بعد أسبوع من إجراء الزعيم الكردي مسعود برزاني استفتاءه على الاستقلال الكردي عن العراق (حيث يعد الاستفتاء والاستقلال متعارضين مع الدستور العراقي)، جاءت الضرية الارتدادية عنيفة وغاضبة وعامة تقريباً.
ما كان قد تم تصوره كخطة ذكية لأكبر أبناء مسعود، مسرور، لتعزيز شعبية عائلة البرزاني الواهنة عبر الظهور بمظهر القائد القومي، أصبح يبدو بشكل متزايد على أنه خطوة سيئة الحسبة. (لاحظ مايكل روبن أن بعض موظفي وقادة الكونغرس الذين اجتمع معهم مسرور خرجواً من الاجتماع مقتنعين بأن مسرور سعى إلى الاستقلال لكي يكون ولياً للعهد فيما سيصبح قيادة (كردية) وراثية أكثر منه من منطلق المخاوف الوطنية المخلصة).
والآن، انحدرت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية -التي وجهت الدعوة إلى عقدها على عجل عقب وفاة الرئيس العراقي السابق والزعيم السياسي الكردي جلال طالباني- إلى أتون فوضى. وبدلاً من ضمان “الخلافة” لأكبر أنجاله، ربما يكون مسعود برزاني قد فتح بوابات صراع أوسع نطاقاً على قيادة الشعب الكردي.
نعم، توصف حكومة إقليم كردستان بأنها ديمقراطية، لكنها من الناحية العملية تدار، كما يشرح مايكل روبين، من جانب مؤسسة عائلية (فاسدة)، والتي “يخلط فيها كل من البرزانيين (والطالبانيين) الأموال الشخصية والحزبية والعامة ببعضها بعضا”. ويقول روبين شارحاً: “مسعود البرزاني رئيس، ويعيش في مجمع قصر في منتجع ورثه من صدام حسين. وابن أخيه، نيشيرفان برزاني، هو رئيس الوزراء. وعمه، هوشيار زيباري، كان وزير خارجية العراق وهو الآن وزير المالية. ويقود نجل مسعود الأكبر، مسرور برزاني، وكالة المخابرات؛ كما أن نجله الثاني، منصور، جنرال مثل شقيق مسعود، واجي. ويمتلك سروان، ابن شقيق البرزاني، شركة الهواتف الخلوية الإقليمية التي تظل مقتنيات خاصة على الرغم من أنها كانت قد اشتريت بأموال عامة. ويتردد أنجال البرزاني على واشنطن العاصمة، حيث يمتلك مسرور البرزاني عزبة تقدر قيمتها بنحو 11 مليون دولار في مكلين في فرجينيا”.
أظهر الاستفتاء أن القومية الكردية هي لعبة سهلة بين الأكراد (لا أحد يشك في ذلك). مع أنه ربما يكون مسعود البرزاني، عبر رفضه النصح العالمي بإلغاء أو تأجيل الاستفتاء الاستفزازي، قد زود معارضيه بالحبل الذي مست حاجتهم إليه لشنق “المشروع الكردي” الأميركي-الإسرائيلي.
وبينما يرى البعض في الغرب في الموضوع الكردي مسألة تقرير مصير قومي مبررة، فإن ذلك ليس هو الشعور الذي يسود في الدول المجاورة: إنها تنظر إليه على أنه عبوة ناسفة “سياسية” متعمد تم إقحامها في داخل أكثر تجمع إشعاعي حساس في الشرق الأوسط بهدف تفجير الدولة في أربع أمم رئيسية: العراق، وإيران، وسورية وتركيا.
منطقة قابلة للاشتعال
وهذه منطقة قابلة للانفجار، تحديداً لأن الأعراق هناك متنوعة جداً، ولأن المطالبات بالأراضي -التي تم الاستيلاء عليها عدة مرات خلال موجات متتالية من التطهير العرقي- هي عصية على الحل تقريباً، لكن إعادة كسب تلك الأراضي المسروقة يظل هدفاً عاطفياً لأولئك الذي كانوا قد جُردوا من ممتلكاتهم.
ليس الأمر أن الأكراد ما يزالون عرضة لارتكاب الخطايا ضدهم (فيما يتعلق بالتطهير العرقي) أكثر من كونهم خطاة هم أنفسهم، كما يشرح تقرير “سيكينغ لفا”: “كانت المنطقة (شمالي العراق) جزءاً من الطريق التجاري الرئيسي القديم… (والذي) استقرت فيه مجموعات متنوعة. وكان آخر من استقر فيه شعوب تركية خلال عهد الإمبراطورية العثمانية… وكركوك بشكل خاص مثيرة للمشاكل نظراً لأن العرب والأكراد والتركمان يطالبون بها، وحيث التركمان هم الأكثر ترجيحاً لامتلاك مطالبة مشروعة”.
“أفضى اكتشاف النفط في كركوك في العام 1927 وما تلاه من انتعاش إلى إضعاف السكان التركمان مع هجرة الأكراد من الشمال والعرب من الجنوب. وأظهر آخر إحصاء جرى في العام 1957 أن مستوى المحافظة يشير إلى أن التشكيل العرقي كان عند نسبة 48.2 من الأكراد، و28.2 من العرب، و21.4 من التركمان. وتغيرت هذه النسب بشكل كبير في ظل نظام (صدام حسين) الذي نفذ سياسة التعريب على حساب الأكراد والأقليات الأخرى، لكن ذلك الوضع شهد انقلاباً بعد العام 2003 مع عودة بعض الأكراد، وإنما من دون عودة الكثير من التركمان”.
لمصلحة من يجري تحريك وعاء المطالب العرقية المتنافسة بالأراضي (و40 في المائة من مصادر النفط في العراق)، بالإضافة إلى التجزئة المحتملة لهذه الدول الأربع؟ قال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي يوم الأربعاء بوضوح للرئيس التركي رجب طيب اردوغان، إن الولايات المتحدة، من وجهة نظره، تسعى إلى خلق “إسرائيل” جديدة في الشرق الأوسط من خلال مبادرة الانفصال الكردية. (أوضحت إسرائيل تماماً في تعليقات وزارية أنها ترحب وتدعم قيام دولة كردية وترى فيها خدمة لمصلحة إسرائيل).
ما تزال سورية وتركيا وإيران والعراق تراقب التطورات عن كثب منذ أن باشرت الولايات المتحدة (وبعض الحلفاء الأوروبيين) تأسيس 11 قاعدة عسكرية شبه دائمة في شمالي سورية -في مناطق يعد فيها الأكراد مسيطرين، لكنهم لا يشكلون الأغلبية بالضرورة. ومع ذلك، يتجه النزاع في سورية نحو النهاية، حيث تقاوم سورية خططاً لإقامة منطقة عازلة على طول خط الهدنة في مرتفعات الجولان، ومناطق استثناء على طول الحدود العراقية السورية، وسوف لن تكون هذه الدول الأربع سعيدة بزج “فاصل” آخر-بل وحتى أكبر حجماً- ومؤيد للغرب مباشرة في وسطها.
مع ذلك، ليس البرزاني وحيداً في أنه يريد التأكيد مجدداً على موثوقية قيادته عبر لعب بطاقة القائد “القومي”؛ ففي المقابل أيضاً، يواجه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انتخابات برلمانية عراقية حاسمة في العام المقبل مع رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي يلاحقه ويكاد يطبق على أنفاسه. وقد أثبت رد العبادي على الاستفتاء الكردي أنه يحظى بشعبية في قاعدته الانتخابية، وقد نجح في خلق بعض المسافة بينه وبين المالكي. ومن شأن التشبث بموقف صارم حول سيادة الدولة أن يشكل عاملاً حاسماً في احتفاظ العبادي برئاسة الوزراء.
الرد العراقي
تحدثت وكالة رويترز عن إجراءات اتخذت أصلاً: “ردت بغداد على الاستفتاء بفرض حظر على الطيران الدولي في المطارات الكردية، بينما نفذت تركيا وإيران تمارين عسكرية مشتركة مع قوات عراقية في منطقة الحدود مع كردستان العراق. ورفضت الحكومة العراقية عرضاً من حكومة إقليم كردستان لبحث موضوع الاستقلال، وطالبت القادة الأكراد بإلغاء نتيجة الاستفتاء أو مواجهة عقوبات مستمرة وعزل دولي وتدخل عسكري محتمل”.
وأضافت الوكالة الإخبارية: “يوم الثلاثاء، أبلغ بنك العراق المركزي حكومة إقليم كردستان بأنه لم يعد يبيع الدولارات لأربعة بنوك كردية بارزة، وبأنه سوف يوقف تحويلات العملة الأجنبية كافة إلى المنطقة، وفقاً لما قالته مصادر مصرفية وحكومية لرويترز… وفي وقت سابق، أثار البرلمان العراقي الفدرالي تهديد فصل الأعضاء الأكراد الذين شاركوا في الاستفتاء من عضويته على أساس أن الاستفتاء لم يكن دستورياً. وقرر البرلمان جمع أسماء أولئك الذين صوتوا في الاستفتاء كخطوة في اتجاه توجيه تهمة الخيانة إليهم أمام المحكمة الفدرالية العليا، كما قال رئيس البرلمان سليم الجبوري لمؤتمر صحفي بعد جلسة البرلمان”.
لكن من المرجح أن تتابع الدول الأربع -التي تنسق الآن عن كثب- عملية استنزاف مؤسسي ضد حكومة إقليم كردستان. وسوف تسعى بغداد لاستعادة السيطرة على المطارين الدوليين (أربيل والسليمانية) في إقليم كردستان العراقي، (وهي تسيطر أصلاً على المجال الجوي)؛ وعلى الحدود الإقليمية؛ وإمدادات النفط -وكركوك التي اجتاحها الأكراد في أعقاب استيلاء “داعش” على الموصل. وسوف تحاصر الدول الأربع حكومة إقليم كردستان اقتصادياً حتى آخر قطرة إذا حاول البرزاني استخدام البشمرغة للاحتفاظ بالسيطرة على كركوك وحقولها النفطية.
يتكون التحول الاستراتيجي عن الماضي هناك من ثلاث شعب: أصبحت كل الدول المجاورة لإقليم كردستان -ولأول مرة- متوحدة في عدائها المشترك لمبادرة البرزاني (إقليم كردستان العراقي لا يطل على بحر، ولذلك يعد هذا عاملاً مهماً). ثانياً، كانت قوات البشمرغة تتمتع بحرية الحركة في شمالي العراق في أعقاب حرب العام 2003 والاحتلال الأميركي اللاحق، والآن ثمة تحشيد رئيسي وتسليح لقوات الحشد الشعبي. وهذه القوات مستعدة وراغبة وقادرة على الانقضاض على (البشمرغة) عسكرياً في شمالي العراق؛ وثالثاً، تتبنى روسيا -مع أنها لا تبدي مشاركة فعالة في الموضوع الكردي العراقي- موقفاً قوياً جداً لصالح السيادة السورية.
منذ وصولها إلى سورية، ما تزال روسيا تحافظ على اتصال وثيق مع قوات سورية الديمقراطية (أي أن العلاقة الخارجية لقوات سورية الديمقراطية لم تكن أبداً حكراً على الولايات المتحدة).
وفي الحقيقة، استخدمت روسيا في بعض الأحيان قواتها الخاصة لحماية الأكراد من الجيش التركي (في منبج، على سبيل المثال). وعلى الرغم من أن روسيا لا تتحدث علناً عما يجري بين القوات المسلحة الروسية وبين الأكراد، فإن من الممكن أن يقول الروس للأكراد: تفاهموا مع دمشق أو أنكم سوف تقمعون عسكرياً- إذا اختاروا التدخل ضد استعادة الجيش السوري المتواصل للأراضي السورية (ومصادرها النفطية).
مدفوعة من إسرائيل
وهكذا، فإن السؤال الرئيس هو: إلى أي مدى سوف تمضي الولايات المتحدة، المدفوعة من إسرائيل، في هذا المشروع؟ يبدو أن الحكومة الأميركية منقسمة على نفسها فيما يتعلق بالاستقلال الكردي -كما يشير مايكل روبين في مقاله: “هل سيكون مسرور البرزاني آخر إحراج لوكالة المخابرات الأميركية (السي. آي. إيه)”- كما أنها مترددة بعض الشيء حيال تمكين دكتاتورية برزانية سلالية حاكمة.
كتب روبين: “ماذا يعني هذا بالنسبة للولايات المتحدة؟ في الأحاديث الخاصة، تبدو الدوائر الدبلوماسية والاستخباراتية وأنها تفهم ديناميات شقاق مسرور-نيشيرفان، وكذلك، -حتى لو لم يكن مصطلحاً قوياً- الاتجاهات السيكوباتية في سلوك مسرور”.
يشير هذا إلى تقارير من منظمة حقوق إنسان دولية عن تعذيب ارتكبته ومارسته قوات مسرور الأمنية في حق سجناء عذبوا وسجنوا عندما رفضوا أن يمنحوا مسرور نسبة مئوية من شركاتهم، من بين أمور أخرى.
من جهة، تعد “دكتاتورية” البرزاني منطوية على مشاكل بالنسبة لسمعة الولايات المتحدة، ومن الممكن أن يهدد الاستقلال الكردي بتقسيم العراق (الذي تأمل الولايات المتحدة في استخدامه لصد إيران). ولكن، من جهة أخرى وقعت القيادة الأميركية الوسطى “سنتكوم” في حب المجندين الأكراد الذين تدربهم في سورية، بينما تبدي وزارة الخارجية الأميركية قلقاً أكبر من تحييد الصورة الكبيرة للدولة العضو في الناتو: تركيا. وباختصار، ليست هناك مصلحة أميركية واضحة في دعم الاستقلال الكردي (فيما عدا مصلحة إسرائيل).
مع ذلك، يبدو أن الأحداث تتداخل ببعضها البعض لتشكل نمطاً. فإسرائيل قلقة لأنها تجد نفسها وحيدة في الشرق الأوسط. وقد أخطأت إسرائيل اللعب في سورية. وهي تخشى من تواجد إيران وحزب الله في سورية، وتشك في أن كلاً من الولايات المتحدة أو روسيا ستفعلان -أو تستطيعان فعل– الكثير لتخفيف تلك المخاوف. وهكذا، يتمثل رد فعل القيادة الإسرائيلية في تصعيد خطابتها الحربية (التهديد بمهاجمة مصانع في سورية ولبنان تقول إنها تصنع صواريخ متطورة، أو قواعد عسكرية إيرانية دائمة، أو كليهما).
يبدو أن تعريف المرشد الروحي الإيراني الأعلى للدولة الكردية المفترضة على أنها “إسرائيل أخرى” وتحذير حزب الله من أنه يجب على الإسرائيليين أن يفكروا الآن في مغادرة المنطقة؛ ونية الرئيس السوري بشار الأسد المعلنة استعادة كل سورية؛ وحكم فتوى آية الله السيستاني ضد الاستقلال الكردي؛ يبدو أن كل ذلك هو جزء من النمط نفسه: نمط تصاعد التحذيرات وإيجاد قواعد جديدة للردع.
وهكذا، أصبحت “مبادرة” البرزاني بالضرورة الشماعة التي يجري تعليق نموذج الردع الجديد عليها، وجرى تحويل مغامرته الخاصة بالاستقلال بهدوء إلى هذه المواجهة الإقليمية التي تظهر الآن.
ألاستير كروك
صحيفة الغد