على عكس الشائع فإن تنظيم الدولة اعتمد على تحالفات محلية لينشأ ويتمدد في المحافظات السنية السورية، كل منطقة حسب طبيعة تكوينها؛ فكثير من قيادات تنظيم الدولة الذين مكنوه من التوسع في سوريا، هم قادة سابقون في الجيش الحر والمجالس العسكرية الثورية وناشطون بارزون في حراك الثورة السورية، أو جهاديون سوريون في سجون صيدنايا، في وقت لم يكن فيه لتنظيم الدولة وجود.
ثوار ثم جهاديون..
في حمص عاصمة الثورة، فإن الساروت وهو من أهم رموز الثورة السورية، لم يكن وحيدًا بانضمامه لتنظيم الدولة؛ فقد سبقته مجموعات من مقاتلي عشيرته البدوية النعيم، وهي من أكبر عشائر حمص، كما أن كتائب الفاروق الأبرز في بدايات الثورة بحمص، انضم الجزء الأهم منها للتنظيم. كما أن عددًا من ناشطي الثورة البارزين كأبي يزن الحمصي انضم للتنظيم مبكرًا قبل أن يقتل في هجمات شنتها الفصائل على التنظيم.
في منيج وجرابلس، وهما من أبرز معاقل التنظيم في ريف حلب، فإن من يقود تنظيم الدولة اليوم هم أنفسهم قادة المجلس العسكري الثوري السابقون. وفي دير الزور، قتل قبل أسابيع قائد عسكري لتنظيم الدولة، وهو الرائد العبد الله الذي كان في بدايات الثورة قائد المجلس العسكري الثوري في دير الزور. وفي دير الزور أيضًا، فإن أبرز قادة التنظيم مثل عامر الرفدان، وصدام الجمل، كانا من قادة الجيش الحر وتحالفت عشائرهما مع التنظيم في معاركه مع عشائر من فسة، أما الشعيطات الذين كان الصدام معهم هو الأكثر دموية، فإن من تصدر المواجهة من طرف التنظيم هو أبو علي الشعيطي المنتمي لتنظيم الدولة، وهو من أبرز وأسبق ناشطي الثورة السورية والتنسيقيات في دير الزور، الذي قاد جيش العسرة مع الجيش الحر لمؤازرة القصير خلال حصارها من قبل النظام.
في إدلب والقلمون، فإن عددًا من الكتائب المسلحة المؤثرة بايعت التنظيم مبكرًا كلواء داوود، الذي كان كتيبة أساسية في صقور الشام، بزعامة أبي عيسى الشيخ قائد أحرار الشام اليوم. وفي ريف الحسكة، فإن معظم من يقاتل في صفوف التنظيم هم أنفسهم عناصر فصائل الجيش الحر من مقاتلي القرى العربية التي تعيش أزمة تهديد متواصل من الميليشيات الكردية اليسارية.
في ريف حماة، فإن طيبة الإمام، وهي أكثر القرى السورية تفوقًا علميًا ورفعة في المستوى التعليمي، باتت من أكبر معاقل التنظيم؛ فقد انضم المئات من أبنائها لتنظيم الدولة مبكرًا، خاصة أن عددًا من قادة ريف حماة كان قد خاض التجربة الجهادية في العراق، وأسس أولى الفصائل المسلحة بريف حماة، التي بدأت مبكرًا بشن هجمات على النظام بعد ثلاثة أشهر من انطلاقة الثورة.
كما أن مشاريع التنظيم الإعلامية والصحية الكبرى، أسسها شبان من أوائل الثوار السوريين في ريف حماة وحلب؛ فكلية الطب التي أعلن عنها التنظيم في الرقة هي فكرة ثلاثة طلاب طب من ريف حماة، كانوا أطباء في مشاف ميدانية لعلاج فصائل الجيش الحر. أما أهم مؤسسة إعلامية للتنظيم وهي «وكالة أعماق»، فقد أسسها الناشط الحلبي مشعل ريان وسبعة من رفاقه من كادر «وكالة حلب نيوز» التي أسسها ناشطو التنسيقيات الثورية، قبل أن ينحاز ريان ورفاقه للتنظيم حين تعرض لهجوم من فصائل في حلب.
في درعا، بات لواء شهداء اليرموك، وهو من أوائل فصائل الثوار في درعا، الحليف الأبرز لتنظيم الدولة، وهو مثال آخر على الكيفية التي تتشكل فيها لوحة التنظيم من فسيفساء محلية في كل محافظة.
تحالفات العشائر
كثير من نزاعات تنظيم الدولة والفصائل الأخرى هو امتداد لنزاع محلي في المجتمع السني السوري بخلفيات عشائرية أو مناطقية، أو حتى بين تيارات إسلامية سورية.
أما أكبر المعارك الدموية التي شنها التنظيم ضد النصرة والعشائر المنافسة في دير الزور، فكانت معارك عشائرية بأوجه فصائلية؛ فالتنظيم اعتمد على دعم عشائر وقادة جيش حر سابقين، كصدام الجمل في القائم، وعامر الرفدان الذي انتقل من الجيش الحر للنصرة، ثم الدولة وحشد عشيرته البكيل في جديدة عكيدات لقتال عشائر متنافسة معها في الشحيل، وهو نزاع محلي بين عشائر الشحيل وجديدة عكيدات حول معامل الغاز وآبار النفط، شهد الكثير من المواجهات بينهما قبل ظهور تنظيم الدولة. والرقة قصتها لا تختلف كثيرًا من حيث تحالفات التنظيم العشائرية.
نزاعات قديمة داخل الساحة الجهادية في سوريا
ففي الرقة وحلب وهما كبرى «الولايات» في سوريا، فإن قادة التنظيم هما جهاديان سوريان معروفان هما أبو الأثير الحلبي وأبو لقمان، والنزاع بينهما وبين باقي قادة الفصائل الجهادية السورية كالأحرار والنصرة، نزاع قديم يمتد لخلافات «الجهاديين الشاميين الداخلية» في سجن صيدنايا؛ حيث لم يكن وقتها من وجود لا لتنظيم الدولة ولا لجهاديين خارج سوريا، وعندما التقيت أبا الأثير الحلبي قبل عامين في كفر حمرا بريف حلب، كان جل حديثه عن فتاوى التكفير المتبادلة بين قادة الفصائل منذ ذلك الوقت داخل السجن، وكيف قرر أغلبية السلفيين في السجن وبعد معاناة «الاستعصاء» الشهير حينذاك، إيقاف التمرد وتسليم أنفسهم لقوات ماهر الأسد، وبقيت مجموعة أبي الأثير التي قتل معظمها عند اقتحام قوات الأسد.
لم يكن وقتها سبب هذا الخلاف تنظيم الدولة أو جهاديين من خارج سوريا، إنما خلافات إخوة العائلة الجهادية تتكرر بمظاهر فصائلية اليوم، ويجرها كل طرف لصالحه بعد أن يعطيها لبوسًا شرعية.
نزاعات جهوية مناطقية بين الفقراء والأكثر فقرًا
في ريف دمشق، كان آخر حدث بارز هو سيطرة تنظيم الدولة على مخيم اليرموك، وفي الحقيقة فإن تنظيم الدولة الذي دخل مخيم اليرموك لم يكن إلا مقاتلي حي الحجر الأسود الفقير الملاصق للمخيم، هم من عشيرة البحاترة النازحة من الجولان، كانوا منضوين في عدة فصائل للجيش الحر كلواء الحجر الأسود في بدايات الثورة، ولأهل مخيم اليرموك حساسيات قديمة منذ عقود مع سكان الحجر الأسود، رغم أنهم يشتركون في الفقر والنزوح. بعد سيطرة التنظيم على المخيم يحدثني أحد مقاتلي مخيم اليرموك الناقمين على تنظيم الدولة، ببيان أن سبب المشكلة هم «داعش كلاب أهل النار»، وختم حديثه بأنه يكره «داعش»؛ لأنه يعتبر أن أهل الحجر الأسود «لو كلاس»، وأهل اليرموك «هاي كلاس»، عندما تسمع هذه المقاربة تعرف كيف نجح الأسد بحكم أغلبية سنية حولها لأقلية مبعثرة بلا رابط يجمعها، حتى في أكثر المجتمعات فقرًا، وما زال النظام يستفيد من عبثه بوعي الكثيرين في المناطق السنية بعد أربع سنوات من عمر الثورة.
أما القصة الأكثر سريالية للنزاع بين رفاق السلاح وأخوة الثورة في الريف الدمشقي، فقد تجلت عندما أعلن جيش الإسلام اعتقال قائد «الدواعش الإرهابيين» في القابون برزة وهو منذر سلف؛ لتملأ الإعلام العربي وقتها صور لمقاتل يشبهه بشعره الطويل وهو يصافح ضابطًا في النظام، كدليل على نظرية ارتباط النظام بـ “داعش” بعد أن ظننا أن الوعي الجمعي قد تجاوزها، باعتبارها مناكفات فصائلية يرددها جمهور الفصائل المتنازعة إلى أن يكتشف في كل مرة أنها ليست سوى ترهات، وبالفعل ظهر الرجل الشبيه في مقطع فيديو ليتبين أنه شبيح من حماية مطار أبو الظهور بإدلب، وليس قائد «داعش» منذر سلف، الذي اعتقل بريف دمشق. أما «الداعشي العميل للنظام» منذر سلف، فهو كما وصفه ناشط من غوطة دمشق: “قيادي سابق في فصائل الثوار بالغوطة، لم يترك جبهة بريف دمشق إلا وقاتل فيها النظام، ومن أوائل ثوار حي ركن الدين الدمشقي”.
يعتقد كثيرون أن ما يميز تنظيم الدولة هو دور الجهاديين الأجانب وممارسات عناصره المتشددة في قطع الرؤوس مثلًا، فأما قطع الرؤوس لجنود النظام فهي ممارسات تقوم بها كل الفصائل الجهادية من النصرة لأحرار الشام لجند الخلافة وغيرها، ولكنهم لا ينشرونها في إصداراتهم، والفصائل الإسلامية المعتدلة والجيش الحر تقوم بالكثير من الممارسات المشابهة، وهذا أمر لا يمكن ضبطه في ساحة حرب أهلية متوحشة، وربما قد يستغرب البعض إذا عرف أن فصائل المعضمية الأكثر اعتدالًا قطعت رؤوس 13 جنديًا ومجندة معظمهم من قناصي النظام في ساحة عامة بالمعضمية قبل أشهر وسط حضور الأهالي الناقمين، تمامًا كما يفعل تنظيم الدولة، لكن الفرق هو الإعلان؛ لذلك فإن هذه الممارسات المتطرفة ليست حكرًا على جماعة ما؛ بل تصبح جزءًا من سلوك أي فصيل يخوض صراعًا أهليًا متوحشًا، سواء كان جهاديًا أو غير ذلك، حتى إن كان غير إسلامي، كما فعلت التنظيمات اليسارية والمارونية في لبنان خلال الحرب الاهلية؛ بل حتى الدولة الخليجية الكبرى التي تحارب الجهاديين وتدعم «الفصائل المعتدلة» في سوريا ما زالت تنفذ أحكام قطع الرؤوس في الساحات العامة بشكل رسمي حتى اليوم. وحتى لا يذهب البعض بعيدًا في التهويل من انتهاكات الجهاديين، فإن الإحصائيات تشير إلى أن العام الأخير شهد مقتل نحو ألف مدني على يد تنظيم الدولة والنصرة معًا، بينما بلغ عدد ضحايا الفصائل الإسلامية الأخرى والجيش الحر ألفًا ومئتي مدني، رغم أن كل هذه الفصائل لا تسيطر على أكثر من ثلث مناطق المعارضة.
أما الدور الأجنبي، فهو حاضر عند كل الفصائل سواء كانوا ممولين حكوميين من أنظمة عربية وغرف تسليح وضباط مخابرات غربية، أو حتى كجهاديين عرب وإسلاميين يقاتلون إلى جانب فصائل إسلامية وجيش حر في بعض الأحيان، وطبعًا ما دام الأجانب خارج المشروع الجهادي الكبير فلا يشار إليهم بالإرهابيين، مثلًا كان أبرز القضاة الشرعيين لـ “صقور الشام” التي انضوت في «أحرار الشام» كان جهاديًا مصريًا، وكثير من الانتصارات المهمة التي حققها الثوار على النظام في إدلب وحلب، شارك بدور كبير فيها مقاتلون جهاديون من الشيشان والتركمانستان، كما حدث مؤخرًا في جسر الشغور وقبلها الملاح في ريف حلب الشمالي، عندما لعبت جماعة المهاجرين والأنصار دورًا كبيرًا في صد تقدم قوات النظام الذي كاد يحاصر حلب، وأذكر أنني سألت قائد إحدى الكتائب الخاصة المعروفة بالاقتحامات، عن كيفية تمكنه من إخفاء وجود مقاتلين شيشان في كتيبته، التي تلقت دعمًا من فصيل مرتبط بغرف التسليح الخليجية لعدة اشهر، قبل أن تنفصل وتعلن هويتها الجهادية، فقال: «إن فصيل الجيش الحر استفاد من قوته على الأرض وقدم نفسه كفصيل بارز ميدانيًا؛ ليتلقى دعمًا من غرف تسليح من دون أن تعرف بوجود جهاديين أجانب يكنون عداء كبيرًا لتلك الأنظمة».
طبعًا هذه الحالة لا يمكن تعميمها على معظم فصائل الجيش الحر التي أسهمت بدور كبير في مقاتلة قوات النظام، وقدمت تضحيات كبيرة من أبناء القرى والأرياف، قبل أن يلتحق مع الفصائل الثورية مقاتلون جهاديون ليشكلوا حلفاء لسنة سوريا أمام حلفاء النظام الشيعة من مقاتلين من إيران والعراق ولبنان، مع الفرق أن الأخيرين تدعمهم أنظمتهم ولا تعتبرهم دواعش إرهابيين.
فصائل الجبهة الإسلامية التي شكلتها كبرى الفصائل السورية كالتوحيد والأحرار وجيش الإسلام والصقور، تلقت دعمًا ماديًا وتسليحيًا من الدول الإقليمية، وبعضها كان من شخصيات سلفية خليجية، إضافة للدعم الذي تلقته فصائل أركان الجيش الحر من غرف التسليح الحكومية والغربية. إذن، فأكثر الفصائل التي هي على خلاف اليوم مع التنظيم لها ارتباطات غير سورية تبدو عميقة في المنظومة، الإقليمية الحكومية العربية والغربية في بعض الأحيان، بينما استطاع «تنظيم الدولة» وشقيقه النصرة من الاحتفاظ باستقلالية كبيرة عن الخارج، عن الأنظمة وأجنداتها وتمكنا من بناء قدراتهما ذاتيًا واعتمادًا على حلفائهما المحليين من قوى المجتمع السني في العراق وسوريا. وأصبح من المفارقات أن يوصف ارتباط فصيل ثائر سوري بأنظمة معادية للإسلاميين قامت الثورات العربية من أجل إسقاطها، يوصف بأنه ارتباط ثوري لا يخرج الفصيل عن انتمائه السوري أو الشامي، بينما وجود علاقة لفصيل سوري مع جهاديين من هذه البلدان نفسها ولكنهم معارضون لأنظمة هذه البلدان يوصف بأنه خروج عن ثوابت الثورة السورية.
وهكذا، فإن كل الفصائل المسلحة المعارضة في سوريا على اختلاف راياتها وتحزباتها تشكلت من المادة البشرية والبيئة السنية المحافظة نفسها، ومقاتلو الثوار بانتماءاتهم الإسلامية تبدلت خياراتهم من مشروع لآخر، من الجيش الحر للتنظيمات الجهادية المحلية وصولًا للجهادية العابرة للحدود القطرية، وتم هذا التطور حسب مقتضيات الواقع والتجربة الذي يمنح فكرة ما ومشروعًا ما، زخمًا يمكنه من التفوق أكثر من غيره. إنه الواقع حين يغذي فكرة كما يقول الديالكتيك.
وما دفع الكثير من مقاتلي الفصائل الأخرى للانضمام لتنظيم الدولة، هو عدم قدرة فصائلهم على تشكيل أي كيان متماسك حتى في محافظة واحدة؛ بحيث ظلت تلك الفصائل محدودة المشروع في إطار عدة قرى أو عدة أحياء، بينما تمكن تنظيم الدولة من تحديد تعريف هوياتي للذات، وبناء كيان سياسي وعسكري منضبط يشكل حلفًا سنيًا متماسكًا وعابرًا من سنة العراق وسوريا، بهدف مواجهة الحلف الشيعي المنضبط من طهران إلى بيروت. كما أن الكثير من المقاتلين كانوا يقولون باستمرار أن كل تكتلات الفصائل التي تلقت دعمًا إقليميًا حكوميًا عربيًا هائلًا تلاشت تقريبًا، بينما تنظيما الدولة والنصرة تعرضا لحرب الإقليم والقوى الدولية، لكنهما نجحا بقدرات ذاتية على تكوين أوسع قوة عسكرية سنية، ربما ساعدهما في ذلك تراكم الخبرة الإدارية والسياسية بعد التجربة الجهادية العراقية التي عاشوها والتي تصادمت مع المشروع الإيراني قبل عشر سنوات من اندلاع الثورة السورية.
وتبقى السمة المرتبطة بتنظيم الدولة، هي شراسته الإقصائية تجاه أي فصيل منافس، ورغبته في فرض سلطته المستبدة ولو بالدخول بصدامات دموية داخل العائلة الجهادية؛ بل وداخل التنظيم نفسه، كما حصل مع انشقاق النصرة، متبعًا منطق الغلبة بالسيف نفسه الذي سنه كل الخلفاء والسلاطين عبر تاريخنا، وفي سوريا ورغم أن أوسع معارك الاقتتال السني السني حصلت مع الدولة؛ إلا أن كثيرًا من الفصائل سقطت أيضًا في فخ صراعات أمراء الحروب؛ فالنصرة قاتلت حركتي حزم وجمال معروف وأقصتهما خارجًا، وزهران علوش شن حربًا شرسة على كل منافسيه في غوطة دمشق ومنع تشكيل أي فصيل لا يخضع لإمرته؛ إنها حلقة صراعات أمراء الحروب التي لن تنتهي إلا بانتصار الأقوى.
إن أحد الاختلافات المهمة في مشروع تنظيم الدولة عن باقي الفصائل حتى الجهادية منها، هو تمرده الكامل على المنظومة الإقليمية العربية الحاكمة، ورفضه التماهي مع الفكرة القطرية التي قامت عليها الأنظمة المدعومة بشكل كامل من الغرب؛ لذلك فإن العداء الشديد الذي يتعرض له تنظيم الدولة، إنما يرجع لكونه يمثل خطر بعث فكرة كادت أن تضمحل، تتمثل بإعادة إحياء كيان عابر للحدود يعتمد «الهوية الإسلامية السنية» بديلًا عن «الهوية الوطنية» التي رسخت في عقول الأجيال منذ قرن، وتقود تفكير حتى الفصائل المفترض أنها جهادية عندما أبدلت السورية بالشامية، من دون أن يلتفتوا إلى أن الشام جغرافيا وليس هوية، ولم يكن تاريخيًا دولة مستقلة عن العراق، كما أن أعظم إمبراطوريات تحققت لدمشق وبغداد وهي الأموية والعباسية لم يكن حكامها من الشام ولا من العراق؛ بل من الجزيرة العربية.
ولعل من المفارقات أنه حتى حدود سايكس بيكو الأولى قبل التعديل، كانت تضم الموصل ومعظم الأنبار ضمن سوريا، ولو كان العم سايكس بيكو أبقاها لكان السوريون اليوم يعتبرون الموصل جزءًا من الوطن المقدس؛ لذلك تبقى هذه المقاربة فاصلة في تحديد مشاريع الفصائل، فهناك من السوريين الإسلاميين من أراد الخروج من قفص الحدود القطرية الذي سجنه فيه الأسد، ثم أخرج هو نفسه منه بتوسيع انتمائه لحلف طائفي عابر من طهران حتى بيروت؛ لذلك، فإن الصراع الذي قد يحدث في سوريا بين فصائل الإسلاميين السلفيين، خصوصًا تنظيم الدولة والنصرة والأحرار وجيش الإسلام، هو صراع على مشروع مرتبط بتعريف الذات.
ومن المعروف أن الفصائل السلفية السورية كأحرار الشام وجيش الإسلام، قدمت تضحيات كبيرة وتمثل قطاعًا واسعًا من المجتمع السني الثائر، ولكنها ترى إمكانية الاستفادة مرحليًا من تحالفات مع أنظمة عربية مدعومة من الغرب؛ لتحقيق مصلحة نبيلة وهي إسقاط النظام، ولكن ما قد يحدث هو أن الأنظمة ومن ورائها الغرب هي التي ستستفيد من الفصائل في محاربة تنظيم الدولة والنصرة، ولأن هذه الفصائل أيضًا تكرر متلازمة الغساسنة والمناذرة في الاستقواء بالخارج من أجل إزاحة خصوم الداخل وإن كانوا من العائلة؛ فإن النتيجة ستكون الاقتتال السني السني الدموي وليس إسقاط نظام الأسد. وهذا يعني أن أبناء القرية الواحدة قد يتقاتلون فيما بينهم، وأبناء العشيرة الواحدة، بل حتى الإخوة، ولا زلت أذكر ما قاله أبو عيسى الشيخ القائد الحالي لأحرار الشام عندما كان يقود فصيل صقور الشام وهاجم تنظيم الدولة في سراقب بريف إدلب، ليجد بعد دخول القرية أن أحد مقاتلي فصيله يكاد أن يبكي، فسأله ما بك، فأجابه أن من بين القتلى الذين وجد جثثهم بعد المعركة، شقيقه في تنظيم الدولة.
التقرير