تتقاسم روسيا مع إيران راهن سورية ومستقبلها، حسب ما تدل عليه وقائعالتموضع العسكري الروسي، والتغلغل الايراني في نسيج المجتمع والاقتصاد، وخصوصا في العاصمة دمشق، حيث يتم تبديل السكان بالقوة، وتجري احتفالاتٌمذهبيةٌ استعراضيةٌ تنظمها طهران، وتمثّل أقل الطوائف عدداً في بلد الأمويين.
وقد جاءت التصريحات، أخيرا، لوزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بخصوص تفسير اتفاق روسي أميركي أردني في جنوبي سورية، لتدلل على الوجهة الروسية في هذا التقاسم، حين قال إن مليشيات إيران لن يتم إقصاؤها عن مناطق الجنوب، وإن المقصود بالاتفاق هو القوات غير السورية! وهو تصريحٌ يثير العجب، اذ يعتبر فيه السيد لافروف مليشيات إيران اللبنانية والعراقيةوالأفغانية بمنزلة قوات سورية، أو أنها كذلك. وكان الأردن قد شدّد، من جهته، على الدوام بأنه لن يقبل وجود مليشيات مذهبية قريبا من حدوده، وذلك يشمل حُكماً مليشيات إيرانية، إضافة إلى جماعات مسلحة تدور في فلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة تحرير الشام (جبهة النصرة). وبهذا، يقوم وزير الدبلوماسية الروسية بتأويل الاتفاقيات، لطمأنة الحليف الإيراني بأن هذا الحلف باقٍ في أرض سورية، حتى لو أثار ذلك حفيظة دول أخرى. أما رأي السوريين أنفسهم في مستقبل بلادهم، فهو ما لا يعني السيد لافروف، المهجوس بعظمة روسيا الجديدة، ولو على حساب حياة شعوب أخرى وحقوقها.
والحال أن المحور الروسي الإيراني مكينٌ وثابت، وتكاد موسكو لا تتحالف مع أحد في
“يتقدم المحور مع إيران واقعياً في أهميته، بنظر موسكو، على علاقاتها ببقية الدول”
المنطقة، بقدر تحالفها مع الحكم الإيراني، على الرغم مما يبدو من اختلافاتٍ بين النظامين في موسكو وإيران (بدأت هذه الاختلافات تتقلص مع التقييدات المتزايدة على الآليات الديمقراطية في روسيا). ذلك أن موسكو تبني استراتيجيتها على الحلول محل الوجود الأميركي كلما أمكن ذلك، وبكل الطرق المتاحة، وذلك في إطار التنافس على العظمة “الإمبراطورية” العابرة للحدود. تجد موسكو في طهران خير ظهير وشريك لها، فطهران أيضا ما زالت تهتف بالموت لأميركا، ويتخلل هذا الهتاف إبادة مجموعات بشرية غفيرة غير أميركية. وبما أن طهران مُصمّمة، إضافة إلى تطوير تسليحها، على اختراق النسيج الاجتماعي للمنطقة، والتمركز الدائم فيها، ودعوة الدول والشعوب إلى الاعتماد على طهران، بدلاً من واشنطن والغرب عموما، فإن نشاطها هذا يثير رضى موسكو، حيث تشق الجمهورية الاسلامية الطريق إلى موسكو على حساب النفوذ الأميركي، وليس مهماً ما يحدث خلال ذلك للشعوب المستهدفة. “فالسياسة هي شيء آخر غير الديمقراطية، وحقوق الإنسان”.
وبالنظر إلى وقائع قريبة، فخلال الضجة التي أثيرت حول وضع رئيس الحكومة اللبنانية (المستقيل)، سعد الحريري، في الرياض، فقد لوحظ أنه، إلى جانب الحملة التي شنها حزب الله على السعودية، عمد السفير الروسي في بيروت، ألكسندر زابسكين، إلى التلويح بأن بلاده قد تطرح مسألة الحريري على مجلس الأمن، علما أنه لم يمض شهران على زيارة العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، إلى موسكو، ووصفتها الأخيرة بأنها تاريخية. وقد جرى فيها توقيع اتفاقيات مهمة.. ومغزى الموقف الذي عبّر عنه السفير أن بلاده لا تمنح أية أولوية لعلاقتها مع الرياض، وأنها لن تتوانى عن التساوق مع طهران هنا وهناك. وخلال العامين الماضيين، زار الرئيس فلاديمير بوتين طهران مرتين، حيث أكد لمضيفيه على رسوخ التحالف بينهما، إضافة ‘لى القاهرة دون غيرها من العواصم العربية أو الخليجية، حيث جرى توقيع صفقات تسلح بقيمة ثلاثة مليارات دولار.
والمجال الأكثر استهواء لموسكو، في منافستها الولايات المتحدة على التمدّد والهيمنة، هو التسلح. وقد فاخر المسؤولون الروس مرارا بأن الأسلحة الروسية التي جرى استخدامها في سورية (يمكن ملاحظة نتائجها على المدن السورية) قد زادت من طلبات الشراء على السلاح الروسي. وإيران في مقدمة زبائن موسكو في مجال التسليح والتعاون العسكري، فالسلاح يقوم على عقد صفقات عاجلة وآجلة (بلغت خلال السنوات العشر الماضية نحو 25 مليار دولار في أقل تقدير)، ويتطلب وجود خبراء روس ومعرفة مسبقة إجمالية أين سيستخدم هذا السلاح. وإيران، شأنها شأن روسيا، تختزل العظمة القومية بالعظمة العسكرية أولاً وعاشراً. وبين البلدين تعاون نووي وعسكري شامل. وخلال العام الجاري، استخدمت روسيا قاعدة همذان الإيرانية لضرب أهداف في سورية. وتقف روسيا على الدوام إلى جانب إيران في كل ما يتعلق بالملف النووي الإيراني. وبهذا، فإن تفاهمات استراتيجية قائمة بين الجانبين. وبينما تواصل
“تبدي موسكو، في مناسباتٍ عدة، أسفها على رحيل معمر القذافي”
روسيا “الاستفادة من غموض السياسات الغربية وتناقضاتها تجاه الشرق الأوسط” على حد قول خبيرة روسية (أنا يورتشيفسكايا)، فإن طهران تنهج النهج نفسه. وقد التقى البلدان على العداء لموجة الربيع العربي، وتبدي موسكو، في مناسباتٍ عدة، أسفها على رحيل معمر القذافي، وقد ذهبا معاً بعيداً جداً في قمع الحراك السوري، واستهداف المرافق المدنية باستخدام كل أنواع الأسلحة الثقيلة، والتسبب بوقوع أعداد هائلة من الضحايا المدنيين. وقد تواصل التنسيق بين الجانبين بشأن مستقبل سورية بابتكار منصة أستانة، وقد ضمت الحليفين، الروسي والإيراني، ثم جرى جذب تركيا إليها (بلدان متحالفان، مقابل بلد واحد). وعلى الرغم من وجود هذه المنصة التي تجمع الدول الثلاث، فإن رئيس الدبلوماسية الروسية يصرح بأن مليشيات إيران وقوات بلاده هي التي تتمتع بشرعية الوجود في سورية، في قفزٍ عن الوجود التركي، وعن مخرجات أستانة، علما أن تركيا تأثرت أكثر من روسيا وإيران، بما لا يقاس، بتداعيات الأزمة السورية، ففي مقابل نحو مليوني لاجئ سوري في تركيا، لم تستقبل روسيا ولا إيران لاجئا سوريا واحدا.
في ضوء ما تقدّم، لا يبدو مستغرباً أن تبدي موسكو كل هذا الحرص على مليشيات إيران، على الرغم من صبغتها الطائفية الفاقعة، واستهدافها مكونا واحدا وبيئة اجتماعية بعينها، وأن تنسق معها. ولا تقل هذه المليشيات، في نظر موسكو، أهمية عن العلاقة مع دولٍ تضم وجوداً أميركيا على أرضها. وغاية الإرب بالنسبة لموسكو، كما يقول الخبير الروسي، ديمتري ترينين، هي أن تكون ندّاً لأميركا. أما بقية الغرب (أوروبا بالذات) فإن أهميتها تقِلّ، في أنظار موسكو التي ترى، حسب الخبير، أن هناك مقابل أميركا وأوروبا منطقة شاسعة جدا هي أور اسيا التي تجمع روسيا والصين والهند وإيران وتركيا، وهي مدار اهتمام روسيا التي ترى نفسها “قارّة بذاتها”، وليست جزءا من أوروبا.
استناداً إلى ما يقوله الخبير الروسي، وما تنطق به الوقائع، فإنه وبما أن إيران هي “الأنشط” في دول الشرق الأوسط، وتسهم في تقليص النفوذ الأميركي، وبصرف النظر عن مضمون هذا النشاط، ومدى قبول الشعوب به، فإن روسيا تقيم محوراً ثابتاً وراسخاً معها، وحيث يتم الدفاع الروسي عن إيران في سائر المحافل الدولية، وبما يجعل هذا المحور يتقدم واقعياً في أهميته، بنظر موسكو، على علاقاتها ببقية الدول، وخصوصا الدول التي تقيم علاقات وثيقة مع أميركا.
محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد