تمرّ دول عربية في حالة فرز سكاني على قاعدة دينية ومذهبية أشبه ما تكون بالحالة التي مرت بها شبه القارة الهندية في عام 1947.
وتجري عملية الفرز على أساس ديني في العراق وسوريا، حتى إن المسيحيين في العراق الذين كان يزيد عددهم على المليون، لم يبقَ منهم سوى بضع عشرة آلاف فقط! وتجري عملية الفرز على أساس مذهبي في اليمن، وكذلك في سوريا والعراق أيضاً. وتعرف ليبيا فرزاً على أساس قبلي، وكذلك على أساس عنصري (بين العرب والأمازيغ في غرب البلاد وجنوبها). وقد وصل الفرز على أساس عنصري في العراق إلى حد قيام الدولة الكردية مع وقف الإعلان الرسمي!
لم يكن التعدد الديني والمذهبي والديني غريباً في المجتمعات العربية. فالتعدد صفة ملازمة لهذه المجتمعات منذ خروج الإسلام من شبه الجزيرة العربية وانتشاره في المنطقة. غير أن ثقافة احترام التعدد التي دعا إليها الإسلام وحضّ عليها، تراجعت وضعفت مما أدى إلى انتعاش ثقافة الإلغائية للآخر المختلف. ويشكل هذا الأمر مصدر الخطر على وحدة نسيج المجتمعات العربية، وبالتالي على مستقبل الدولة الوطنية العربية ووحدتها.
لم يؤدِ الفرز السكاني في شبه القارة الهندية سنة 1947 على خلفية دينية بين المسلمين، والهندوس إلى السلام بين الجانبين. فقد وقعت عدة حروب بعد ذلك بين الهند وباكستان. وذهبت الدولتان في استعدادهما للجولات القتالية المقبلة إلى الحد الذي جعل من كل منهما دولة نووية تملك ترسانة من الصواريخ بعيدة المدى.
وهو المصير ذاته الذي يتهدد مستقبل الكيانات التي تجري عملية صناعتها على خلفيات دينية- مذهبية- عنصرية في الشرق الأوسط. فقد أثبتت الوقائع أن تهجير الفلسطينيين من بلادهم لم يحقق السلام لإسرائيل. وعلى رغم أنها تملك ترسانة نووية، وأنها جعلت من مجتمعها مجتمعاً إسبارطياً مسلحاً ومقاتلاً، زيادة على أنها تتحكم في القرار السياسي الأميركي إلا أنها لا تشعر بالحد الأدنى من الأمن، بل إن كل تصرفاتها السياسية والعسكرية تكشف عن حال من القلق وعدم الاطمئنان على الغد.
وكذلك فإن تجرية التقسيم في القارة الهندية على خلفية دينية لم تحقق السلام للهندوس في الهند، ولا للمسلمين في باكستان. فالمسلمون الباكستانيون لم يتمكنوا حتى من المحافظة على وحدتهم الكيانية الصعبة، فانفصلت بنجلادش بدعم عسكري هندي عن باكستان، لتدخل الآن في دوامة من الصراع المزدوج مع شقيقتها الدينية (باكستان) -التي تفصلها عنهما مسافة 1770 كيلومتراً من الأراضي الهندية- ومع شقيقتها العرقية الهند!
لم تنفع الوحدة الدينية بين باكستان وبنجلادش للمحافظة على وحدتهما في دولة واحدة.
وفي الأساس، لم يكن الآباء المؤسسون لباكستان يتطلعون إلى إقامة دولة دينية. فالرئيس الأول محمد علي جناح كان محامياً إنجليزي الثقافة ومتزوجاً من سيدة فرنسية -باريسية- وبالتالي لم يكن متطرفاً دينياً. ولم يكن حتى يسعى للتقسيم، ولذلك كان يصف باكستان بأنها «دولة الضرورة وليست دولة الإرادة». أما التحول إلى الدولة الدينية، فقد حدث بعد وفاته، ذلك أن رئاسته للدولة لم تعمر سوى 13 شهراً فقط. وهذا التحول بدأ بعد انقلاب عسكري أدى إلى سلسلة متلاحقة من استيلاء العسكر على السلطة. وكما أن أنظمة عسكرية قامت في العالم العربي (مصر- سوريا- العراق) على خلفية أولوية تحرير فلسطين من إسرائيل، كذلك فإن الأنظمة العسكرية، التي توالت في باكستان قامت على خلفية تحرير كشمير من الهند. ولكن لا فلسطين تحررت ولا كشمير استعيدت، مما يعني أن طريق التحرير لا تمر بالضرورة بالحكم العسكري.
وقد أرسى نهرو قاعدة أساسية للنظام الديمقراطي في الهند بعد التحرير والتقسيم، وهو ما لم يستطيع أن يفعله محمد علي جناح في باكستان. ومع الديمقراطية تعالج الهند قضايا التنوع العرقي والديني والاجتماعي بنجاح أحياناً وبتعثر أحياناً أخرى. ولكن بالعسكرتاريا تزداد مشاكل التنوع في باكستان صعوبة إلى حد إلغاء التنوع من أساسه. ومن أخطر نتائج ذلك، تفجر الاصطدامات المذهبية بين السنة والشيعة، وبين المسلمين والهندوس، وحتى بين المسلمين والمسيحيين الذين لا يشكلون سوى أقلية صغيرة، ومن هنا تبدو تجربة الانقسام في شبه القارة الهندية، وكأنها تستولد من جديد في الشرق الأوسط بكل أبعادها العنصرية والدينية والمذهبية، وبكل نتائجها السلبية أيضاً. فالشعوب لا تتعلم من تجارب غيرها.. ولا حتى من تجاربها!
الاتحاد الظبيانية