حلت قبل أيام الذكرى الثامنة لانطلاق الثورة السورية، فتذكرنا المظاهرات السلمية وأهم الشعارات المناهضة للاستبداد والفساد.. وكيف تَمَّ استخدام مفردة الممانعة وتوظيف الإرهاب لتحويل النظام السياسي في سورية إلى استثناء، بحكم جملة من الادعاءات والأوهام التي تروم تخليده، لأنه “الأفضل والأقدر على حماية الاستقرار”. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فَتَمَّ تحويل المظاهرات والشعارات المطالبة برحيل النظام السوري، المستبد والفاسد، إلى موقفٍ من نظام حراسة الممانعة، واتُّهِم الشعب المتظاهر والمحتج بالإرهاب، وتمكَّنت الثورة المضادة من الوقوف في وجه حراك الشارع، كما تمكّنت من مواجهة المعارضة التي كانت تعاني منذ البداية، من كثير من أوجه التشتت والانقسام.
حلت ذكرى الثورة وقد تحولت سورية إلى حلبة للصراع الدولي، بين قِوى إقليمية ودولية ذات مصالح متعارضة. واتخذت معالم الصراع أبعاداً معقَّدة، بحكم ما لَحِق الأوضاع العامة للشعب السوري من تدهور، وما أصاب المعارضة من أعطابٍ جديدة، حيث تشعَّب مجال المواجهة، بانخراط مجموعة من اللاعبين الدوليين المحترفين، وقد أصبحت لهم اليد الطُّولَى في ترتيب علاقة النظام السوري بالمجتمع الذي هُجِّرَت منه مجموعات كبيرة، كما دُمِّرَت كثير من مدنه وقراه.
تضعنا الذكرى أمام أبواب العام التاسع، وأمام نتائج مرعبة تتمثل في آلاف القتلى وملايين النازحين في الداخل، وما يعادلهم من المُهَجَّرين واللاجئين إلى الخارج، إضافة إلى الشَّلَل الاقتصادي الذي يَعُمُّ البلاد ويضاعف هشاشتها. وعندما يضاف إلى ذلك خفوت أصوات
“يطالب الجزائريون، في حركتهم الاحتجاجية، بكسر العزلة المضروبة عليهم من النظام” المعارضة وقياداتها المُشَتَّتَة، وخضوع بعضها لقِوَى خارجية، نُدرك جوانب عديدة مما آلت إليه الثورة السورية التي أكملت عامها الثامن والجرح السوريّ مفتوح، حيث لا تزال دماؤه ومخلفاتُ أَمَارَاتِ دَمَارِهِ فوق التراب، إنها تشهد على مختلف ما لحقه من شراسة النظام، ومن القوى الخارجية التي تسنده وتَعِدُه بأن يظل الحارس الأمين لمصالحها.. صحيحٌ أن مُسَوِّغَات الدفاع عن الممانعة اتسعت اليوم، وأضيف إليها مبرّر موازين القِوَى التي أصبح الجميع يردّد أنها لا تُبَشِّر بإمكانية رحيل النظام ومن معه، إلا أننا لا نتصوَّر إمكانية استمرار الأحوال كما هي، على الرغم من أن النظام لم يستوعب كل ما حصل من رعب ودمار خلال السنوات الماضية..
بدايةً الحراك الاجتماعي في السودان، ثم في الجزائر، يمنح ما تبقى من أشكال الصراع المتواصل في سورية إمكانية قَلْبِ موازين القِوَى، فقد انتفض الشباب في السودان، وأعلنوا، بصوتٍ مرتفع، رفضهم استمرار نظام حكم عمر البشير. وخرج الجزائريون في مظاهرات ومسيرات سلمية، شملت أغلب ولاياته، بعد إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تَرَشُّحَه لولاية رئاسية خامسة، فتعالت أصواتهم معلنةً نهاية زمن جبهة التحرير التي تصدَّرت المشهد السياسي والحزبي في الجزائر مدة تجاوزت نصف قرن (57 سنة).. حصل ذلك يوم 22 فبراير، حيث خرجوا لمناهضة الاستبداد والفساد. وقد انضم إلى المظاهرات التي عَمَّت أغلب المحافظات في الجزائر قطاع التجارة ثم القطاع الطلابي، ثم الأطباء والمحامون والقضاة. وعلى الرغم من التفاعل الإيجابي للنظام، بإعلانه بلسان الرئيس جملة من القرارات الهادفة إلى بناء مرحلة تمهيدية لجمهورية جديدة، اعتبر المتظاهرون أن ما صدر عن النظام لا علاقة له بمطالبهم.
ما أغفله النظام، وهو يتفاعل مع احتجاجات المحتجين، ويلغي ترشيح الرئيس المنتهية ولايته
“الأجيال الجديدة التي تتظاهر اليوم لم تعد مقتنعة بالنظام برمته” ليستبدل بها التمديد الذي يمهد لعهد جديد، أن الأجيال الجديدة التي تتظاهر اليوم لم تعد مقتنعة بالنظام برمته، إنها لا تنفي شرعيته التاريخية ولا تشكك فيها، ولكنها تعلن انتهاء صلاحيتها، بحكم أن الأجيال الجديدة تتطلع إلى بناء عقد سياسي، تشارك في بلورة بنوده، ويمنحها الكرامة والشغل والتنمية، كما يخلصها من شعارات الحرب الباردة التي وَلَّى زمنها.
يطالب الجزائريون، في حركتهم الاحتجاجية، بكسر العزلة المضروبة عليهم من النظام، يطالبون بالحرية والديمقراطية والانفتاح على عالمٍ تغيَّر، ولم تتغيّر المجموعات التي تُمْسِكُ بزمام السلطة في الجزائر. وفي هذا الموقف تشابهٌ كثير مع الروح التي حرّكت الفعل الاحتجاجي في سورية. إنهم يرفعون شعاراتٍ تترجم رغبتهم في دمقرطة نظامهم السياسي، كما تترجم طموحاتهم في التواصل مع عالم جديد، حرموا من مآثره باسم مواصلة العمل بسردية جبهة التحرير الوطني، والتي يستحق الجزائريون اليوم، بأجيالهم الجديدة، إعادة بنائها في ضوء طموحاتهم الجديدة، ومختلف صور تفاعلهم مع التحولات الجارية في العالم.
نتصوَّر أن عناصر عديدة تجمع حراك الجزائر، المرتبط بسياق شروط سياسية محدَّدة وانتفاضات الربيع العربي التي أهَلَّت سنة 2011، يتمثَّل أبرزُها شعاراتهم المندِّدة بالاستبداد والفساد، والمتطلعة إلى بناء المشروع السياسي الديمقراطي، من دون أن ينفي هذا الإقرار، في الوقت نفسه، وجود عناصر أخرى، تشير إلى اختلاف الشروط والسياقات السياسية والثقافية العامة، الموجهة لموجتهم الجديدة في مواجهة النظام السياسي القائم في مجتمعهم.
العربي الجديد