الباحثة شذى خليل*
تمثل الموازنة العامة الوثيقة القانونية لتوجيهات الحكومة وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية التي تنوي تحقيقها خلال السنة المالية، وهي العمود الفقري للمحاسبة الحكومية، وفي ضوء التشريعات ذات الطابع المالي كقانون الإدارة المالية والدين العام رقم 95 لسنة 2004.
وتشوب الموازنة العامة للدولة العراقية إخفاقات عدة ، منها اختلاف في الموعد المحدد لإرسالها إلى مجلس النواب، وعدم تطبيق قاعدة وحدتها، وعدم الالتزام بسنويتها، والقصور في التخطيط لها وإعدادها، والتعارض بين التوجه نحو معايير المحاسبة الدولية والاساس المحاسبي المتبع بموجب التشريع، والقصور في الإبلاغ المالي عنها، ونتائج تنفيذها، كل هذه الحواجز تعرقل انجاز دور الموازنة بالشكل الصحيح بكل مراحلها الأربع، “مرحلة الاعداد والتحضير ومرحلة الإقرار ومرحلة التنفيذ مرحلة الرقابة عليها”.
وهنا اود التركيز على نقطتين مهمتين تفتح أبواب الفساد في الميزانية العامة للدولة :
الأولى: المساعدات الخارجية والتمويل الخارجي ، التي تحصل عليها الدولة والتي لا تدخل الميزانية ، فعلى سبيل المثال جميع مساعدات الولايات المتحدة عبارة عن عقود تبرمها السفارة الأميركية ببغداد مع الشركات الأميركية، في حين يفترض إيداع المساعدات في صندوقين تابعين للأمم المتحدة، فتصبح إيراداً عاماً للدولة يدخل إلى ميزانيتها حتى وإن كان إنفاقه مقيداً باعتبارات معينة، وهذا ما هو متبع في ميزانيات البلدان العربية وغير العربية المتلقية للتمويل الخارجي، لكن الميزانية العراقية لعام 2004 لم تدرج المساعدات الخارجية في إيراداتها البالغة 12.8 مليار دولار منها حوالي 12 مليار دولار من النفط حينها تخيل حجم التمويل الخارجي من ذلك الوقت الى اليوم ، اين ذهب؟ إلى جيوب الفاسدين ام إلى خطط الاعمار والتنمية ؟
وستسلك الميزانيات الأخرى نفس هذا الطريق عندئذ تنتهك قاعدة العمومية وتنتفي شفافية الإيرادات والنفقات وتفتح الأبواب على مصراعيها أمام التلاعب بالأموال العامة، علماً بأن تلك المساعدات ليست هبات مجانية بل إنها قروض بشروط ميسرة يتعين لاحقاً على مالية الدولة سداد ما يترتب عليها من ديون أو استثمارات منحت للشركات الأجنبية التي استحوذت على السوق العراقية.
الثانية: تجاهل قضية العمالة (أي تشغيل اليد العاملة لمن هم في سن العمل وقادرين على العمل ولا يجدون فرص عمل) في الميزانية العامة خاصة وان العراق يعد من الدول الفتية (غني بالمورد البشري من جيل الشباب)، وهي أداة تؤثر بشدة سلباً وإيجاباً على القطاعات الاقتصادية والشرائح الاجتماعية.
إنها السياسة الاقتصادية والاجتماعية السنوية للدولة، ليس في الموازنة ما يبين كيفية استخدام هذه الأداة، وكان من اللازم وضع بعض المبادئ العامة لمعالجة أزمة البطالة مثلاً، إن العراق يعاني من معدلات مرتفعة جداً للبطالة لا تقل عن نصف عدد القادرين على العمل، وهو من المعدلات النادرة حتى في البلدان الأكثر فقراً في العالم، وخطورة هذه الأزمة تستوجب نصا دستوريا يشير على الأقل إلى ضرورة بذل الجهود لمعالجتها.
” الدستور خطوة نحو الوراء فيما يتعلق بالعمل والعمالة ومسؤولية الدولة في تحسين مستوى العمال”
لا شك أن المادة الدستورية 22 تنص على أن “العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة”، لكن هذه الصياغة المقتبسة من إعلان حقوق الإنسان تخلو من العناصر الملزمة للسلطات العامة بتحسين مستوى العمالة، في حين هنالك نصوص أخرى يتوفر فيها الإلزام عندما يتعلق الأمر بتكوين النقابات وتشجيع الاستثمارات وحرية تنقل البضائع ورؤوس الأموال.
موازنة ريعية:
يعد العراق احدى الدول المنتجة والمصدرة للنفط والتي تعتمد بشكل رئيس على الايرادات النفطية غير المستقرة في تكوين الدخل القومي، حيث شكلت الايرادات النفطية نحو 95 % من ايرادات الموازنة العامة خلال السنوات السابقة، وهذا يجعل الاقتصاد العراقي تابعا للاقتصاد العالمي وتداعيات ازماته المتكررة وذلك لكون الاقتصاد العراقي في واقعة اقتصادا ريعيا، يعتمد بشكل اساس على انتاج وتصدير النفط الخام، وهذا ما يجعل الموازنة العامة للعراق تتأثر بشكل كبير بانخفاض في اسعار النفط ، والتي غالبا ما تتطلب تعزيز الميزانية بموازنة تكميلية لسد العجز الحاصل منها والتي قد تكون مبالغ كبيرة، مما يجعل عملية تفعيل مصادر الدخل غير النفطية.
إن العراق اليوم يخسر عشرات المليارات ويسير نحو المجهول بسبب انخفاض أسعار البترول على وقع الخلاف الروسي السعودي وعدم اتفاق منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” وروسيا على خفض الإنتاج.
حيث اكد خبير النفط العراقي عصام الجلبي، أن العراق كان قد حدد سعر برميل النفط بـ 56 دولارا للبرميل الواحد للعام الحالي 2020، لكن “النفط العراقي سوف يكون ضمن معدلات هذه الأيام بحدود لا تتجاوز 25 دولارا للبرميل الواحد”، ما يعني “أننا أمام انخفاض كبير للإيرادات النفطية قد يبلغ عشرات المليارات”.
ودفع إخلال روسيا باتفاقها مع “أوبك” بخفض إنتاج النفط إلى تحرك سعودي وإغراق السوق، ما تسبب بهبوط حاد في الأسعار وتسجيل أكبر انخفاض يومي في قرابة ثلاثة عقود.
وانتهى اجتماع الدول المصدرة للنفط “أوبك” الأسبوع الماضي دون التوصل إلى اتفاق حول مقدار التخفيض في الإنتاج الذي اقترحته السعودية، والذي كان يصل إلى مليون ونصف المليون برميل في اليوم من إنتاج المنظمة، حتى لا يؤدي انتشار الفيروس إلى تقويض ما تم التوصل إليه عام 2017 للحفاظ على أسعار مستقرة في سوق تشهد فائضا في الانتاج، لكن روسيا رفضت ذلك.
إن “الخلاف دفع السعودية إلى اتخاذ خطوتين رئيسيتين، أولهما زيادة معدلات إنتاجها الحالي بأكثر من 9 ملايين برميل يوميا ليصل إلى أكثر من 10 ملايين برميل وقد يصل إلى 12 مليون برميل يوميا”.
وأن الخطوة الثانية التي اتخذتها السعودية تتمثل في عرض نفطها في الأسواق الآسيوية بأسعار أقل بـ 6 إلى 8 دولارات عن الأسعار التي كانت سائدة آنذاك”.
وأعرب البلدان -السعودية وروسيا- عن استعدادهما “لاتخاذ أية إجراءات إضافية بالمشاركة مع الدول الأعضاء في اتفاق أوبك+ والمنتجين الآخرين، إذا ما بدت ضرورة لذلك”، إضافة إلى ثقتهما في أن “الشركاء في اتفاق أوبك+ والمنتجين الآخرين سوف يحافظون على التزاماتهم”.
وتوصلت مجموعة “أوبك +”، لاتفاق يقضي بخفض إنتاج النفط بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا ابتداء من مطلع مايو أيار المقبل، والذي يهدف قرار “أوبك +” لدعم أسعار النفط بعد الخلاف الذي نشب بين السعودية وروسيا، إلى جانب تراجع الطلب على النفط في ظل تفشي فيروس كورونا المستجد.
آثار التخفيض على العراق:
سيبقى العراق في ظل هذا الهبوط يتلقى الضربات والهزات الاقتصادية، لعدم قدرته بأقل تقدير على تغطية الموازنة التشغيلية لعام 2020، وهو ما سيضطره إلى البحث عن دائنين للاقتراض من الخارج أو الداخل رغم تأثيراته السلبية.
وهذا بدوره سيؤدي الى فوضى اقتصادية سياسية لا تحمد عقباها ، حيث ان الازمة العالمية لانخفاض أسعار النفط إلى أقل من 30 دولاراً للبرميل، وحدوث انكماش في معدل الطلب على النفط تجاوز 8% وفائض بتنافس الدول المصدرة، من المتوقع تواصل هبوط أسعار النفط عالمياً، ولا سيما أنّ العالم يعيش حالة ركود صناعي بسبب انتشار فيروس كورونا.
هنا وبشكل خاص على العراق الذي لا مجال له لتعويض هذه المبالغ المفقودة نتيجة انخفاض الأسعار التي كانت قد حسبت الموازنة 2020 على سعر نفط 56 دولارا، وهو ما يعني انخفاضا كبيرا للإيرادات النفطية قد تصل إلى عشرات المليارات”.
إن فقدان كم كبير من إيرادات نفط للعراق سيؤثر بشكل كبير على توفير الرواتب والخدمات والأدوية والأغذية، وركود الصناعة وهو بالأصل اقتصاد يعاني بكل قطاعاته من انهيار تنموي استثماري في وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل الأموال المتاحة لمواجهة انتشار فيروس “كورونا” المستجد والبلد بحاجة الى إعادة بناء للتخلص من جميع اشكال الفساد التي مزقته دون رحمة.
والجدير بالذكر ان الاحتياطي لدى العراق يبلغ نحو 30 مليار دولار، أكثر من نصفها مستثمر في سندات الخزانة الأميركية”، وان اللجوء إلى ما هو متبقٍ من احتياط مالي، يعتبر مجازفة خطيرة، لما لذلك من تأثير على سعر الدينار مقابل الدولار، الأمر الذي سيؤدي إلى خلق فوضى عارمة داخل الأسواق المحلية”.
حيث سيكون التأثير المباشر والكبير على الموازنة التشغيلية، وخاصة أنه لا توجد بالفعل ميزانية استثمارية في العراق، وبشكل خاص توفير الرواتب للـ7 ملايين موظف الذين يتقاضون مبالغ نقدية شهرية من الحكومة العراقية، إلا إذا قامت الدولة باتخاذ إجراءات تتمثل بالاقتراض داخليا أو خارجيا”، مشيرا إلى أن هذا الحل يحتاج أيضا إلى وقت لتنفيذه.
إنّ “صافي دخل العراق بعد هبوط أسعار النفط انخفض بنسبة 65% في 2020، مقارنة بالعام الماضي، مسبباً عجزاً شهرياً قدره 4 مليارات دولار مخصصة فقط لدفع الرواتب والحفاظ على استمرارية عمل الحكومة”.
إن وضع العراق مأساوي “خصوصا وأنه يمر بظروف سياسية حرجة نتيجة تكالب الكتل السياسية على المناصب، وعدم تشكيل حكومة تلبي مطالب الشعب”، كما أن “الحل الوحيد هو أن يتم تغيير جذري للعملية السياسية في العراق والنظر بجدية للاقتصاد العراقي وتغيير أسلوب إدارة الدولة بشكل يليق بمقدرات وقيمة العراق .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية