شهدت معظم المجتمعات العربية، منذ بدايات النهضة في القرن التاسع عشر، تطورا كبيرا للفكر السياسي والاجتماعي الحديث، انعكس في ما يمكن تسميتها الثورة الدستورية التي شارك فيها العرب مع الشعوب المسلمة الأخرى، المتطلعة إلى اللحاق بالعصر، في إطار السلطنات القديمة المتداعية. وقد استمر هذا التطور بعد الانفصال عن السلطنة العثمانية، وتسارع، ولو مع كثير من المخانق، في ظل الوصاية الاستعمارية، وعبر عن نفسه من خلال تمسّك الحركات الاستقلالية بالدستور وبالسيادة الوطنية، ورفض التبعية، ومقاومة السيطرة الأجنبية، والسعي إلى الاستقلال الكامل والناجز. وورثت بلدان عربية عديدة، في المغرب ومصر وسورية والعراق ولبنان والسودان وغيرها، بعد الاستقلال، نظما تعدّدية ديمقراطية الطابع، على الرغم مما كان يشوبها من نواقص وتشوهات، لم يكن من المستحيل التغلب عليها، وتجاوزها مع الزمن.
لكن السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت، في البلدان العربية كما الحال في معظم بلاد العالم، صعودا عاصفا لأفكار الثورة الاجتماعية، وتبنّت أفكارها، كما حصل في روسيا الشيوعية وصين ماو تسي تونغ، نخب “طليعية”، على أمل أن يفتح القضاء على احتكار السلطة والثروة من شرائح قليلة من المجتمع، طريق التقدّم الصناعي والزراعي، ويمكّن المجتمعات من اللحاق السريع بالدول الصناعية الغربية. وقد أنشات هذه الأفكار التي انتشرت في بلدان العالم المتأخرة جميعا، سواء وصل أصحابها إلى الحكم أم لا، مناخا جديدا بدت فيه النظم الليبرالية أو شبه الليبرالية، في مقابل ما يقدّمه النموذج “الثوري” الروسي أو الصيني من فعالية وإنجاز، مهترئة وبالية، لا تفي بالمطالب الشعبية، ولا تستجيب للتطلعات العميقة إلى السيادة والنهضة الحضارية. وخلال السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتسحت الثورات والانقلابات التي ارتبطت بها القسم الأعظم من الدول الصغيرة التي ولدت من حركات تصفية الاستعمار، وعلى أرضية انحسار الهيمنة الأوروبية في القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
بيد أن الأزمات العديدة التي بدأت تعاني منها هذه النظم الثورية، منذ السبعينيات، والزوال
“أصبحت النظم السياسية رهينة مباشرة للمؤسسة الأمنية العسكرية التي لا هدف لها سوى الحفاظ على نفسها”
السريع للأوهام التي ارتبطت بها، وإخفاقها في تلبية المطالب الاجتماعية، والرد على التوقعات التي ولدتها في مرحلة صعودها، كل ذلك وضع حدا للأمال القديمة المعلقة عليها، وأحبط الشارع الشعبي، وأدخل النخب السياسية التي التحقت جميعها تقريبا بالمشروع “الثوري” في أزمة أيديولوجية عميقة، دفع أكثرها إلى العودة إلى “النموذج السائد، أي إلى نظام التعدّدية والتنافس على السلطة، لإعادة بناء الشرعية. كانت بلدان أميركا اللاتينية التي شكل مقتل شي غيفارا صدمة كبيرة لشعوبها، هي السباقة للدخول في هذا الطريق عبر مفاوضات صعبة للتسوية السياسية بين حركات المقاومة المسلحة والنخب اليمينية الحاكمة. لكن ستعقبها بسرعة الكثير من الدول الأفريقية قبل أن تلتحق بها، منذ نهاية الثمانينيات، الكتلة السوفييتية برمتها، أعني الاتحاد الروسي ودول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى جميعا.
(1)
لم يختلف وضع الدول العربية التي دخلت في التجربة ذاتها عن ذلك، فقد كانت مصر سبّاقة لاكتشاف مأزق نموذج النظام السوفييتي، أولا بسبب هشاشة الأسس النظرية والسياسية التي قام عليها هذا النموذج فيها. وثانيا بسبب الضربة المعنوية القاسية التي أصابت السلطة العربية “الثورية” نتيجة الهزيمة المؤلمة التي تكبّدتها في مواجهة القوات الإسرائيلية، وحليفها الأميركي عام 1967. وهكذا بينما بدأت القاهرة في التحلّل من أوهامها الثورية، والعودة إلى طريق الليبرالية، لكن بعد تفريغها من مضمونها السياسي الرئيسي، وهو احترام الحريات العامة وتعزيزها، منذ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وتسلم أنور السادات السلطة من بعده، كانت السلطة “الثورية” في سورية والعراق وليبيا واليمن والسودان وغيره لا تزال تتخبط من دون أن تصل إلى قرار. أما في الجزائر فقد عوّضت الموارد النفطية الكبيرة عن إفلاس النموذج نفسه، وسمحت باستمراره من دون هزات كبيرة حتى التسعينيات، لتلحق تطوّره بنموذج النظم الخليجية الريعية، ولو في ثوب جمهوري.
لم يكن هناك من حيث المبدأ ما يمنع البلاد العربية التي اختبرت النموذج السوفييتي من الخروج السلمي والتدريجي من حكم الحزب الواحد إلى النظام التعدّدي، كما حصل في كل بقاع العالم، باستثناء كوبا وكوريا الشمالية. لكن ما حصل كان معاكسا لذلك. فبدل الخروج من أزمة النظم “الثورية” من باب العودة إلى التعدّدية والديمقراطية، فضلت البلاد العربية الخروج من باب الكمبرادورية الاقتصادية والفاشية السياسية، وإعادة بناء النظم الاستبدادية على أسس جديدة، سواء ما تعلق بالقاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها، أو بنوعية الأجهزة والمؤسّسات التي تستند إليها في فرض سلطتها وإرادة أصحابها، أو بالأيديولوجيا التي تعبر من خلالها عن مصدر شرعيتها. فبالإضافة إلى الطلب الدولي، أو بالأحرى الغربي، على النظم الاستبدادية التي تضمن “الاستقرار”، وتوفر شروطا أفضل للاستثمار الاقتصادي والاستراتيجي، وجدت النخب السياسية والثقافية العربية في التوظيف في المسألة القومية، مع اختصارها في الاعتراض على التوسعية الإسرائيلية، أو دعم القضية الفلسطينية، أفضل وسيلة لإنقاذ نموذج حكم الاستثناء. وهكذا لم تعد ثورية النظم مرتبطةً بتلبيتها تطلعات الجمهور الشعبي من عمال وفلاحين وتقليص الفوارق بين الطبقات، وتسريع وتائر التنمية الاقتصادية وبناء القاعدة الصناعية والتقنية والعلمية للبلاد، وإنما في تأكيد الوحدة الداخلية والإبقاء على النظم القائمة من دون تغيير، فأصبحت الثورية في العقيدة والممارسة رديفا لحكم الاستثناء والمحافظة على قوانين الطوارئ وإلغاء الحقوق الفردية والحريات العامة واستباحة السلطة للفضاء العام السياسي والمدني والديني وإزالة كل “الخصوصيات”.
وكما احتلت البيرقراطية المتحالفة مع أطراف وكسور عشائرية وطائفية واجتماعية محل طبقة العمال والفلاحين مكان الحاضنة الاجتماعية للنظم المتجددة، حلت عقيدة الحفاظ على الأمن، أو مقاومة الصهيونية والوقوف في وجه الاستعمار أو كليهما، موردا للشرعية محل شعارات
“وجدت أكثر الشعوب العربية نفسها في مأزقٍ يصعب الخروج منه”
الثورة الاجتماعية والصناعية والعلمية. وأخذت الأجهزة الأمنية المتقاطعة والمليشيات الموازية والمتنامية التابعة للإرادة الشخصية للحاكم الفرد، تحتل المكانة التي كانت من اختصاص الجيوش الشعبية والعقائدية في تأمين شبكات الدفاع والحماية للنخب الحاكمة، بل في ضمان اتساق النظام بأكمله، وضبط حركته، وتوحيد مؤسّساته، وتسييرها، بما في ذلك تجديد النخب نفسها، والعناية بتأمين العناصر القيادية السياسية والإدارية اللازمة لتشغيل النظام. وشيئا فشيئا، أصبحت النظم السياسية رهينة مباشرة لهذه المؤسسة الأمنية والمليشيات العسكرية التي لا هدف ولا برنامج لها سوى الحفاظ على نفسها، وتخليد الوضع القائم، وتثبيت زعاماته وأعوانه في مواقعهم وأدوارهم، والقضاء في المهد إذا أمكن على احتمال ظهور أي عامل أو عنصر يمكن أن يشكل في المستقبل تهديدا للنظام، فكريا كان أم سياسيا أم اقتصاديا أم تقنيا.
وصار إلغاء الحقوق والحريات وتعليق القانون وتعميم الملاحقات الأمنية وتهديد الأفراد في وجودهم وأرزاقهم علامة الوطنية، أو القومية التي أصبحت تعني الاهتمام بفلسطين، وبرهانا عليها. وما كانت هناك شروط أفضل من ذلك، لتعميم الفساد والرشوة ونهب المال العام، والتخلي عن مسؤوليات الحكم والقيادة لصالح تكوين شبكة المصالح الشخصية من الممسكين بالسلطة والثروة، وتحويل الدولة إلى عصابة، تستخدم القوة والعنف لتحقيق أهدافها الخاصة، ولا تتورع عن أي عمل من أجل ضمان استمرارها وتنمية مواردها وثرواتها ونفوذها.
وبمقدار ما قاد السطو العلني، و”شبه القانوني”، على موارد الدولة والمجتمع إلى تنظيم حرب ضدهما واستعمارهما من الداخل، وقوض في النهاية أي فرصة للتقدم الصناعي والتقني والعلمي للبلاد، وقاد إلى الكساد الاقتصادي وتعميم الفقر وتعميق التفاوت الصارخ بين الطبقات، سوف يقود إلى الثورات الشعبية، ويدخل المجتمعات منذ نهاية العقد الماضي، في حقبة طويلة من الحروب والنزاعات الأهلية.
(2)
ولدت من رحم النظم “الثورية”، أي الانقلابية والاستثنائية، نظم مغلقة كليا، تسير بقوة دفعها الذاتية، وحسب منطقها الداخلي، لا تدين للمجتمع بشيء، ولا تتأثر به أو تلتفت إلى ما يقول، وتقتصر علاقتها به على تحييده، ومنعه من المبادرة أو الحركة أو الاحتجاج. نحن في الواقع أمام آلاتٍ لا يمكن النفاذ إليها، ومن باب أولى فتح حوار معها أو التفاوض، بأي صورة كانت، حول السياسات التي تتبعها. ذلك أنها لا تخضع، هي نفسها، في سلوكها أو سيرها إلى أي
“قادت الثورات المضادة الطغم الحاكمة إلى تبني سياساتٍ أكثر تطرّفاً في العنف والإقصاء والاستثناء”
مفهوم سياسي، وليس لها علاقة بالسياسة أو بالمجتمع. إنها عوالم قائمة بذاتها، تعيش في فلك خاص بها، وتتبنّى مفاهيم وتعتمد معايير من تصميمها، لا علاقة لها بالمعايير القائمة في العالم الخارجي المحيط بها. وبعد أن استملكت موارد البلاد التي وضعت يدها عليها، لم تعد بحاجة كي تضمن بقاءها إلى التعامل أو التفاعل مع أحد من خارجها. ولا للتواصل مع المجتمع أو التعامل معه إلا عبر المؤسسات التي خلقتها هي نفسها، والتي تشكل جزءا من جهاز أمنها، بما فيه المؤسسات غير الأمنية. والمكان المفضل لديها للتواصل مع أفراده، والاتصال بهم هو مكاتب فروع الأمن المنتشرة في كل قرية وحي ودوار. هذه هي الوضعية الوحيدة التي يجد فيها أعضاؤها الأمان والثقة الضروريين، واللغة الرئيسية لبناء علاقاتها مع أفراد الشعب في أثناء ممارستها حياتها الطبيعية، ووسيلتها لفرض الخوة والأمر الواقع عليهم.
هكذا وجدت أكثر الشعوب العربية نفسها في مأزقٍ يصعب الخروج منه، فهي في وضعية يائسة لا تفيد فيها الثقافة ولا السياسة، ولا يمكن أن ينمو فيها أي أمل بالحوار، ولا ينفع معها لا الضغط ولا الاحتجاج ولا الاعتصام. إنها أمام غول نشأ في احشائها، ونما في رحمها، وهو يمتلكها من الداخل ويستبد بكل مواردها ومؤسساتها وإمكاناتها العقلية والمادية معا، ويتحكم بها حتى يكاد يحصي عليها أنفاسها وتنهداتها. ومن هذه الأوضاع الاستثنائية خرجت السياسة الاستثنائية أو سياسة الاستنثاء الأقصى للسياسة، إلغاء الشعب والقضاء عليه وتشريده من طرف، والانتفاضات الشعبية الانتحارية من طرف آخر.
كان من الممكن لثورات الربيع العربي أن تشكل فاتحة لتغيير في علاقات السلطة يعيد الطغم الحاكمة، سواء أكانت طبقات أو شرائح أو نخباً لقيطة، إلى الواقع، ويدفعها إلى القبول بحد أدنى من المساومة على حكم الاستثناء الذي تريد تخليده، ومعه إلغاء أي مفهوم للحقوق والواجبات والقانون والعدالة والمواطنة بل وللسياسة، والاعتراف بوجود شعب، مالك الأرض، تجمع بين أفراده رابطة سياسية تتجاوز بهم الولاءات الأهلية والعصبيات الطبيعية، من طوائفية وعشائرية وأقوامية، لتؤسّس لالتزامات متبادلة يحكمها الولاء المشترك للقانون، وبالتالي الكف عن التعامل معهم كما لو كانوا قطيعا من الماشية، وفي أحسن الأحوال أتباعا وموالين شخصيين. لكنها فعلت العكس. هكذا قادت الثورات المضادة الطغم الحاكمة إلى تبني سياساتٍ أكثر تطرّفا في العنف والإقصاء والاستثناء، فأطبقت على شعوبها بقبضة آلتها الجهنمية الأمنية، لتعيدها إلى أوضاع أسوأ بكثير من السابقة، بعد أن قوّضت أركان الدولة ومؤسساتها، ووضعت المجتمعات في دوامة الفوضى العارمة التي تحتاج فيها إلى زمن طويل، قبل أن تستعيد توازناتها وسكينتها و”رشد”ها وتتمكّن من بناء رد منظم على استباحة فضائها ومحرّماتها.
لكن، بتقويضها دولها ومجتمعاتها حولت هذه الطغم الأزمة من أزمة سياسية وطنية إلى أزمة إقليمية ودولية، ورفعتها إلى مستوىً يجعلها خارج سيطرتها، ونقلتها إلى داخل مجموعة النظم العربية التي اعتقدت أنها، ببنياتها الأبوية وولاءات جماعاتها العشائرية والدينية والمحسوبية، يمكن أن تنأى بنفسها عنها، وتحتمي بها من عدوى فكرة المواطنة والحقوق السياسية والمعنوية المتعلقة باحترام الأفراد والكف عن اغتصاب إرادتهم وضميرهم وتجريدهم من إنسانيتهم، لتسهيل استتباعهم. وأمام شعورها بضغط الأزمة الإقليمية الجارف، لا تجد هذه النظم الأبوية اليوم سوى ارتداء الدرع ذاتها التي ارتدتها من قبل النظم الثوروية المجهضة، واستبدال سياسة الاستثمار في علاقات الولاء الشخصية، على أساس العرف أو الدين أو القرابة أو المحسوبية، بعلاقات الإخضاع الآلي، وبالتالي إعادة بناء آله الحرب الداخلية التي تعتقد أنها الوحيدة التي تضمن وجودها وسيطرتها. لا نعرف بعد من قتل الكاتب السعودي، جمال خاشقجي، بالتحديد، لكننا ندرك أن القتل أصبح العملة السياسية الوحيدة المتداولة في حقل السياسة، في مشرق العالم العربي ومغربه. وما يبدو احتكارا للعنف من طرف واحد في البداية لن يلبث حتى يصبح الرأسمال الأكثر شيوعا ومجانية بين أيدي الجميع في مرحلة ثانية.
هل سيكون لدى المجتمعات العربية القدرة من جديد على تحطيم هذه الآلة الجهنمية، أقصد “الدولة العصابة”، أم سوف تستمر الشروط الإقليمية والدولية التي ساهمت في نشوئها واستمرارها تحول دون ذلك، وكيف؟ هذا سؤالٌ يستحق التفكير، حتى لو أن الإجابة عنه ليست بالضرورة جاهزة.
برهان غليون
العربي الجديد