الرئيس الأميركي دونالد ترمب ذهب بعيداً -بقراره اعتبار القدس عاصمة لـ”إسرائيل”- في شطب “حل الدولتين”، والإلغاء الفعلي لاتفاقأوسلو، وحسم الصراععلى القدس مبكراً لصالح “إسرائيل” كمقدمة للذهاب نحو “يهودية الدولة”، باعتبار القدس عاصمة للمؤمنين (اليهود والمسيحيين اليمينيين) بالعالم وفق رؤية موغلة في القدم (3000 سنة)، حسب الرواية العبرية.
بدأ تهويد القدس -في ظل الاحتلال البريطاني- قبل النكبة (عام 1948)، وبعد حرب 1967 زاد بتوسعه في القدس غرباً وبضم القدس الشرقية، وفي ظل اتفاق أوسلو تغوّل الاستيطان لتمثل القدس المهوَّدة مساحة وازنة من الضفة الغربية.
ويتم ذلك وفق تشريعات وأنظمة إدارية تكرس القدس “عاصمة للمؤمنين في العالم”، وتحويل المنطقة إلى أضخم مشروع سياحي يحمل شعار “الهيكل”، على حساب المناطق السكنية العربية بما فيها سلوان ورأس العامود.
“تُنفّذ إسرائيل -بشكل متسارع- مشاريع ترميم وتوسيع لباحة “حائط البراق” والمناطق المحيطة، وفق خطة لوزارة الأديان الإسرائيلية بموازنة 45 ملون شيكل، وتشمل إنشاء مصلى عصري لليهود وصفوف لتعليم التوراة، وتوسيع ساحة “المبكى” لتتسع لـ40 ألف زائر، وسيكون بذلك عام 2018 وما يتلوه من أعوام حقبة تهويد صعبة على المدينة المقدسة”
وبشكل متسارع تُنفَّذ مشاريع ترميم وتوسيع لباحة “حائط البراق” والمناطق المحيطة، وفق خطة لوزارة الأديان الإسرائيلية بموازنة 45 ملون شيكل، وتشمل إنشاء مصلى عصري لليهود وصفوف لتعليم التوراة، وتوسيع ساحة “المبكى” لتتسع لـ40 ألف زائر، وسيكون بذلك عام 2018 وما يتلوه من أعوام حقبة تهويد صعبة على المدينة المقدسة.
إن القدس -حسب وعد ترمب- تقوم على أساس توراتي مقدس، وستكون بعدد سكانها المليون خالية أو شبه خالية من العرب (70/30) وصولاً إلى (12/88)، عبر التهجير والتضييق والجدار العازل.
فمن خلال مكتب خاص تابع لوزارة الداخلية الإسرائيلية؛ تجري عملية تفريغ صامت للقدس من أهلهابسلوك حكومي متعاقب، سعياً لتهويد ديمغرافي باعتبار الفلسطيني مقيما وليس مواطنا، مع سحب هويات متضاعف، وتعليق لطلبات جمع الشمل.
وكذلك رفض تسجيل المواليد، ومصادرة الأراضي، ومنع الترخيص للبناء، وهدم المنازل، والحرمان من الخدمات الأساسية، فضلاً عن قائمة الطلبات والشروط التي لا تنتهي وتهدد بإلغاء إقامة أكثر من 70 ألف مقدسي.
وتستند الخطة الجغرافية الإسرائيلية إلى انتشار يهودي في غرب وشرق القدس، وتخصيص 6000 دونم في شرقها لزيادة التوسع الاستيطاني بمخطط عمراني يتضمن أراضي شاسعة، وتقليص أرض العرب إلى حد إبقائهم في أبراج، مع تشجيعهم على مغادرة القدس إلى الضواحي، وفصل أحياء فلسطينية كاملة عن القدس، كما صرح به بنيامين نتنياهو مؤخراً مؤكدا موافقة ترمب على ذلك.
هذا فضلاً عن قطع الصلة بين شمال الضفة وجنوبها، والتهام (10%) من مساحة الضفة بهذه الطريقة، وصولاً إلى تحقيق أغلبية يهودية مطلقة بتشجيع زيادة هجرة اليهود إلى القدس بإغراءات وفرص عمل، وخاصة المتدينين منهم لما يميزهم من نسب تكاثر مرتفعة، وذلك بإتمام بناء 250 ألف وحدة سكنية بنسبة إشغال (123%).
ويصاحب ذلك فصل المناطق العربية عن الأحياء اليهودية، في ظل محدودية الأراضي المعروضة للتنمية الحضرية، والمتغيرات الديمغرافية السريعة، مع تخصيص جزء أكبر من الأراضي للخدمات العامة، وفق إستراتيجية بؤر متعددة الاستعمال ومراكز حيوية تتنوع أغراضها، مع كثافة سكانية يمكن علاجها بدمج المؤسسات العامة في قطعة واحدة بتعدد طوابق واستخدام مزدوج.
ومن ذلك توسيع المستشفيات اليهودية بـ1800 سرير، وإنشاء مستشفييْن بسعة 800 سرير، وإدراج ذوي الدخل المنخفض في الخدمة، وتوفير الرفاه الاجتماعي لليهود بـ3600 سرير لكبار السن، وتخصيص 5000 وحدة سكنية لهم بتخصيص 1000 دونم، على قاعدة أنها مؤسسات العاصمة التي تمثل المركز الديني لـ”إسرائيل”.
وفي المقابل، يجري تفريغ البلدة القديمة من سكانها العرب، والقضاء على البنية التحتية دفعاً لمغادرتها شمالاً، وتفريغ قلب المدينة من حركة المرور لفرض مزيد من السيطرة وعزل الأرض العربية عما حولها.
“القدس الكبرى” تسعى إلى السيطرة على مناطق مترامية في بلدية واحدة، مع سيطرة تدريجية بمنع أي حقوق بلدية للمواطنين العرب، وإيجاد مركز حضري يستحيل معه سياسياً واقتصادياً وجود أي سيطرة فلسطينية على أي جزء منها.
هذا مع إحداث تحوّل ديمغرافي لصالح المستوطنين الممتد وجودهم من مستعمرة جفعات زئيف غرباً إلى بسجات زئيف شمالاً، والتي تتبعها مستوطنات الشمال بما فيها بيت إيل ومستوطنة معاليه أدوميم المرتبطة بمركز المدينة، والتي تعتبر نقطة جذب سياحي على طريق البحر الميت وأريحا.
“الدعم الحكومي الإسرائيلي في القدس يهدف إلى تحقيق دور القدس كعاصمة سياسية وأكاديمية وإدارة حكومية، وسينصب -خلال هذه الفترة- على تشجيع الاستثمار وخاصة التكنولوجي والبيوتكنولوجي، ودعم المؤسسات الأكاديمية والبحث العلمي، ودعم أسعار الأراضي لصالح التملك اليهودي ومصادرة الأراضي للحاجة العامة، وكل ذلك على قاعدة “الثقل اليهودي””
وبذلك تمتد القدس شرقاً حتى مستوطنة فيرد يريحو (37 كم)، وغرباً حتى مستوطنة بيت شميش (27 كم)، وكفر عصيون (41 كم) جنوباً، وعيون الحرامية (45 كم) شمالاً.
وستسهَّل حركة المستوطنين نحو مركز القدس -دون المرور وسط التجمعات السكانية العربية- عبر أنفاق سريعة وطرق التفافية، وباستخدام أمثل لطبوغرافية الأرض والدمج المبرمج لمخطط كاندل (عام 1966)، ومخطط (1967-1987)، ومخطط (1994-2025).
ستلتف الطرق حول القدس وتغطي الحزام الشرقي، وتربط الشرق بالجنوب مجمعة شوارع طويلة تلتقي في عدة مداخل خارج التجمعات السكانية العربية لتعزلها وتحول دون تمددها العمراني، وتربط المستوطنات مع مركز القدس.
وسيربط المنطقةَ الصناعية قرب مطار اللد والمنطقةَ الصناعية قرب مطار قلنديا طريقٌ يمتد من الشمال إلى الجنوب حتى كفر عصيون عبر نفق جيلو، مع بناء مناطق صناعية جديدة إحداها قرب جبل أبو غنيم.
وأخطر مخططات التهويد لمركز القدس يبدأ من وادي الكدرون شرقاً وجنوباً، وتتخللها أنفاق حتى الجامعة العبرية بجبل سكوبس والعيسوية وشمال العيزرية وحتى معاليه أدوميم.
وبذلك تتشكل المدينة من ثلاث مجموعات سكانية تختلف ثقافياً ومادياً، مع معالجة نسبة الفقر الكبيرة في القدس مقارنة بباقي المدن، فضلاً عن نسبة الأيدي العاملة وخاصة الأكاديميين، فهناك مخطط لإضافة 200 ألف عامل، مع توسيع المعروض من الأراضي والمساكن والعقارات شرق القدس، وكل ذلك على حساب الحصة العربية.
ولأجل ذلك؛ فإن الدعم الحكومي الإسرائيلي في القدس يهدف إلى تحقيق دور القدس كعاصمة سياسية وأكاديمية وإدارة حكومية، وسينصب -خلال هذه الفترة- على تشجيع الاستثمار وخاصة التكنولوجي والبيوتكنولوجي، ودعم المؤسسات الأكاديمية والبحث العلمي، ودعم أسعار الأراضي لصالح التملك اليهودي ومصادرة الأراضي للحاجة العامة، وكل ذلك على قاعدة “الثقل اليهودي”.
والتطور الأكاديمي للقدس اليهودية يعتمد أربع إستراتيجيات تتمثل في منح ثقل الصناعات العصرية المرتبطة بفروع التكنولوجيا والإلكترونيات والبيوتكنولوجيا والأبحاث الطبية، وزيادة ثقل التعليم العالي وما يصاحبه من خدمات صحية وسياحية وسكانية وفندقية، وتقليل عدد العاملين في الدوائر الحكومية، وتقليل وزن الصناعات التقليدية للحفاظ عل البيئة.
تُعتبر القدس -وفق الرؤية اليهودية بعد وعد ترمب- مركزاً وعاصمة حقيقية، بحيث سيضم مركزُ القدس المجمعَ الحكومي وإدارة مركز المدينة، ومعاهد القدس، والمدارس الدينية، وأكاديمية هداسا، وحرم الجامعة العبرية. فضلاً عن الحرم في جبل سكوبس، ومستشفى “شعارية تصاديق”، وغالبية المعاهد الأكاديمية تربط بخط قطار خفيف، مع نقل شبكي بين الأحياء ومركز المدينة.
وعلاوة على ذلك يتوسع الإعمار الأكاديمي في القدس بإنشاء جامعة تكنولوجيا المعلومات، ونقل كلية الزراعة إليها باعتبار القدس ستحتوي مناطق الأغوار والمياه، وبإنشاء جامعة يهودية عالمية تدرس باللغة الإنجليزية لتخدم 60 مليون إنجيلي متطرف في العالم، ومساكن طلاب، وكليات فنون، ومعهد للبحوث، وجامعة خاصة للمتدينين.
يساند ذلك إستراتيجية تكريس السمة التاريخية للقدس اليهودية كمركز للثقافة والتعليم وفق أرقى المواصفات الإقليمية والعالمية، والذي مثلت فيه الجامعة العبرية نموذجاً قديماً وحيوياً في صناعة المشهد اليهودي بالقدس، وذلك عبر الدمج التكاملي للبدائل بين التعليم العالي والمتوسط بشكل يرتبط بالتطور الصناعي والتجاري والسياحي والزراعي للقدس.
“إن المرحلة حرجة والليالي حُبلى، والقدس تسقط بسبب غطرسة ترمب، والسؤال هو: كيف سيواجه الشعب الفلسطيني عمليات شطب القدس؟ وإن أولى خطواته في ذلك هي إعلان انتهاء حقبة أوسلو، وتحقيق مصالحة جادة عبر برنامج إنقاذ وطني عاجل يستند إلى مؤسسات الشعب الفلسطيني (حكومة + منظمة)، ومن أولى الخطوات كذلك تعزيز الوعي المقدسي، وتفعيل المقاومة بكافة أشكالها”
وكذلك عبر تطوير معهد للمهن الخفيفة (Hi Tech)، وتطوير مدرسة للحكم الرشيد لضرورتها، ونقل كلية الأمن الوطني وكلية القيادة المركزية، وإدراج العلوم الاجتماعية إلى جانب العلوم التوراتية (معهد “بيب” للذكور ومعهد “طال” للإناث).
ولتكون المدينة اليهودية موَّحدة؛ يجب أن توفَّر حلول بديلة للسكان العرب تُقترح لهم في “إسرائيل” وليس في القدس لزيادة تهجير العرب، ويقابل ذلك إنشاء مساكن للطلاب الوافدين من داخل “إسرائيل” وخارجها لدعم قوة جذب القدس عبر التعليم الأكاديمي.
تعتبر السياحة -وفق الرؤية اليهودية للقدس عاصمة لـ”إسرائيل”- رافداً رئيسياً، فالتراث وقدسية المكان مصدر أساسي للترويج السياحي. ويتم تطوير عناصر الجذب السياحي بتحديد المواقع السياحية بشكل مركزي بالتوازن بين المناطق السياحية والخدمات الفندقية، عبر امتداد الجبل، ومحطة القطار، وشارع الملك داود، والساحة الروسية، وبوابة مندل، وبنايات الأمة، ومدخل المدينة، والمدينة القديمة، وعين كارم.
وكذلك إعادة تأهيل المباني التاريخية بتوسيع الفنادق، وتنويع وسائل المبيت عبر استثمار يهودي. وسيتحقق ذلك -وفق رؤية القدس بعد وعد ترمب- بتعزيز القدس باعتبارها مدينة عالمية ومركزا تاريخيا سياحيا.
وذلك عبر شبكة مركزية تتمثل في: البلدية، ومكتب الحكومة، وسلطة الآثار، وسلطة حماية البيئة، والحدائق القومية، وشركة تطوير شرق القدس، وسلطة تطوير القدس، وصندوق طوارئ الخدمات الفندقية عبر خطة إستراتيجية لتطوير السياحة وفق محدِّد “منع العرب من إقامة المشاريع”.
إذا كان ما عُرض على ياسر عرفات في كامب ديفد (عام 2000) يتمثل في الانتقال إلى الأقصى عبر نفق تحت الأرض وأبو ديس هي العاصمة، فما المعروض اليوم ضمن “صفقة القرن” التي بدأت بصفعة القدس من ترمب، وتقدم للفلسطينيين الترحيل عن القدس؟
إن كل ما جرى من مفاوضات “سلام” عبر مشروع “حل الدولتين” كان كسبا يهوديا للوقت، حيث استمرت مشاريع التهويد والاستيطان بأموال صهيونية تُضَخ لتهويد المدينة، مع مزيد من التضييق على العرب.
إن المرحلة حرجة والليالي حُبلى، والقدس تسقط بسبب غطرسة ترمب، والسؤال هو: كيف سيواجه الشعب الفلسطيني عمليات شطب القدس؟ وإن أولى خطواته في ذلك هي إعلان انتهاء حقبة أوسلو، وتحقيق مصالحة جادة عبر برنامج إنقاذ وطني عاجل يستند إلى مؤسسات الشعب الفلسطيني (حكومة + منظمة).
ومن أولى الخطوات كذلك تعزيز الوعي المقدسي، وتفعيل المقاومة بكافة أشكالها، وتشكيل حلف القدس الذي يضم أحرار العالم في 128 دولة رفضت قرار ترمب، وما يمكن أن يُشكله ذلك من استنهاض شعبي عالمي يكون محوره القدس.
محمد إبراهيم المدهون
الجزيرة