الاحتجاجات الحالية التي تحدث في العراق هي الأخطر التي يشهدها البلد منذ سنوات، وهي تحدث في قلب بعض من أكبر حقول النفط في العالم. وخلال الاحتجاجات، تم إضرام النار في مقرات الحكومة العراقية في البصرة، وكذلك في مكاتب الأحزاب والميليشيات التي يلقي عليها السكان المحليون اللوم في التسبب بظروفهم المعيشية البائسة. وقام المحتجون بحصار وإغلاق ميناء العراق البحري الرئيسي في أم قصر، الذي يستورد البلد من خلاله معظم الحبوب وغيرها من الإمدادات. كما تم إطلاق قذائف الهاون على المنطقة الخضراء في بغداد لأول مرة في سنوات. ولقي عشرة أشخاص على الأقل حتفهم بالرصاص على يد قوات الأمن خلال الأيام الأربعة التي سبقت كتابة هذه السطور، في محاولة فاشلة بذلها الأمن لاخماد الاضطرابات.
لو كانت هذه التظاهرات تحدث في العام 2011 خلال فترة الربيع العربي، لكانت قد تصدرت عناوين الأخبار في كل أنحاء العالم. لكن هذه الأخبار تلقت، كما هو واقع الحال، تغطية محدودة جدا في الإعلام الدولي، الذي يركز على ما قد يحدث في المستقبل في إدلب السورية أكثر مما يركز على الأحداث التي تقع اليوم في العراق.
لقد سقط العراق مرة أخرى من خريطة الإعلام في نفس اللحظة التي تلفه فيها أزمة يمكن أن تزعزع استقرار البلد كله. وينطوي عدم اهتمام الحكومات الأجنبية والمنافد الإخبارية على تشابهات منذرة مع سباتها السابق قبل خمس سنوات، عندما تجاهلت تقدم “داعش” قبل أن يستولي على الموصل. بل إن الرئيس أوباما قلل، بكلمات ندم عليها فيما بعد، من شأن “داعش” حين شبهه بفريق صغير لكرة السلة، والذي يلعب خارج الدوري الذي ينبغي أن يلعب فيه.
أسباب الاحتجاجات واضحة في ذاتها: العراق تحكمه طبقة سياسية مهترئة، والتي تدير مؤسسات الدولة العراقية كآلة للنهب. وهناك بلدان فاسدة أخرى، خاصة من تلك الغنية بالنفط والموارد الطبيعية الأخرى، حيث يصبح الذين لهم صلات سياسية فاحشي الثراء. ولكن، مهما كان مستوى النهب كبيرا، فإن شيئاً ما عادة ما يكون قد بُني في نهاية اليوم.
أما في العراق، فلا تحدث الأمور على هذا النحو، ومن بين أكثر ضحايا خمسة عشر عاماً من السرقة بالجملة سخطا، المليونا نسمة من سكان البصرة. وبعد أن كانت مدينتهم تلقب بفينيسيا الخليج، تحولت قوات البصرة إلى مكبات مفتوحة لمياه المجاري، وأصبحت مياهها شديدة التلوث إلى حد يجعلها سامة في واقع الأمر.
اندلعت التظاهرات في وقت سابق من هذا العام بسبب الافتقار إلى التيار الكهربائي، والمياه، والوظائف، وكل خدمة حكومية أخرى. وتفاقمت المظالم لأن شركات النفط حول البصرة تصدر الآن من النفط الخام أكثر من أي وقت مضى. وفي آب (أغسطس)، وصل مجموع الصادرات إلى أربعة ملايين برميل يوميا، والتي تدر على الحكومة في بغداد نحو سبعة مليارات دولار كل شهر.
ثمة بضعة أشياء تجسد فشل الدولة العراقية بطريقة صارخة، مثل حقيقة أنه على الرغم من ثروتها النفطية الهائلة، فإن البصرة اليوم مهددة بتفشي مرض الكوليرا، وفقا لمسؤولي الصحة المحليين. وقد عالجت مستشفيات البصرة مسبقا نحو 17.500 شخص عانوا من الإسهال المزمن وآلام المعدة على مدى الأسابيع القليلة الماضية، بعد أن أصيبوا بالمرض بسبب شرب المياه الملوثة. ويختلط الماء المالح بالعذب، مما يجعل المياه مغثية ويقلل من فعالية الكلورين الذي ينبغي أن يقتل البكتيريا بخلاف ذلك. وهناك الكثير من البكتيريا في المكان لأنه لم يتم تحديث نظام المياه منذ ثلاثين عاما، حيث تختلط المياه العادمة المتسربة من الأنابيب المكسورة بمياه الشرب.
لم تكن الحكومات العراقية المتعاقبة جيدة في التعامل مع مثل هذه الأزمات، حتى في أفضل الأوقات، وتضرب هذه الأزمة الأخيرة في لحظة سيئة بشكل خاص لأن الكتلتين السياسيتين الرئيسيتين في البلد تفشلان في تشكيل حكومة جديدة في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 12 أيار (مايو). وقد اجتمع البرلمان للمرة الأولى في الأسبوع قبل الماضي، وفشل في انتخاب رئيس وقرر لنفسه عطلة لعشرة أيام، لكنه عاد فقرر عقد جلسة طارئة لمناقشة أزمة البصرة.
ولكن، حتى لو تم تشكيل حكومة جديدة تحت رئاسة رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، أو أي شخصية أخرى، فإن ذلك ربما لن يُحدث الكثير من الفرق. كان الحزب الذي أبلى بلاء حسنا في الانتخابات هو الذي يتبع رجل الدين القومي الشعبوي مقتدى الصدر، والذي كان متحالفا مع الحزب الشيوعي الصغير، ليؤكد بذلك على سياساته العلمانية التقدمية وغير الطائفية. ومن ناحية أخرى، يدعي المنتقدون أن الوزراء الصدريين في الحكومة السابقة كانوا فاسدين بنفس المقدار مثلهم مثل نظرائهم من الأحزاب الأخرى. ولا تقتصر المشكلة على الفساد الفردي، وإنما تمتد إلى الآليات السياسية ككل: حيث يتم تقاسم الوزارات بين الأحزاب التي تستخدمها بعد ذلك كأبقار لحلب النقود وكمصدر لتوزيع الوظائف بالمحسوبية. وقد شرح لي مظهر صالح، المستشار المالي للعبادي، في بغداد في وقت سابق من العام كيف يعمل هذا النظام، مضيفا أنه “ما لم يتغير النظام السياسي، فسيكون من المستحيل محاربة الفساد”.
هذا النظام من منح الوظائف للمقربين، بغض النظر عن الجدارة الشخصية أو المؤهلات المهنية، أتى بعواقب وخيمة على العراقيين العاديين. ولا يعرف الكثيرون من أولئك الذين التحقوا بهذا القطار سيئ التوجيه على مدى الخمس عشرة سنة الماضية كيف يحسّنون الأوضاع، حتى لو أنهم أرادوا ذلك. ويقال أن محافظا سابقا للبصرة قام بإعادة جزء كبير من ميزانيتها لأنه قال أنه لم يستطع أن يفكر في أي شيء يمكن أن ينفق عليه النقود.
لماذا يحدث هذا الآن؟ لقد حققت الحكومة العراقية، مدعومة من الولايات المتحدة، وإيران والعديد من الحلفاء الآخرين، أعظم انتصار لها في العام الماضي عندما استعادت الموصل من “داعش” بعد حصار دام تسعة أشهر. وفيما ينطوي على مفارقة، عنى ذلك النجاح أن الكثير من العراقيين لم يعودوا الآن منشغلي الذهن بالتهديد الذي شكله “داعش” على أنفسهم وعائلاتهم. وأصبحوا يركزون بدلا من ذلك على الحالة المزرية التي يعيشها بلدهم –الافتقار إلى الطرق، والجسور، والمستشفيات والمدارس، فضلا عن نقص الكهرباء والماء، في مكان تصل فيه درجات الحرارة في الصيف إلى نحو 50 درجة مئوية.
يقول الكثير من العراقيين إنهم يفضلون أن يشهدوا تغييرا جذريا –أو حتى ثوريا- لكنه سيكون من الصعب التخلص من الوضع الراهن، مهما كان غير مرض. وليست النخبة وحدها هي التي تستفيد من عوائد النفط. فهناك نحو 4.5 مليون عراقي يتقاضون الرواتب من الدولة، والذين لديهم هم أيضاً –وليس المليارديرات المنحرفين فحسب- حافز للحفاظ على الأمور كما هي، مهما كانت سيئة.
سوف يواصل العراق على الأرجح الخضوع لسوء الحكم من حكومة ضعيفة ومختلة وظيفيا، وبما يفتح الباب أمام المخاطر المختلفة. فقد سقط “داعش” ولكنه لم يذهب تماما: ويمكن أن يعيد تعبئة قواته، ربما في مظهر مختلف، ثم يقوم بتصعيد الهجمات. والانقسامات في داخل المجتمع الشيعي تصبح أعمق وأكثر حدة بينما يزداد نفوذ الصدريين –الذين لم تتعرض مكاتبهم، على عكس مكاتب الأحزاب الأخرى، للإحراق على أيدي المتظاهرين.
لن تقتصر آثار الأزمة السياسية التي تصبح مزمنة على العراق. وينبغي أن يكون العالم الخارجي قد تعلم هذا الدرس مما حدث في أعقاب الغزو الأميركي في العام 2003. وتسعى الأحزاب العراقية دائما إلى رعاة خارجيين، ويخدمون مصالحهم كما يخدمون مصالحهم الخاصة. ويشكل البلد مسبقاً واحدة من ساحات المواجهة المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران. وكما هو الحال مع التهديد بتفشي وباء الكوليرا في البصرة، فإن الأزمة العراقية تميل إلى الانتشار ونقل عدواها إلى المنطقة كلها.
الغد