رغم أن النتائج المتواضعة التي حققتها السياسة الخارجية لحكومة حزب “العدالة والتنمية” في تركيا، كانت أحد الأسباب الرئيسية التي حالت دون نجاح الحزب في الحصول على الغالبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 7 يونيو 2015، لا سيما في ظل الخلافات العديدة التي تصاعدت حدتها بين الحزب والقوى السياسة الأخرى حول العديد من القضايا الخارجية، على غرار الأزمة السورية، إلا أن ذلك لا يزيد من احتمالات إجراء تغييرات بارزة في تلك السياسة، على الأقل في المدي المنظور، لاعتبارات عديدة خاصة بالمسارات المحتملة لتشكيل الحكومة الجديدة، بناء على نتائج الانتخابات.
تحول داخلي بارز:
ربما يمكن القول إن أحد أهم النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات البرلمانية التركية يتمثل في أنها فرضت أرقامًا جديدة في توازنات القوى السياسية التركية، سوف تؤثر، بشكل ما، على موقع حزب “العدالة والتنمية” داخل معادلة صنع القرار، على المستويين الداخلي والخارجي، خلال المرحلة القادمة، وإن كان ذلك سوف يرتبط بعدد من المتغيرات الرئيسية التي تعتمد على تشكيل الحكومة الجديدة.
فقد حصل حزب “العدالة والتنمية” على 258 مقعدًا من إجمالي 550 مقعدًا، في حين جاء حزب “الشعب الجمهوري” في المركز الثاني بحصوله على 132 مقعدًا، وحل كل من حزب “الحركة القومية” وحزب “الشعوب الديمقراطي” في المركز الثالث بـ80 مقعدًا.
وبالطبع فإن هذه النتائج تطرح دلالات عديدة أهمها أن التداعيات الرئيسية لتراجع نفوذ حزب “العدالة والتنمية” سوف تتركز على صعيد القضايا الداخلية في المقام الأول، ففضلا عن أنها فرضت عقبات عديدة أمام الجهود الحثيثة التي يبذلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بهدف تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي من أجل دعم موقع الرئيس وتوسيع سلطاته داخل النظام، فقد وجهت رسائل عديدة تشير إلى تصاعد حدة الاستياء الداخلي من الأداء الاقتصادي للحكومة، إلى جانب الكشف عن قضايا الفساد التي طالت رموزًا عديدة في الحكومة والحزب خلال الفترة الماضية، فضلا عن توقف محادثات السلام مع حزب “العمال” الكردستاني.
متغيرات عديدة:
من دون شك، سوف يعتمد أى تغيير محتمل في السياسة الخارجية التركية على طبيعة الحكومة الجديدة التي يجب أن يتم تشكيلها في غضون 45 يومًا من الإعلان عن نتائج الانتخابات، قبل التطرق إلى خيارات أخرى في حالة عدم حدوث ذلك، حيث فرصت نتائج الانتخابات سيناريوهات أربعة رئيسية في هذا السياق تتمثل في تشكيل حكومة اتئلافية، أو تأسيس ائتلاف موسع من قوى المعارضة، أو تأليف حكومة أقلية، أو الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة. ومن دون شك، فإن تشكيل حكومة ائتلافية بين حزب “العدالة والتنمية” وبعض القوى الأخرى التي فازت في الانتخابات، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في الوقت الحالي، سوف يقلص من حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمام الحزب للاستمرار في تبني السياسة الخارجية نفسها خاصة إزاء القضايا الإقليمية الرئيسية وفي مقدمتها الأزمة السورية.
وبالطبع، فإن ما يزيد من احتمال حدوث ذلك هو الانتقادات القوية التي توجهها تلك القوى لهذه السياسة، خاصة فيما يتعلق بالدعم التركي، الذي أشارت إليه تقارير عديدة، لبعض القوى والتنظيمات المتطرفة التي تنتشر داخل سوريا على غرار تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة”، بهدف إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد. فعلى سبيل المثال، تعهد زعيم حزب “الشعوب الديمقراطي” صلاح الدين دميرتاش بـ”إجراء محاكمة عادلة للرئيس أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو على الجرائم والذنوب التي ارتكبوها”، مشيرًا إلى اتهامات عديدة موجهة لهما مثل إرسال أسلحة إلى “داعش” في سوريا.
فضلا عن ذلك، فإن الموقف الذي تبنته أنقرة خلال معركة “عين العرب” (كوباني) بين تنظيم “داعش” والميليشيات الكردية لم يكن محل ترحيب من جانب القوى الكردية وعلى رأسها حزب “الشعوب الديمقراطي”، الذي اعتبر أن هذا الموقف لا ينفصل عن السياسة التي تنتهجها أنقرة والتي تحاول من خلالها مصادرة أية مكاسب استراتيجية محتملة قد يحصل عليها الأكراد من تصاعد حدة الصراع داخل سوريا. إلى جانب ذلك، فإن السياسة الخارجية التركية بصفة عامة سوف تخضع لمراقبة من جانب البرلمان القادم، الذي سيضم تلك القوى التي تبدي تحفظات عديدة إزاء تلك السياسة، بشكل ربما يدفع الحكومة الجديدة، فضلا عن الرئيس أردوغان نفسه، إلى تخفيف حدة تلك السياسة نسبيًا لتجنب الصدام مع البرلمان الجديد.
خيارات أخرى:
لكن ذلك في مجمله سوف يرتبط بمدي نجاح مهمة تشكيل حكومة ائتلافية، إذ أن هذا الاحتمال يواجه عقبات عديدة ترتبط باتساع نطاق الخلافات بين تلك القوى ورفض بعضها المشاركة في حكومة يشكلها حزب “العدالة والتنمية”، وهو ما دفع الرئيس أردوغان إلى التلميح مبكرًا لاحتمال إجراء انتخابات جديدة. وقد بدأت اتجاهات عديدة في الإشارة إلى أن هذا الاحتمال ربما يمثل الخيار الأمثل بالنسبة لأردوغان، على أساس أن إجراء انتخابات جديدة يمكن أن يؤدي إلى إعادة صياغة توازنات القوى السياسية في الداخل، بشكل يمكن أن يؤدي إلى حلحلة الأزمة الداخلية المتوقع تصاعدها في الفترة القادمة وبالتالي إعفاء أردوغان من مواجهة استحقاقات تراجع مواقع حزب “العدالة والتنمية” داخل خريطة القوى السياسية.
وبالطبع، فإن ذلك معناه انشغال تركيا في ترتيب توازناتها الداخلية خلال الفترة القادمة، بشكل يضعف من احتمال إجراء تغييرات ملموسة في سياستها الخارجية، إلى حين تبلور متغيرات جديدة قد تعيد صياغة المشهد السياسي وتفرض محددات جديدة على عملية صنع القرار، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية