في حلقة جديدة من مسلسل الإهانات والتوترات المتصاعد بين تركيا وأوروبا (وهو مسلسل ليس مرشحاً أن ينتهي قريبا) قامت وحدات من قوات غربية مشاركة في مناورات لحلف الأطلسي «الناتو» بإطلاق النار على صورة لمؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك. وليكتمل المعنى ويزداد طابع السخرية والمفارقة فإن الصورة التي استخدمت دريئة للتهديف حملت اسم الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان.
الجنود الأتراك المشاركون في التمرين العسكري للحلف في النرويج قاموا بإبلاغ الضباط المسؤولين عنهم وصولاً إلى قائد الجيش خلوصي أكار الذي أبلغ إردوغان بالحادثة، وكما هو مفترض، فإن الرئيس التركي قام بسحب جنوده من المناورة فورا، وصرّح، وهو واقف أمام صور له ولأتاتورك، أن «تحالفاً من هذا النوع غير ممكن أبداً».
الحادثة لم تكن، كما ادعى المسؤول عنها، خطأ غير مقصود، لأن حادثاً آخر جرى وقام به موظف آخر حيث فتح حساباً باسم «رجب طيب إردوغان» في برنامج محادثة بإطار دروس المحاكاة وأعطى رسائل عن «إقامة علاقات مع قادة دول عدوة».
يتغذّى التوتر المتصاعد بين أوروبا وتركيا على خلفيّة تاريخية بعيدة تعود لأيام الإمبراطورية العثمانية وفتوحاتها التي نجحت بضمّ بلدان في شرق أوروبا ووصلت إلى وسطها مهددة إمبراطورية آل هابسبورغ النمساوية عدة مرات على مدى قرن ونصف.
تبع ذلك نهضة أوروبا الصناعية وحروب بلدانها الكثيرة وصولاً، في الحرب العالمية الأولى، إلى محاولة دول غربيّة إنهاء الخطر التركي إلى الأبد باحتلال تركيا وتفتيتها إلى دول، وتقاسمها بين المنتصرين، وهي محاولة أفشلتها حركة انبعاث قوميّ وعسكريّ تركي، وانتهت بانتصارات عسكرية وسياسية للجيش التركي بقيادة مصطفى كمال على اليونانيين الذين احتلّوا أجزاء كبرى من البرّ التركيّ والبريطانيين الذين كانوا يحتلّون اسطنبول وعلى الإيطاليين في أنطاليا والفرنسيين في هاتاي (لواء أسكندرون).
يحاول إردوغان التماهي بهذا الإرث التاريخي لأتاتورك في معاركه الحالية مع أوروبا، بشكل يلأم جروح الأيديولوجيا الماضية التي سببتها العلمانية الفظة التي اتبعها مصطفى كمال مع هويّة تركيا الإسلامية وثقافتها، مستبقياً عناصر الكبرياء القوميّة وإرادة الحفاظ على جغرافيا البلاد والعداء المرير لقوى التقسيم والتفتيت إضافة إلى الأيديولوجيا الإسلامية التي تكاملت، بطريقة مدهشة، مع عناصر جوهرية مهمة من علمانية أتاتورك (النظام الديمقراطي والسلطات الثلاث وسيادة القانون)، وهذا، على الأغلب، ما يفسّر ربط منفّذ الإهانة النرويجية أتاتورك بإردوغان والتهديف عليهما معاً، بحيث يُهان أتاتورك الذي منع احتلال الأوروبيين لبلاده، مع إردوغان الذي يستعيد تراث الأخير القوميّ المكافح ويضيف عليه رمزيّة الإسلام السياسي المعتدل في عصر صار مطلوباً فيه مساواة الإسلام (وهو محيط كبير لثقافات واسعة بهويّات معقّدة ومتنوعة تمتدّ عبر ثلاث قارات وعشرات البلدان)، بالإرهاب، والإرهاب فحسب.
تظهر الإهانة الأخيرة، وربما للمرة الأولى، رمزيّة مدهشة، لأنها تكشف نفاقاً غربيّاً مزمناً يدّعي العداء لإردوغان رابطاً ذلك بانتهاكات حقوق الإنسان، أو بتراجع الديمقراطية والقوانين، ملمّحاً، في أحيان أخرى، إلى الطابع الإسلامي لحكمه، والخطر الذي يمثّله ذلك على أوروبا، ولكن دريئة «أتاتورك/إردوغان» تظهر أن العداء هو لتركيّا، على اختلاف أيديولوجياتها ونظم حكمها، اللهم إلا إذا كان حكامها أتباعاً صغيرين للغرب، فعندها تصبح انتهاكات حقوق الإنسان وتراجع الديمقراطية وسوء استخدام القوانين (كما كان الحال فعلاً أيّام الانقلابات العسكرية) قضايا نافلة لا تستحق النقاش