«التعفيش»، كما بات معروفاً، هو ترخيص النظام لقطعانه من وحدات عسكرية نظامية أو ميليشيات أو قوى حليفة، باستباحة أملاك المواطنين وكلّ ما يندرج تحت مفردة «العفش»، في القرى والبلدات والمدن التي يدخلها. وهو سلوك لا يتوخى إباحة السلب على سبيل مكافأة الغزاة وفق مبدأ الغنائم العتيق، فحسب؛ بل هو منهج مبيّت عن سابق قصد، يتعمد إذلال السكان المدنيين وإهانتهم وإنزال العقاب بهم لأنهم، بين أسباب أخرى، تمسكوا ببيوتهم ولم يهجروها إلى أربع رياح الأرض.
لكنّ التعفيش الراهن في مناطق إدلب يحمل خطورة خاصة إضافية، لا تشبه في شيء نهب البرّاد أو الغسالة أو جهاز التلفزة، أو حتى اقتلاع بلاط الأرضيات وأخشاب الأبواب والنوافذ؛ إذْ يمكن أن يطال كنوزاً آثارية لا تُقدّر بثمن، ولا تُعوّض أصلاً، ولا يعرف أية قيمة لها أولئك الهمج من ضباط النظام وأفراد قوّاته وميليشياته. هنا أيضاَ لا تغيب القصدية المنهجية الخبيئة في مهانة المواطن من الجانب الذي يخصّ علاقته بالتاريخ السوري القديم، وبالمكوّنات الحضارية العابرة للعصور والأجيال والأديان، وفصم العرى الوثيقة مع الذاكرة في قرونها الماضية وعقودها الراهنة.
«التعفيش»، بذلك، يمكن أن ينقلب إلى تنقيب عشوائي بحثاً عن الكنوز، إذا عزّ على هذا العنصر أو ذاك أن يجاري قائده في نهب الأوابد، سواء كانت قائمة في مواقعها الطبيعية، أو كانت محفوظة في المتاحف؛ فالمثوبات هنا أغلى ثمناً من أن تُقارن بأيّ عفش يمكن أن يسيل له لعاب الغزاة/ اللصوص. وهذا، غنيّ عن القول، طراز من الإجرام بحقّ التاريخ السوري يفوق بكثير، بعد أن يستكمل، الهمجية الأخرى التي مارستها الفصائل الجهادية المتشددة؛ ليس ضدّ «الأنصاب» و»الأوثان» كما زعمت رطانتهم البائسة، بل كذلك ضدّ فصول وضاءة في تاريخ المنطقة الإسلامي كما تجلت عند أمثال أبي العلاء المعرّي.
وإذا جاز الافتراض بأنّ لا جديد في الهمجيتين، النظام اليوم والجهاديون قبله ومعه، إذْ لا ينتظر المرء من الطرفين أداءً أقلّ بربرية لجهة تثمين التاريخ واحترام الذاكرة؛ فإنّ الغازي الإيراني يتستر تحت لافتات محاربة «التكفير» لكي يشارك في تقويض رموز حضارية كانت لها فصول ومجلدات في مقاومة غزوات الماضي الفارسية، بحيث تبدو الأحقاد الراهنة ضدّ تراب إدلب العائم على محيط من الآثار، بمثابة ثارات بمفعول رجعي لهزائم الإمبراطورية الفارسية في المنطقة. ليس أدنى وقاحة، وهمجية أيضاً بالطبع، تلك القاذفات الروسية التي تقصف اليوم 760 موقعاً أثرياً و40 قرية أثرية و50 %من تلال سوريا الأثرية؛ وكانت، قبل أشهر، قد احتفلت بـ»تحرير» تدمر عن طريق إحضار أوركسترا ماريينسكي لإقامة حفل موسيقي على مسرح المدينة الأثري.
وليس هذا «التعفيش» لتاريخ سوريا وذاكرتها الحضارية طارئاً على النظام وحلفائه، فعلى امتداد سنوات الانتفاضة سُجّلت عشرات الوقائع في هذا الصدد. مبكراً، في درعا، قُصف الجامع العمري (الذي أمر ببنائه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عند مروره في حوران)، مرّة بعد مرّة. وفي معرّة النعمان وسائر جبل الزاوية، حيث مملكة إيبلا وتل مرديخ (الألف الرابع قبل المسيح)، ودير سنبل البيزنطي، ودير سيتا الروماني؛ فإنّ «التشبيح» الآثاري سبق «التعفيش» الراهن. وفي منطقة الجزيرة شمال شرقي سوريا، كان النبش اللصوصي العشوائي قد طال تل حموقار، حيث تقع مدينة تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد، ويتفق الآثاريون على أنها واحدة من أقدم مراكز العمران البشري.
وثمة، لا ريب، فارق في نوعية الألم بين سقوط عشرات الشهداء تحت القصف البربري، أو تقويض آلهة آرامية هنا ورقيم سومري هناك؛ رغم أنّ جوهر انتهاك سوريا يظلّ واحداً، يتبارى فيه مجرمو الحرب والقتلة، مع لصوص البرادات والأوابد.
القدس العربي