران في إقناع البلدان الأوروبية والآسيوية الرئيسية بوقف تجارتها الخاصة معها. وذلك شيء من غير المرجح أن تقدم عليه هذه الدول ما دامت إيران تبدو متقيدة بالصفقة. وقد تستطيع إدارة ترامب الضغط على الأوروبيين من خلال “خيارها النووي” الخاص -التهديد بأن تطرد من السوق الأميركية أي بلدان أو شركات تقيم علاقات تجارية مع إيران. لكن ذلك سوف يكون تهديداً صعباً على التنفيذ ضد أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، ومن المرجح أن يتسبب في أزمة كاملة في وقت تمر فيه الروابط ما بين ضفتي الأطلسي بتوترات أصلاً.
يقال إن إدارة ترامب تقوم راهناً باستكشاف سيناريو أقل رؤيوية: بدلاً من التخلص من الاتفاق النووي الإيراني ببساطة، قد يحاول ترامب إعادة التفاوض عليها -أو ربما التفاوض على معاهدة إضافية- والتي تضع حدوداً على تطوير إيران للصواريخ البليستية ودعمها للإرهاب. ولكن ما الذي قد يدعو إيران إلىأن توافق على ذلك الآن، وهي التي كانت قد قاومت هذه الحدود في العام 2015، في وقت كانت تخضع فيه لعقوبات ثقيلة، وذلك بعد أن حصلت على كسب اقتصادي كبير بعد رفع العقوبات؟ حتى لو استطاع ترامب الآن فرض بعض العقوبات، فإنها لن تكون قريبة من شدة العقوبات التي كانت موجودة قبل التوصل إلى الاتفاق مع إيران.
من الصعب رؤية كيف تستطيع الولايات المتحدة إجبار إيران على التفاوض وسط غياب تهديد معقول بعمل عسكري. لكن الولايات المتحدة لا تتوافر على خيار سهل لتدمير المرافق النووية الصلبة لإيران، وإلا لكانت قد فعلت ذلك أصلاً، وهذه لعبة محفوفة بالمخاطر ولها تداعيات لا يمكن التنبؤ بها. وعلى ضوء تهور وجهل ترامب، فإن تهديده باستخدام القوة العسكرية قد يخرج بسهولة عن نطاق السيطرة في كل من إيران وكوريا الشمالية على حد سواء، مما يقود أميركا إلى التورط في حرب أو حربين لا يريدهما أحد –خاصة من رئيس وعد بالحد من تورط أميركا في الصراعات الخارجية.
سوف يكون ضرباً من الطيش بشكل خاص إشعال فتيل أزمة مع إيران بينما نحن واقعون أصلاً في غمرة الخوف من خوض حرب مع كوريا الشمالية. لكن الأخبار الجيدة تشير إلى أن ثمة الكثير الذي تستطيع الولايات المتحدة فعله لوقف خطط إيران الخطيرة من دون إلغاء الاتفاق النووي والتفاوض على معاهدة جديدة مع الملالي، أو الذهاب إلى الحرب ضدهم. وتقوم إدارة ترامب أصلاً بعمل شيء من هذا القبيل -مثلاً من خلال فرض عقوبات على الشركات المرتبطة ببرنامج إيران للصواريخ الباليستية وهجماتها السيبرانية وجهاز الحرس الثوري الإيراني الراعي للإرهاب فيها.
وهناك المزيد مما يمكن عمله على جبهة العقوبات المستهدفة، بما في ذلك تفكيك جهاز الحرس الثوري الإيراني، التنظيم الإرهابي. لكن هناك أيضاً خطوات مهمة يستطيع ترامب اتخاذها على الأرض في سورية والعراق. وتحاول إيران “لبننة” كلا البلدين من خلال إقحام سيطرة الأمر الواقع من خلال المليشيات التي يديرها جهاز الحرس الثوري الإيراني، مثل ميلشيا حزب الله، بينما يتم السماح للقادة المستقلين اسمياً، مثل الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، بالبقاء في مواقع السلطة الصورية.
وكانت إدارة أوباما قد غضت الطرف عن هذا التشبث بالسلطة لمصلحة إبرام صفقة نووية مع إيران. وإذا كانت لدى إدارة ترامب استراتيجية محددة لوقف الإيرانيين، فيما وراء القصف الخطابي، فسيكون ذلك سراً محروساً جيداً.
تستمر القوات المسلحة الأميركية في رؤية أن مهمتها في المنطقة تنحصر في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”، نقطة. ويكمن الخطر في أنه من خلال تفكيك “داعش” -وهو الأمر الذي يوشك حلفاء الولايات المتحدة على إنجازه في كل من سورية والعراق- فإنهم ببساطة سوف يخلقون المزيد من الحيز أمام إيران حتى تسيطر. وتؤيد إدارة ترامب عن غير قصد هذا التشبت الإيراني بالنفوذ من خلال وقف تقديم المساعدات للثوار السوريين المعتدلين، وعبر سحب القوات الأميركية إلى خارج النقاط الأمامية المهمة في جنوبي سورية بالقرب من الحدود مع العراق، وهو ما يعني من الناحية الفعلية التنازل عن تلك الأرض للمليشيات المدعومة إيرانياً. وتوشك إيران حالياً على السيطرة على طريق بري يصل ما بين طهران وبيروت -فيما يمثل الإمبراطورية الفارسية الجديدة.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في لجم قوة طهران، فإن عليها تقديم الدعم للمليشيات في كل من العراق وسورية، الراغبة في مقاومة المتطفلين الإيرانيين. وفي حالة العراق، فإن ذلك يعني الإصرار، متى ما تمت هزيمة “داعش”، على قيام الحكومة بحل قوات الحشد الشعبي المكونة في أغلبها من مليشيات تدعمها إيران، وإنشاء حرس مدني سني لحماية المناطق السنية من العدوان الشيعي. ولن يكون ذلك عملاً سهلاً، لكن الولايات المتحدة تستطيع كسب تأثير مهم إذا هي لم تسحب قواتها إلى الوطن في أعقاب إلحاق الهزيمة بتنظيم “داع” -وإذا لم تكرر الخطأ الذي ارتكبه الرئيس السابق باراك أوباما في العام 2011.
وفي سورية، تدفع الولايات المتحدة ضد إيران من خلال توسيع حرب قوات سورية الديمقراطية التي تقاتل “داعش” في الشمال بحيث تجند المزيد من المقاتلين العرب إلى جانب القوات الكردية المحورية، وكذلك عبر تقديم دعم جديد للجيش السوري الحر والقوات الحليفة في جنوب سورية. ومن البديهي أن الثوار المعتدلين تحملوا خسائر ثقيلة في السنوات الأخيرة في مناطق شاسعة بسبب المساعدات الخارجية الشحيحة التي تلقوها مقارنة بما تلقته المجموعات المتطرفة السنية أو الشيعية على حد سواء. لكن من الممكن بناء قوات عسكرية فعالة تتكون من المنفيين السوريين الذين يعيشون في دول الجوار.
وإذا ما تلقت هذه القوات الدعم من القوة الجوية الأميركية والمستشارين الأميركيين الذين يعملون الآن مع قوات سورية الديمقراطية في تحرير الرقة، فإن بإمكان هذه القوات إرجاع الأسد والإيرانيين إلى الوراء ومنعهم من تعزيز السيطرة على المناطق التي انسحب منها “داعش”. وفي نهاية المطاف، قد يفضي التغير في موازين القوى على الأرض إلى احتمال التفاوض على وضع نهاية للنزاع، وهو ما سيحد من سيطرة النظام المدعوم إيرانياً ليتركز بشكل رئيسي على الأراضي التي تسكنها الطائفة العلوية.
تكمن المشكلة في أن نهج العمل المبين أعلاه سوف يعمق التورط الأميركي في كل من سورية والعراق، وهو ما ينطوي على مخاطر تزايد الخسائر وإلزام الولايات المتحدة من الناحية الفعلية بدور كبير في إعادة بناء الدول. ويعد ذلك شيئاً محرماً على ترامب الذي يحب، كسلفه، القضاء على “داعش” وإعادة القوات الأميركية إلى الوطن على الفور. وكان الرئيس قد تلقى نصحاً من مستشاريه للأمن القومي، في حالة أفغانستان، بعمل ما يتناقض مع ما توحيه غرائزه. وربما يستطيع أن يقتنع بعمل ذلك ثانية إذا علم أن الجاذبية المباشرة والجوفاء لإلغاء الصفقة النووية لا ترقى إلى أن تكون سياسة جديّة للتعامل مع إيران.
ماكس بوت
صحيفة الغد