“بريكست” و”كريكست” و”كريكست”: بريطانيا تغادر الاتحاد الأوروبي، وكردستان تعلن الاستقلال عن العراق، وكتالونيا تنفصل عن إسبانيا -ثلاثة تغييرات سياسية ضخمة، جعلتها الاستفتاءات الأخيرة إما جارية أو على الأجندة السياسية. ثلاثة بلدان مختلفة جداً. لكن ثمة اعتقاداً في كل الحالات في أوساط عدد كبير من الناخبين بأنهم سيكونون أفضل حالاً وحدهم خارج أي قدر من سيطرة سلطة عابرة للحدود مثل الاتحاد الأوروبي، أو دولة قومية مثل العراق أو إسبانيا.
لكن أمام الاستفتاءات الثلاثة الكثير للإجابة عنه: لا غرابة في أن الحكومات المنقسمة والديموغاجيين والدكتاتوريين يتوافرون على مثل هذا الإعجاب الكبير بها. فهي تكتسي بمظهر الديمقراطية الشعبية، وتعطي الانطباع بأن القرارات المهمة تصنع في النهاية عبر اختزال الموضوعات المعقدة إلى مجرد “نعم” أو “لا” مفرطة في التبسيط. وهي تجعل من الرأي العام مادة سهلة للاستغلال، لأن ما يطلب من المقترعين الموافقة عليه يكون في الغالب الأعم تفكير أمنيات، وما يعارضونه هو مزيج غير متسق من المظالم غير المترابطة. وهناك الكثير من الناس غير السعداء وغير الراضين في البلدان الثلاثة التي صوتت في الاستفتاءات خلال الأشهر الخمس عشرة الأخيرة، وإنما من دون سبب لافتراض أن تصويتهم سيجعلهم أكثر سعادة أو في وضع أفضل.
يجب أن يكون الافتقار إلى الجوهر في الوعود بالأمور الجيدة التي ستأتي أكثر وضوحا مما هو عليه. والوضع غامض بشكل خاص في بريطانيا لأن المجلسين (العموم واللوردات) يناقشان المكاسب والخسائر بعبارات اقتصادية، أو في علاقتها بالأثر الذي ستركه الخروج على الهجرة. وتحدث المناقشة كلها تقريباً بصيغة المستقبل، لكن الكوارث الرئيسية الناتجة عن الخروج قد وقعت فعلاً من الناحية العملية.
ابتداء من اللحظة التي أغلقت فيها صناديق الاقتراع يوم 23 حزيران (يونيو) 2016، أصبح المجتمع البريطاني منقسماً على نفسه بشكل عميق، ربما أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الأهلية في القرن السابع عشر -أي قبل 375 عاماً. وقال لي أحد المعلقين في الأسبوع الماضي: “إنه فعلاً مثل الحرب الأهلية، وإنما من دون إطلاق النار”. وكان يشير بذلك إلى عمق وصخب هذه الانقسامات وطبيعتها المستدامة. وقد أصبحت الحكومة البريطانية تعاني من الانقسام لدرجة أن عليها العثور على أرضية مشتركة للتخلص من تيريزا ماي، حتى برغم أنها تبدو مصابة بانهيار عصبي عام.
ثمة خطر آخر قيد العمل هنا. فالمؤيدون للخروج يرجعون إلى ماضٍ بريطاني ذهبي عندما وقفت بريطانيا وحدها وكانت ورشة عمل العالم، تساعدها في ذلك فضائل التجارة الحرة. لكن هذا ينطوي على سوء قراءة للتاريخ البريطاني: كان الوجود في الجانب الكاسب من الحرب النابليونية والحربين العالميتين الأولى والثانية صلة أقل بالقوة الاقتصادية، وصلة أكبر بالقوة البحرية والمهارة في صناعة التحالفات. ومرة أخرى، فإن ضعف الدولة البريطانية ليس شيئاً يمكن تأجيله إلى ما بعد فترة انتقالية مطاطة بعض الشيء –لكنّ شيئا بدأ فعلاً.
ليست التجربة البريطانية مع الاستفتاءات فريدة من نوعها، ولها ما يوازيها في أمكنة أخرى. وتُظهر الخبرة أن الاستفتاءات تستخدم دائماً من طرف الجانب الكاسب للتظاهر بأن أغلبيته، مهما كانت ضئيلة ومهما كان الإقبال منخفضاً، إنما تمثل الإرادة القومية غير المنقسمة. وفي الحقيقة، عكس تصويت “بريكست” بنسبة 52 إلى 48 في المائة ذلك بالضبط: بلداً منقسماً من المنتصف. وكانت نسبة المشاركة في التصويت في كتالونيا يوم الأحد 42 في المائة فقط، لكنه تقرر أن يعلن رئيس الوزراء الكتلوني الاستقلال إذا سمح له بمخاطبة البرلمان.
كما يحدث كثيراً في التاريخ، فإن أولئك الذين يريدون إجراء تغيير ثوري أو متطرف لا يصلون إلى أي مكان سوى استفزاز غير عقلاني لرد فعل، والتسبب في رد فعل معاكس متطرف من جانب أولئك الذين يريدون المحافظة على الوضع الراهن. ويفترض أن الأمر لم يتطلب كثيراً من التفكير من جانب الحكومة الإسبانية لتدرك أن إرسال الشرطة الوطنية لمحاولة وقف الاستفتاء -والفشل في ذلك بينما تم ضرب الناس العاديين أمام كاميرات التلفزة- كان أفضل وسيلة لكسب التعاطف للجانب المؤيد للاستقلال. كما أن امتداح رئيس شرطة كتالونيا، جوزيب لويس ترابيرو، أمام قاضٍ في مدريد للاشتباه في تحريضه ضد الدولة، هو ضمان لعدم فعل أي شيء سوى منح الشرعية لأولئك الذين يعقدون الاستفتاء.
لا تتوقف حماقة الحكومات المدمرة للذات عند الدفاع عن مصالحها الخاصة أبداً عن الإدهاش. فأولئك الذين يبررون سلطتهم بالمحافظة على القانون والنظام، لا يستطيعون أن يتصرفوا فجأة مثل العصابات من دون إصابة سلطتهم بجروح. وأذكر قبل نصف قرن -في إيرلندا الشمالية في العام 1968، وعند سؤال أحد منظمي الحقوق المدنية عن الخطوات التالية التي ستتخذها حركته التي كانت تسعى إلى حقوق متساوية للروم الكاثوليك في دولة طائفية يديرها البروتستانت، قال إنه صوت هو وزملاؤه تواً في اجتماع لصالح عمل لا شيء، وإنما انتظار أن ترتكب الحكومة خطأ فظاً آخر مثل السماح لقوة شرطة بمهاجمة مشاركين في مسيرة حقوق مدنية أمام عدسات الكاميرات والتلفزة. وهذا ما فعلته الحكومة بالضبط.
للاستفتاء في كردستان العراقية يوم 25 أيلول (سبتمبر) الماضي ملامح مميزة، لكنّ له أيضاً نقاطاً مشتركة مع الاستفاءات الأخرى: كان التصويت إما لصالح أو ضد استقلال الأكراد العراقيين؛ وجرى الاستفتاء في أراضٍ متنازع عليها مع الحكومة العراقية وفي مناطق حكومة كردستان الإقليمية أيضاً. ويبدو أن الذي دعا إلى الاستفتاء هو رئيس حكومة كردستان الإقليمية، مسعود برزاني، الذي لف نفسه في العلم الكردي وقدم نفسه على أنه حامل الراية المثالي للقومية الكردية. ومن الممكن أن يؤخذ الأمر كشيء مسلم به أن معظم الأكراد يريدون دولة مستقلة، لكن السؤال هو، ما مدى قابلية ذلك للتحقق.
كان الاقتراع مفيداً للبرزاني من حيث منحه الشرعية، على الرغم من أن ولايته المثيرة للجدل انتهت في العام 2015. وعلى الرغم من شبه الانهيار الاقتصادي في كردستان، استطاع البرزاني صرف الانتباه عن هذه الحقيقة وعرض نتيجة الاستفتاء غير الملزم كعلاج شاف لكل مشاكل الأكراد، والعديد منها جاء نتيجة لأخطاء حكومة إقليم كردستان الفاسدة والمختلة وظيفياً.
ثمة تشابه آخر بين الخروج البريطاني و”الخروج” الكردي: دع عنك ما تظاهر به الساسة في المملكة المتحدة من أن ميزان القوى بين المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأووبي السبع والعشرين كان متساوياً، وأن المفاوضات يمكن أن تمضي على ذلك الأساس. وبالمثل، قال السيد البرزاني بعد الاستفتاء إنه سيتفاوض حول الاستقلال مع حكومة العراقية المستجيبة في بغداد. وبطبيعة الحال، كان هذا ضرباً من الخيال؛ فلتيريزا ماي والبرزاني مواقف ضعيفة يصارعان بها خصوماً أقوى منهما بكثير. وتقول بغداد إنه لن تكون هناك مفاوضات حول أي شيء ما لم يتم إلغاء نتائج الاستفتاء، كما تتمكن تركيا وإيران بموقف يمكنهما من عصر الحكومة الإقليمية في كردستان وإرغامها على الامتثال.
يَعد مؤيدو الخروج البريطاني والكردي والكتلاني بخلخلة قصيرة الأجل في مقابل تحقيق بلدانهم الاستقلال الحقيقي والازدهار طويل الأمد.
لكنّ البريطانيين والأكراد والكتلان هم في الحقيقة أكثر شبها برواية إدوارد لير، “الشخوص”، الذين خرجوا إلى البحر في غربال، برغم التحذيرات من أنهم سيغرقون جميعاً، وهو ما أجابوا عنه بقولهم: “غربالنا ليس كبيراً / لكننا لا نهتم قيد أنملة/ سوف نبحر في غربال”.
باتريك كوبيرن
صحيفة الغد