بعد عام من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي لمصر، سادت حالة من الجدل لدى الرأي العام حول تقييم نتائج سياساته لاسيما في ظل التحديات المتعاظمة التي تواجه الدولة المصرية ، خاصة لجهة الأوضاع الاقتصادية، وتصاعد الإرهاب، والضغوطات الخارجية. ولذا، تسعى السطور القادمة لمحاولة تشريح خريطة المؤيدين والمعارضين للسيسي، والتحديات التي سيواجهها نظام حكمه خاصة في عامه الثاني.
الكتل الثلاث
ويمكن القول إن هنالك ثلاث كتل رئيسية في الرأي العام المصري لديها رؤى مختلفة للعام الأول لحكم السيسي في مصر، ويمكن تفصيل ذلك كما يلي:
– الكتلة الأولى ( المؤيدون)، وهي ترى أن التحسن كان كبيرًا في السياسة الخارجية التي حققت بعض تطلعات المصريين لاستعادة بلادهم مكانتها الإقليمية والدولية، وأن الوضع الأمني عامةً قد تحسَّن، باستثناء الوضع في سيناء. وتتحفظ أغلبية هذه الكتلة على ما تم تحقيقه في الملفات الاقتصادية – الاجتماعية؛ حيث ارتفعت معدلات أسعار السلع والخدمات باضطراد، كما لم تتراجع نسب البطالة بنسبة مُرْضية، واستمرت الشكوى من الترهل الإداري والفساد والإهمال في المواقع الخدمية التابعة للدولة.
ولكن هذه الكتلة تلتمس العذر للرئيس السيسي فيما لم يتم تحقيقه؛ بسبب قناعتها بأن التحدي الذي فرضته الجماعات الإرهابية -وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين- في مواجهة الدولة، لم يكن يسمح بتحقيق طفرات ملموسة في هذا الملف. وتخشى أغلبية هذه الكتلة أن يؤدي تزايد الضغط على الرئيس في هذه الملفات إلى تقويض الدولة وانتشار الفوضى، كما حدث في بلدان أخرى مثل سوريا وليبيا واليمن، كما تعتقد أيضًا أن الرئيس يتعرض لضغوطات ومؤامرات خارجية؛ الأمر الذي يستلزم الصبر على ما تحقق -على قلته- على أمل أن تتحسن الظروف لاحقًا.
–الكتلة الثانية ( المعارضون)، وهي معارضة كليةً للرئيس، وتستهدف بشكل رئيسي تعبئة الشارع حول شعارات إسقاطه ومحاكمة رموز نظامه، وتركز على ما لم يتحقق على كل الأصعدة، فترى أن الأوضاع الأمنية قد ازدادت سوءًا، وأن ما يحدث في سيناء أكبر دليل على ذلك، كما أن السياسات الاقتصادية – الاجتماعية التي اتُّبعت في عهد نظام مبارك السابق كانت –ولا تزال- هي السياسات التي طُبقت في العام الأول للسيسي؛ حيث الانحياز إلى طبقة رجال الأعمال والشرائح الغنية في المجتمع، مدللين على ذلك بعدم التوزيع العادل للأعباء الضريبية، والتراجع عن تطبيق فرض ضرائب مرتفعة على أرباح المضاربين في البورصة.
وتجد هذه الكتلة صعوبة في توجيه النقد إلى السياسات الخارجية للرئيس؛ لكون تحركاته قد عكست قدرًا كبيرًا من النجاح لا يمكن إنكاره. وبدلاً من ذلك يوجهون النقد إلى الولايات المتحدة وأوروبا على اعترافها بشرعية نظام الحكم الذي يرأسه السيسي، رغم ما يرونه من انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وتغول لأجهزة الأمن، وتضييق على الحريات السياسية، فضلاً عن استمرار هيمنة النظام على السلطة التشريعية بعد تأجيل الانتخابات البرلمانية أكثر من مرة.
وتتشكل القاعدة الرئيسية لهذه الكتلة من جماعة الإخوان وحلفائها من بعض تيارات الإسلام السياسي، وحلفائها مثل جماعة ٦ إبريل، ومعهما حركات صغيرة مثل الاشتراكيين الثوريين، والأناركيين، وجزء لا يستهان به من الشباب غير المسيس وغير المنتمي إلى أحزاب سياسية، الذين يعانون من الإحباط بسبب استمرار مشكلة البطالة، وعدم قناعتهم بأن الحياة السياسية تمضي في طريق أفضل، كما تتبنى هذه المجموعة، حصرًا، شعارات معادية لفكرة لعب الجيش دورًا سياسيًّا، ويعتقدون أن النظام القائم هو نظام عسكري يجافي أحلامهم في أن تكون بلادهم محكومة بديمقراطية على غرار بلدان العالم المتقدم.
– الكتلة الثالثة، وهي مثلها مثل الكتلة الثانية- ترى نصف الصورة القاتم، لكنها تدرك أن البدائل المتاحة للنظام الحالي غير موجودة، وأن الإخوان وتيارات الإسلام السياسي لا تزال قادرةً على العودة إلى الحكم إذا استمر الرئيس السيسي في اتباع خطوات بطيئة في كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولا تسعى هذه الكتلة إلى إسقاط الحكم أو تحديه تحديًا سافرًا، لكنها تطالب بالإسراع في تحسين الأجواء التي تساعد الأحزاب السياسية على النمو، والإفراج عن الشباب المحبوس على خلفية كسر قانون حظر التظاهر، وتعديل هذا القانون أو إلغائه كليًّا، وتخفيف القبضة الأمنية للنظام، كما تطالب بإجراءات حاسمة لقطع الطريق على رموز عهد مبارك للعودة إلى المشهد السياسي مجددًا. وترى أن فرض ضرائب متصاعدة على أرباح الطبقة الرأسمالية سيؤدي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولن يضر الاستقرار السياسي أو فرص جذب الاستثمارات الأجنبية.
الحراك المتوقع :
من المسلم به أن هذه الكتل الثلاث ليست ساكنة، ولا يمكن القول بأن أحجامها ستظل على ما هي عليه في العام الثاني لحكم الرئيس السيسي. وتبدو الصعوبة الكبرى في عدم وجود استطلاعات للرأي موثوق بها لتحديد حجم كل من هذه الكتل، والتصنيف الطبقي والسياسي لها في الوقت الراهن.
غير أن ثمة اعتقادا بأن الكتلة الأولى هي الأكبر حيث تجمع بين المؤيدين للرئيس تأييدًا مطلقًا وبلا تحفظات وبين الخائفين من فكرة سقوط الدولة وانتشار الفوضى والذين يؤيدون الرئيس من منطلق أنه لا بديل متاح لنظامه. وينبع هذا الاعتقاد من الحدس العام، وعجز الكتلة الثانية (الرافضة لحكم الرئيس وللنظام رفضًا مطلقًا) عن أن تُعبِّئ الشارع ضده، رغم دعواتها المتكررة للتظاهر والعصيان المدني، ورغم حملاتها الإعلامية الشرسة ضده، كما ينبع أيضًا من عدم قناعة الكتلة نفسها بالخطاب الإصلاحي الذي تتبناه الكتلة الثالثة؛ حيث يرون هذا الخطاب يحمل تناقضًا شديدًا بين الزعم برفض عودة الإخوان إلى المشهد وعدم تقديم بديل في حالة ما أدى الخطاب النقدي الشديد للرئيس إلى تعبئة الشارع ضده وإسقاطه، كما حدث لمبارك.
إذًا ترى الكتلة الأولى أن المؤسسة العسكرية كانت الجهة الوحيدة التي كان يمكن المراهنة عليها لتحجيم الإخوان وإسقاط حكمهم، بعد اتضاح خطورة مشروعهم على أمن ومستقبل البلاد، وأن إسقاط السيسي -كما هو هدف الكتلة الثانية- أو الضغط عليه لاتخاذ خطوات غير محسوبة -وفقًا لمضمون خطاب الكتلة الثالثة- سيؤدي حتمًا إلى انقسام المؤسسة العسكرية، وإلى دخول مصر في حرب أهلية، كما حدث في بلدان أخرى.
وحيث إن الكتلة الثالثة لا تملك بديلاً، ولا يمكنها معالجة احتمال انقسام الجيش، ومن خلفه المجتمع بأسره، فإن نقد السيسي نقدًا مكثفًا والضغط عليه لإحداث تغييرات سريعة دون حساب لتعارض المصالح والرؤى بين فئات المجتمع ونخبه، قد يقوض الحكم ويقود إلى الفوضى الشاملة التي لن يكسب من ورائها أي طرف سوى الإخوان وجماعات الإسلام السياسي المرتبطة بها، التي ستعتبر مجرد سقوط السيسي بمنزلة انتصار لها وانتقام لإخراجها من السلطة ووضع كوادرها وقادتها في السجون.
في إطار ما تقدم يمكن توقع نمط الحراك المحتمل للكتل الثلاثة، من خلال فحص مؤثرين رئيسيين في هذا الحراك:
أولا: سياسات الدولة
لا تزال تصريحات الرئيس السيسي تركز على أن سياساته الاجتماعية – الاقتصادية لن تكون نتائجها ملموسة للمواطن العادي قبل عامين، أي ربما في منتصف العام الثالث من حكمه، وهي فترة ليست بالقليلة مقارنةً بسقف التوقعات التي يطلقها حتى المنتمون إلى الكتلة الأولى المؤيدة له. ومن ثم، فإن تأخر تحسين مستوى المعيشة وخفض معدلات البطالة بين الشباب، ربما يؤدي إلى خسارة السيسي تأييد جزء كبير من هذه الكتلة التي يمكن أن يتوزع المنتمون إليها على الكتلة الثالثة في الغالب، وعلى الكتلة الثانية بنسبة أقل.
وإذا ما تطورت الأمور إلى هذا المنحى فقد لا يجد الرئيس حلاًّ سوى الاستجابة لمطالب الكتلة الثالثة، وهو ما قد يؤدي إلى دخوله في صدام مع أنصار نظام مبارك السابق، وجزء كبير من رجال الأعمال الذين سيرفضون أي سياسات من شأنها الإضرار بمصالحهم، مثل تطبيق نظام الضرائب التصاعدية، وتقييد بعض أنشطتهم غير الإنتاجي، وبيع خدمات الدولة لهم بأسعارها الحقيقية، وإصدار قوانين صارمة لمنع الاحتكار، وإلى الصدام مع أجهزة الأمن في حالة قبوله الإفراج عن النشطاء السياسيين من غير المنتمين للإخوان، وتخفيف القيود المفروضة على حق التظاهر والاعتصام.
وخطورة هذا السيناريو أنه سيزيد المخاطر الأمنية على النظام نفسه من قبل الرافضين لهذه السياسات والقادرين على حياكة المؤامرات وخلق الأزمات الاقتصادية، بل والتحالف مع خصوم النظام في الداخل والخارج.
ثانيًا- التأثيرات الخارجية:
يواجه الرئيس السيسي نوعين من المخاطر الخارجية، يشكل الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) أقلها حدةً، فيما تمثل تركيا وقطر النوع الثاني الأقوى. فيما يتعلق بالمخاطر القادمة من الغرب، نراها متمثلة في استمرار الضغط على الرئيس من أجل السماح بإعادة استيعاب الإخوان وحلفائهم داخل الحياة السياسية، دون أن يكون لديها -أي الدول الغربية- تصور واضح عن آلية إعادة إدماجهم، في ظل سقف المطالِب المرتفع لجماعة الإخوان التي تطلب في الحد الأدنى تنحية الرئيس السيسي عن الحكم، وإجراء انتخابات جديدة، وفي الحد الأعلى بمحاكمة الرئيس وأركان حكمه، وعودة مؤقتة للرئيس المعزول محمد مرسي تمهيدًا لإجراء انتخابات جديدة.
وغني عن القول أن كلا المطلبين لن يكونا مقبولين من أغلبية الشعب المصري، بما في ذلك الكتلة الثالثة في التصنيف الذي أشرنا إليه سابقًا. ويزيد الأمر صعوبةً أن دول الغرب تطرح فكرة إدماج الإخوان وحلفائهم من منحى حقوقي تستثمره منظمات حقوق الإنسان لممارسة مزيد من الضغوط على الرئيس السيسي، خاصةً مع تمكن بعضها من وضع الرئيس السوداني عمر البشير في مأزق حرج أثناء زيارته إلى جنوب إفريقيا للمشاركة في مؤتمر دولي في منتصف يونيو الجاري؛ حيث استجابت المحكمة العليا هناك لمطالب جماعات حقوق الإنسان بتوقيف الرئيس البشير وتسليمه إلى المحكمة الجنائية العليا بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وهي التهمة التي تحاول جماعة الإخوان عبر تأثيرها في هذه الجماعات، توجيهها إلى الرئيس السيسي (تم حل مشكلة البشير بآلية غير واضحة لاحقًا، وإن بقي تأثيرها في مكانة وشرعية البشير داخل وخارج السودان).
أيضًا وفي إطار الضغوطات الغربية، لا يريد الرئيس السيسي أن يزيد وتيرة التعاون مع دول كبرى، مثل روسيا والصين، مخافة أن يؤدي ذلك إلى توتر علاقاته بالغرب، خاصةً أن المستقبل القريب قد يؤدي إلى عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض، بما يحمله ذلك من نذر عودة السياسات الأمريكية المحافظة التي لا تتقبل مسألة انتهاج الدول الصغيرة سياسات متوازنة في علاقاتها الدولية، وتميل بدلاً من ذلك إلى سياسة التحالفات والمعسكرات الأيدولوجية الواضحة.
أما مصدر الخطر الثاني، فيتمثل في كل من تركيا وقطر اللتين تعبران بوضوح عن رفضهما القبول بشرعية حكم الرئيس السيسي. وترتبط كلتا الدولتين بعلاقات وثيقة بجماعة الإخوان، وتئويان في أراضيهما الفارين من زعماء وكوادر تلك الجماعة، كما تدعمانها سياسيًّا وماليًّا وإعلاميًّا بشكل لا لَبْس فيه. ومع اشتداد أزمة الحرب الأهلية في اليمن، ودخول السعودية في حالة تردد شديد بين ما تطرحه قطر وتركيا من أفكار خاصة بالاعتماد على الإخوان في اليمن، والضغط على الرئيس السيسي لتخفيف سياساته ضد الإخوان، وبين الاستمرار في سياسة العداء السعودي لجماعة الإخوان.. مع مثل هذا الوضع، يمكن لتركيا وقطر أن تشكلا ضغوطًا كبيرةً في المدى المنظور على الرئيس السيسي بالتأثير في سياسات الدعم المالي والاقتصادي لدول الخليج لمصر، وبزيادة الدعم لأتباع هذه الجماعة وفروعها في دول الجوار لمصر، وتحديدًا في ليبيا، ونظام حكم حماس في غزة.
ولا يعرف حتى الآن إلى أين ستتجه السياسات التركية عقب خسارة أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية؛ فقد تقود إلى تخفيض التدخلات الخارجية لتركيا في المنطقة، وقد تقود إلى العكس إذا ما تمكن أردوغان من ترويض الحزب الكردستاني الذي يتوقع أن يشكل حزب أردوغان معه ائتلافًا حاكمًا، أو تقود إلى انتخابات جديدة تعيد إلى حزب أردوغان قوته المفقودة. والأمر المؤكد أن نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، رفعت حجم مخاوف أردوغان من تراجع نفوذه ونفوذ حزبه، وهو ما سيجعله أشد نقمةً على مصر التي عدها البعض من أظهر جوانب السياسة الخارجية لأردوغان فشلاً بعد عجزه عن حماية حليفه (الرئيس المعزول محمد مرسي).
تحديات العام الثاني:
يواجه الرئيس السيسي في العام الثاني لحكمه تحديات جمة؛ ففي الداخل يتزايد تحول الإخوان نحو تبني العنف، كما لا يعرف حتى الآن متى ستستقر الأوضاع الأمنية في سيناء على الرغم من التراجع النسبي في قوة الجماعات الإرهابية الموجودة هناك، كما تميل الأجهزة الأمنية في الدولة إلى اتباع سياسات متشددة ضد معارضي الرئيس، وتصر على عدم التراجع عن قانون التظاهر.
وفي الجانب الاقتصادي الاجتماعي، يبقى الرئيس محاصرًا بمطالب متعارضة؛ فهناك كتلة لا يستهان بها تريد قطع الطريق على عودة رموز وسياسات نظام مبارك، وتطالب بتبني سياسات اقتصادية مناوئة لمصالح الطبقة الثرية ورجال الأعمال وعودة الدولة إلى ممارسة دور رئيسي في توجيه السياسات الاقتصادية – الاجتماعية.
وعلى الجانب الآخر يستطيع مؤيدو نظام مبارك السابق العودة إلى مكانتهم السابقة أو ما يقاربها بسبب نفوذهم الواضح في الريف وبعض المدن، بما يمكنهم من حصد نسبة معتبرة من مقاعد البرلمان والتأثير من خلاله في السياسات التي ستوضع مستقبلاً، كما أن رجال الأعمال الذين ينتمي أغلبهم إلى الحزب الوطني السابق، بوسعهم خلق الأزمات أمام الرئيس في حالة تبنيه سياسات مناوئة لمصالحهم بما يزيد سوء الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية التي قد تعجل بانهيار الوضع السياسي برمته.
وعلى الجبهة الخارجية، تشكل ضغوطات الغرب وتركيا وإيران لعودة الإخوان إلى الساحة السياسة، تحديًا ضخمًا؛ إذ بوسع هذه الدول أن تزيد محاولات عزل نظام الرئيس دوليًّا ، أو دعم الجماعات المناوئة له في الداخل، وتشكيل تحدٍّ خطير للأمن القومي ولاستقرار النظام. وأخيرًا، فإن حركة التفاعل بين الضغوطات الخارجية والداخلية لا تترك للرئيس السيسي مساحة واسعة للمناورة ما دام التحسن في الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية بطيئًا.
سعيد عكاشه
المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية