منذ أيام كنت اتحدث مع الطلبة والطالبات في جامعة الكويت عن حرب 1973 التي شنتها القوات المصرية والسورية لتحرير الاراضي المحتلة عام 1967 وخاصة صحراء سيناء وهضبة الجولان. وعند وصف الوضع العربي في ذلك الزمن يتضح مدى الفارق بين تلك الحالة العربية وحالة اليوم. ففي ذلك الزمن عبر العرب عن تضامن فريد من نوعه مع بعضهم البعض، ولم يكونوا في حالة اقتتال ذاتي بين مكوناتهم كما هو حالهم اليوم.
في العام 1973 نجح العرب في تحقيق مفاجأة عسكرية كبرى من خلال شن حرب عادلة على إسرائيل التي سبق لها وان احتلت عام 1967 أراضي عربية لمصر وسوريا اضافة لبقية فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية). تلك الحرب نتجت عن قرار مستقل عن الدول الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وجاءت بعد اعطاء دولة العدو عشرات الفرص للانسحاب. بل كان الرئيس السادات قد أخرج الخبراء السوفيات من مصر قبل بدء الحرب في اطار خدعة مفادها بأنه لن يشن حربا. لكن خروج الخبراء السوفيات أكد بأن مصر في ذلك الوقت كانت مستقلة عن الحرب الباردة وعن الإتحاد السوفياتي.
في تلك الحرب فاجأ الجيش المصري كما والسوري اسرائيل بكفاءة المقاتل العربي، لكن المفاجأة الاخرى جاءت عبر قرار رفع أسعار النفط الذي قادته المملكة العربية السعودية والكويت ودول أخرى في الأوبيك. تلك قرارات تم أخذها بلا العودة للولايات المتحدة والغرب. في حرب 1973 تفوق العرب على أنفسهم بينما اعلن الملك فيصل وقف شحنات النفط السعودية للولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل. وقد اعلن الملك فيصل بأنه يسعى للصلاة في القدس المحررة. في تلك الحرب أعلن العرب مبدأ الارض مقابل السلام والدولة الفلسطينية مقابل السلام وعودة القدس مقابل السلام. ذلك الزمن شكل الحالة الاقرب لانتفاضة عربية رسمية على سنوات الهزيمة والضعف.
لكن عند المقارنة بين حرب 1973 والوضع الراهن، نكتشف كم تراجع الوضع العربي بسبب نخبه وقياداته وبسبب سياسات الأنظمة. فما بدا في عام 1973 أنه دول عربية في طريقها للتقدم وفرز طبقات وسطى حديثة تحول مع الوقت لحالة بطالة وفساد مالي واقتصاد ريعي غير إنتاجي. و ما بدا أنه هوية عربية جامعة في ظل هويات وطنية فرعية تحول مع الوقت لهوية مفككة. خلال عقود تغير كل شيء، بل تحولت الهوية العربية لهويات طائفية في ظل الحرب العراقية الإيرانية، ثم تحولت الهويات الوطنية لهويات طبقية وقبلية وفئوية بسبب عدم تطوير النظام العربي في قضايا أساسية كحقوق الانسان والكرامة الإنسانية والمساحة الديمقراطية. هكذا تحول العرب من حالة واعدة في العام 1973 إلى الاقتصاد الريعي والطبقية المبالغ بها والفقر والبطالة والديون والاحتكار المالي والسياسي في 2019. وبينما كان القمع، في ذلك الزمن، مقتصرا على بعض الدول، اذ به ينتشر ليصبح في 2019 الشكل الرئيسي للخارطة العربية.
من صفات القيادات السياسية الجديدة، في زمن توحش الرأسمالية، مضاهاة كبار رجال الأعمال بقدراتهم المالية التي تجيزها إداراتهم
لا توجد اجابة واحدة لأسباب هذا الوضع المركب والمتراجع. إحدى الإجابات مرتبطة بنشوء سلطات في الخارطة العربية جذبتها الرأسمالية الجديدة بتوحشها. هذه الحالة أدت لانغماس السياسيين العرب في الجمع بين المنصب السياسي وتجميع المال، وبين المنصب السياسي وتطويع الاقتصاد الوطني ليصبح اقتصادا خاصا وملكا لقادة. في الجوهر لا توجد في الحالة العربية مساءلة و نقاش علني و حريات مضمونة. فمن صفات القيادات السياسية الجديدة، في زمن توحش الرأسمالية، مضاهاة كبار رجال الأعمال بقدراتهم المالية التي تجيزها اداراتهم غير المساءلة. هذا هو الفارق الكبير بين مرحلة جمال عبد الناصر الذي لم يترك وراءه شركات وأبناء متنفذين، وبين ما سيقع فيما بعد انقضاء مرحلة السادات. ونجد ذات الفارق بين الرئيس الجزائري بومدين الذي لم يجذبه المال و الرئيس بوتفليقة (رغم الإرث النضالي للرئيس بوتفليقة عندما كان وزيرا للخارجية)، ونجد ذات الفارق بين الرئيس نور الدين الاتاسي في ستينيات القرن العشرين والرئيس الاسد بعد ذلك.
حب المال والسعي لاقتنائه وتسليم الاقارب والابناء والزوجات بأي ثمن في ظل تسليع السياسة و الادارة وتحويل الاقتصاد الوطني لاقتصاد شخصي ورعاية الفساد وعدم احترام الشعوب والكرامة الانسانية دمر العالم العربي.
بعض العرب يسعى للتحالف مع ترامب ومع اسرائيل لينقذ وضعا يصعب انقاذه. وبعض العرب يؤقلم سياساته لتتجانس مع السياسة الاسرائيلية في العداء لإيران على امل ان يكون ذلك انقاذا لوضع عربي يزداد انهيارا، وبعض العرب تورط في حروب ونزاعات. الملاحظ في الوضع العربي الجديد انه يتحالف مع الخارج على حساب الداخل. لكن أليس ذلك تعبيرا عن العجز، فعند المقارنة بين احداث 1973 وبين اليوم نكتشف وضعا عربيا فشل في التعامل مع المستجدات فانتهى به الأمر رافضا لكل حراك شعبي وأطروحة نقدية. ان عدم المقدرة على بناء حالة تحالف مع الشعوب وعدم المقدرة على الإنحناء لإرادتها يمثل أكبر معضلة للنظام العربي.
لقد أطلق الحراك الجزائري كما والسوداني طاقات حبيسة جديدة، تلك حراكات مرشحة لأن تزداد عمقا ومرشحة للتحول لنموذج في مجتمعات عربية أخرى. الافضل للنظام العربي عدم السعي لإفساد الحراك الجزائري او السوداني عبر دعم قوى لا تؤمن بالديمقراطية.
إن الانتقال نحو كرامة الانسان ومساواته بالحقوق واحترام تطلعاته والإنحناء للإرادة الشعبية هو جوهر المرحلة في العالم العربي، بل ان نقص الكرامة والعدالة هو الأساس الذي يسهم في تفكك وبؤس الحالة العربية. على النظام العربي ان يمتنع عن البحث عن ديكتاتور ووكيل جديد لقوى الخارج على حساب الداخل في كل مكان. لقد تغيرت شعوب العرب، وهي ستزداد تغيرا، وما السعي لابقائها حبيسة النظام السياسي غير المساءل إلا مقدمة لكوارث سياسية جديدة.
ناظم شفيق الغبرا