قام وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، منتصف فبراير/ شباط الجاري، بزيارة مهمة لتركيا، ربما تكون حاسمةً في مسيرة العلاقات بين البلدين، من أجل تجاوز النقطة الحرجة التي وصلت إليها، بحيث إمّا أن يتم إصلاحها أو ستتدهور أكثر، وسيكون من المستحيل بعد ذلك إعادتها إلى وضعها الطبيعي وسكّتها الصحيحة، كما قال وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو.
التقى تيلرسون الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في لقاء مطوّل بصورة لافتة (ثلاث ساعات وربع) عمل فيه جاووش أوغلو شخصياً مترجماً، في خطوة غير مسبوقة ونادرة، الذي التقى نظيره الأميركي في اليوم التالي في لقاء مطوّل أيضاً، خصّص لمتابعة ومناقشة آليات وتفاصيل الأسس والمحددات التي تم التوافق بشأنها في اللقاء مع الرئيس.
العنوان الأبرز لحصة الزيارة واللقاءات، ولو نظريا، كان تمسك الطرفين بعلاقات التحالف الاستراتيجي والتاريخي بينهما، والسعي بالتالي إلى تحسين العلاقات وتطويرها، وإعادتها إلى وضعها الطبيعي، كما ينبغي أن تكون عليه بين حليفين تاريخيين، مع حذر وتحسب تركيين، وانتظار الخطوة الأولى الأميركية ورؤية الأفعال على الأرض، وعدم الاكتفاء بالأقوال فقط.
من أجل ذلك، تمثلت النتيجة الفعلية والأبرز للزيارة بالتوافق على تشكيل لجنة عمل عليا مشتركة بين الطرفين، بحلول منتصف مارس/ آذار المقبل، على أبعد تقدير، لنقاش القضايا محل الخلاف. وستشرف وزارتا الخارجية في البلدين على تشكيل اللجنة وقيادتها، على أن تضم ممثلين أمنيين وعسكريين وقانونيين من الجهات المعنية، أو ذات الاختصاص بالملفات التي سيجري العمل عليها.
وحسب ما أعلن وزير الخارجية التركي، فإن اللجنة ستنبثق عنها ثلاث لجان فرعية، ستعمل
على ثلاثة ملفات، أو مواضيع أساسية، هي قضية فتح الله غولن وتشعباتها وتفاصيلها، والتطورات في سورية وكيفية مواجهتها، أو تنسيق العمل فيها، كما ملف الإرهاب، أو بالأحرى الحرب على الإرهاب بشكل مشترك ومنسّق أيضاً.
وفي ملف غولن، يفترض أن تقدم تركيا للأجهزة الأميركية المعنية مزيداً من الأدلة، إذا كانت هناك حاجة لذلك على تورّطه في محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، كما على قيادته تنظيما غير شرعي في تركيا. وعموماً، وعلى ما يبدو، أبدت السلطات التركية بعض المرونة، وباتت تقبل بحل وسط يتمثل بمحاكمته في الولايات المتحدة بدل تسليمه إلى بلاده لمحاكمته فيها، مع استمرار طرح مطلب وضعه في الإقامة الجبرية، أو فرض مزيد من المراقبة والقيود على تحركاته ونشاطاته المضرة والسلبية للأمن والمصالح التركية.
طبعاً للتأكيد على مدى أهمية الملف للحكومة والشعب في تركيا، اعتبر نائب رئيس الوزراء، بكير بوزداغ (صحيفة تركيا 12 فبراير/ شباط الجاري)، أن غولن لتركيا هو تماماً مثل أسامة بن لادن للولايات المتحدة. ومن هنا، يمكن تفهّم الغضب الرسمي والشعبي من احتضان واشنطن له، وعدم القيام بأي خطوة تجاهه، حتى مع التأكد واليقين من قيادته تنظيما بشكل غير شرعي، ذا أهداف سياسية واضحة.
في السياق الأمني كذلك، يفترض أن تتم كذلك مناقشة قضية المعتقلين في البلدين، علماً أن تركيا ترفض محاكمة مواطنيها على خلفية انتهاك الحصار الأميركي ضد إيران، كما ترفض الأسس والأدلة التي استندت إليها السلطات الأميركية، والتي تم الحصول عليها بشكل غير شرعي، أو بالتعاون مع جهات تعتبرها أنقرة إرهابية وخارجة عن القانون، ويفترض أن تتعاطى معها واشنطن بالطريقة نفسها.
وتطرح واشنطن ملف اعتقال أحد مواطنيها، وهو داعية دين، بتهمة الاتصال مع جماعات إرهابية محظورة، كما تطرح ملف ملاحقة بعض الموظفين الأتراك (أو مزدوجي الجنسية) واعتقالهم، في السفارة والقنصليات الأميركية، وتعتبرها مسيّسة أو ذات أهداف وأغراض سياسية بحتة، وليست أمنية.
وفي السياق السوري، ستكون نقطة الانطلاق طبعاً مدينة منبج، وهي مدينة عربية غرب نهر الفرات تحتلها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) السوري، وهو الذي يعد الجناج السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا إرهابياً. وكان هناك وعد أميركي من منتصف أغسطس/ آب 2016 بانسحابهم إلى شرق الفرات، بعد تحرير المدينة من “داعش”، وهو مطلب تركي دائم، علماً أن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، اعترف بعدم تنفيذ واشنطن بعض وعودها لتركيا. كما أن أنقرة اقترحت، في هذا الصدد، وكحلّ وسط، انتشار قوات تركية أميركية فيها لحمايتها من “داعش” والنظام، مع إعطاء الحرية لأهلها بإدارة حياتهم بأنفسهم، وذلك لنقض حجة واشنطن بالاعتماد على ذلك الحزب الكردي السوري، حصراً لمواجهة “داعش”، أو الخشية من عودته لاحتلال المناطق المحرّرة.
وفي السياق السوري أيضا، جرى النقاش كذلك حول العملية التركية في عفرين. وثمّة تأييد أميركي مبدئي لحق تركيا في الدفاع عن نفسها وأمنها، مع تأكيد على أن المدينة لا تتبع للتحالف الدولي لمحاربة “داعش”، في تخل واضح عن حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته، ولكن ثمّة اعترافاً أميركياً بانتقال مقاتلين منه بأسلحتهم الأميركية، وخبرتهم القتالية والتدريبية الأميركية، أيضاً من الرقّة وشرق الفرات إلى عفرين، لقتال دولةٍ يفترض أنها حليفة لواشنطن، وهو ما ينبغي إيقافه، أو على الأقل لن تقبل به تركيا، لا في عفرين، ولا في منبج نفسها، علماً أن واشنطن باتت تتعاطى مع عملية غصن الزيون أمرا واقعا. ولذلك تتحدث نادراً عن العملية، وقد بات تركيزها منصباً أكثر على منبج، والملف السوري بشكل عام.
وسيطرح، في السياق السوري، حتماً، ملف شرق الفرات، وإصرار تركيا على تطهير كامل المنطقة الحدودية من “إرهابيي” حزب العمال الكردستاني، بما فى ذلك منع إقامة كيان شوفيني إرهابي، كما تأسيس جيش حدودي من إرهابيين معادين لها، ليس وفق التعبير التركي فقط، وإنما حتى وفق التقويم أو التوصيف الأميركي نفسه، كما قدمته الاستخبارات في تقرير رسمي للكونغرس، علماً أن الاهتمام أو موطئ القدم الأميركي منصب أكثر على المناطق الغنية بالنفط، شرق دير الزور وجوارها.
سورياً، تطرح أنقرة كذلك ملف مدينة الرقة، وضرورة تسليمها إلى أهلها، مع استعداد للعمل مع واشنطن على تسوية سياسية وفق إعلان أو بيان جنيف، شرط عدم التذاكي الأميركى في ما يتعلق بوحدة سورية وسلامة أراضيها.
الملف الثالث العالق والمعقّد بين البلدين هو ملف الإرهاب، ولا خلاف طبعاً على اعتبار تنظيمي داعش وجبهة النصرة إرهابيين، ومحاربتهم في الإقليم، بل في المنطقة كلها، ولا
خلاف حتى على حزب العمال الكردستاني التركي، ووجوده غير الشرعي في جبال قنديل في العراق، على الرغم من التذاكي الأميركي، وغض النظر عن وجودهم في جبل سنجار، وتحالفهم السرّي، وحتى المعلن مع جماعة الحشد الشعبي العراقي المسلّحة، أميركياً أيضاً. ولكن ثمة خلافاً على تبعية ما يعرف بحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات الحماية الشعبية في سورية لحزب العمال، مع تعامل واشنطن معهم بشكل مباشر، بل وتسليحهم بأسلحة أميركية وتدريبهم وحمايتهم، علماً أن ثمة تقريرا أميركيا رسميا قدّم للكونغرس، أكد على تبعية حزب الاتحاد وقوات الحماية لحزب العمال، وتلقى الأوامر والقيادة من جبال قنديل، وهي النقطة الأشدّ حساسيةً في العلاقات بين الجانبين.
الخلاف هنا أمني سياسي، ويتعلق بلامبالاة واشنطن تجاه مصالح حليفتها، وعدم ممانعتها، بل وتشجيعها إقامة كيان انفصالي لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، من دون أي اعتبار لوحدة الأراضي السورية أو سلامتها، وحتى تأثير ذلك على الاستقرر في تركيا، بل في المنطقة برمتها.
في الأخير، وباختصار، ثمة توافق تركي أميركي نظري مبدئي، ولكنه واضح وعلني، على تجاوز النقطة الحرجة في الاتجاه الإيجابي، وضرورة تحسين العلاقات بين البلدين، كما يفترض بحليفين وضرورة عدم التحرك بشكل منفرد، وإنما معاً وفي سورية، كما قال الوزير تيلرسون نفسه، وهو أمر تحبذه تركيا ومستعدة له. ولكن بعد التوافق على أسس واضحة صلبة متماسكة، تحديداً في ما يتعلق بتجاهل واشنطن للمصالح والتوجهات التركية في سورية، وتحركها المنهجي والمصمم بشكل منفرد مع تنظيمٍ تعتبره أنقرة انفصالياً وإرهابياً، وحتى بعض المؤسسات والأجهزة في واشنطن نفسها، بما في ذلك وكالة المخابرات الأميركية تعتبره كذلك.
ماجد عزام
صحيفة العربي الجديد