تتجه إسرائيل حالياً نحو إعادة غير مسبوقة للانتخابات بعد أسابيع فقط على الاقتراع الأخير، ويتزامن ذلك مع قيام شخصية أجنبية بارزة بزيارة القدس، هي مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر. وفي حين كانت زيارة كوشنر الموجزة إلى إسرائيل مقررة قبل اندلاع هذه الأزمة السياسية المحلية مؤخراً، من المرجح أن قراره بالمضي قدماً في هذه الرحلة كان يرمي إلى إرسال إشارة، ولو كان يصعب تصديقها، بأن إدارة ترامب قد تواصل الدفع قدماً في الكشف المزمع عن خطتها للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين الشهر المقبل، انطلاقاً من مؤتمر اقتصادي إقليمي يُعقد في البحرين.
ووصفت السلطة الفلسطينية ما يسمى بـ”صفقة القرن” بأنها صفقة “باطلة من أساسها” بعد اتخاذ الولايات المتحدة مجموعة قرارات دبلوماسية ومالية اعتبرتها السلطة الفلسطينية عقوبات ضدها (ومفيدة لإسرائيل). ويعتزم المسؤولون الفلسطينيون مقاطعة المؤتمر، تمشياً مع قطع علاقتهم الأوسع نطاقاً مع واشنطن.
ولا يبدو أن فريق السلام الأمريكي بقيادة جاريد كوشنر قلقاً. فقد كتب كوشنر في رسالة بريد إلكتروني تمّ تسريبها العام الماضي يلخص مقاربته: “لا يمكن أن يتمثل هدفنا بإبقاء الأمور مستقرة وكما هي الآن…أحياناً عليك أن تخاطر استراتيجياً بكسر الأمور لكي تحقق هدفك”.
لكن جهات فاعلة أخرى عملت باستمرار على فصل الولايات المتحدة عن تداعيات خيارتها السياسية الضارة – وبالتالي حافظت على الاستقرار وتجنبت كسر الأمور فعلياً. ومن المرجح الآن أن يعوّل كوشنر وزملاؤه مبعوثو السلام، ورجال الأعمال العاملين في قطاع العقارات، جميعاً على “عملية إنقاذ” أخرى في وقت يخرج فيه مشروعهم متعدد السنوات إلى العلن.
لقد بدأت الأزمة في العلاقات الأمريكية-الفلسطينية في كانون الأول/ديسمبر 2017، عندما أعلن دونالد ترامب عن نيته نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، معترفاً في خضم ذلك بمطالب إسرائيل بالمدينة المقدسة المتنازع عليها. وتوقّع بعض المحللين اندلاع أعمال عنف – تظاهرات وأعمال شغب وأسوأ من ذلك – ولكن القدس والضفة الغربية حافظتا على هدوئهما. وكما قال لي أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين بعد ذلك بفترة وجيزة، في الواقع ازداد فعلياً التعاون الأمني بين قوات أمن السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي خلال تلك الفترة، رغم تهديدات الفلسطينيين بإعادة النظر في العلاقة الحيوية.
وبعد مرور بضعة أشهر، في أيار/مايو، تمّ رسمياً افتتاح السفارة الأمريكية في القدس في حفل فخم. وبالكاد أخفى السفير الأمريكي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان فرحته بينما كان يلقي كلمته بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لافتتاح السفارة في وقت سابق من هذا الشهر حين قال: “إن كافة التوقعات، حتى بعض توقعاتنا الخاصة… حول الخطر والعنف والتشاؤم والبؤس – فإن الواقع هو أنه في جميع أنحاء القدس في ذلك اليوم لا أعتقد أن أكثر من 20 شخصاً خرجوا للتظاهر”، مضيفاً: “أعتقد أن عدد الناس المستائين من الطعام الذي كانوا يتناولونه في مختلف المطاعم كان أكبر من أولئك الغاضبين بسبب نقل السفارة”.
غير أن ذلك لم يكن من قبيل الصدفةً، أو لا يمكن تجنّبه. فبضعة آلاف المتظاهرين فقط أتوا من أماكن مختلفة إلى الضفة الغربية خلال هذه الفترة رغم الإضراب العام الذي دعت إليه السلطة الفلسطينية. لكن في الواقع، لم تمنح السلطة الفلسطينية يوم عطلة لموظفيها في ذلك اليوم وفشلت في حشد كوادرها من حركة «فتح». يُذكر أن قوات أمن السلطة الفلسطينية ضبطت بفعالية الأحداث في المناطق الخاضعة لسيطرتها، بما في ذلك حملة قمع متواصلة ضد خصومها الإسلاميين في حركة «حماس».
وفي تتابع سريع ابتداءً من آب/أغسطس الماضي، خفضت الولايات المتحدة دعمها المالي إلى الأراضي الفلسطينية بأكثر من 500 مليون دولار، ولا سيما مشاريع التنمية والبنية التحتية التي تنفذها “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” والتمويل الأمريكي لبرنامج الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (“وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” -“الأونروا”). وكانت الأضرار الاقتصادية المحتملة المترتب على الضفة الغربية وقطاع غزة هائلة، حيث أثّرت على حوالي مليوني شخص – مترافقة مع مخاوف في أوساط المؤسسات الأمنية الإسرائيلية بعدم الاستقرار واندلاع أزمة إنسانية.
ومرة أخرى، أُعفيت إدارة ترامب – وبالتالي إسرائيل – من أي تداعيات مترتبة عندما تدخلت عدة دول خليجية وأوروبية وعوّضت الانتهاك المالي لـ (“الأونروا”). كما ساعدت السعودية وقطر بشكل خاص السلطة الفلسطينية في مواجهة أزمة الموازنة المستمرة والحادة التي اندلعت خلال الأشهر الأخيرة.
وبشكل دلالي، كانت المساعدات الأمريكية الوحيدة التي واظبت الولايات المتحدة على تقديمها إلى السلطة الفلسطينية مخصصة لقوات الأمن، في مؤشر على الأهمية التي توليها حتى إدارة ترامب إلى التعاون الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن جرى وقف هذا التمويل أيضاً في شباط/فبراير عندما عجزت إدارة ترامب في التوصّل إلى حل وسط مع الكونغرس للحفاظ على تدفق المساعدات. وفي أعقاب ذلك، استمرت جهود أوروبية منفصلة على الأرض لتدريب قوات أمن السلطة الفلسطينية (الشرطة في المقام الأول) وتقديم المشورة إليها. وبشكل أكثر دلالة، وعلى الرغم من وقف المساعدات، حافظت السلطة الفلسطينية بدورها على روابطها الأمنية مع الولايات المتحدة، عبر قنوات “وكالة الاستخبارات المركزية” السرية وفقاً لبعض التقارير.
وأقرّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس بذلك قبل بضعة أشهر، بإشارته إلى أن التركيز كان على مكافحة الإرهاب. فقد قال عباس، “هناك اتفاق مشترك لمكافحة الإرهاب” مع إسرائيل لن ينتهكه، خشية “أن لا يبقى شيئاً”.
وكان هدف الولايات المتحدة في كل هذا شفافاً إلى حد ما. فكما قال ترامب نفسه، “أوقفتُ مبالغ طائلة من الأموال كنا ندفعها للفلسطينيين… وأقول لهم ستحصلون على الأموال، لكننا لن ندفع لكم قبل أن نتوصل إلى اتفاق. إذا لم نتوصل إلى اتفاق، فلن ندفع”.
ومن المزمع أن يتمّ الكشف جزئياً عن الاتفاق المعني خلال المؤتمر الاقتصادي في البحرين الشهر المقبل. فهناك سيسعى كوشنر وفريقه للحصول على تبرعات من مختلف الحكومات العربية – تقدّر بنحو 25 مليار دولار وفقاً لبعض التقارير – من أجل، كما عرضتها الصحافة، “تقديم فرص جديدة ومثيرة للاهتمام للفلسطينيين كي يتمكنوا من تحقيق كامل قدراتهم”.
وقد رفض مسؤولون ورجال أعمال فلسطينيون هذه الخطوة باعتبارها “رشوة” تهدف إلى حرمانهم من “حقوقهم الوطنية”. إن السعي إلى حل المشاكل الإسرائيلية-الفلسطينية بواسطة أموال الآخرين – علماً بأن العديد من هذه المشاكل أوجدتها واشنطن خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية – يتماشى إلى حدّ كبير مع مقاربة إدارة ترامب حتى الآن.
لكن القلق الحقيقي يتمثل في أن شبكة الأمان – الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية – التي دعمت الاستقرار لن تكون على نفس القدر من القوة هذه المرة. فحكومة نتنياهو المقبلة – علماً بأنه لا يزال الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات مجدداً – قد تعتبر رفض الفلسطينيين المحتم لخطة ترامب للسلام بمثابة ضوء أخضر للبدء بضمّ المستوطنات في الضفة الغربية. وقد تملّ الدول العربية والأوروبية من التصرف كآلة صرف أموال لحل قائم على أساس دولتين، والذي لم تعد واشنطن والقدس تؤمنان به.
وبالفعل، تحذّر “الأونروا” من أنها تعاني مجدداً من نقص التمويل لهذا العام، حيث يواجه مليون شخص في غزة وحدها نقصاً في المواد الغذائية بحلول الشهر المقبل. ومع ذلك، قال جايسون غرينبلات، العضو الثالث في فريق ترامب للسلام، هذا الأسبوع بأنه يجب حلّ هذه الوكالة لأنها “خيّبت آمال الشعب الفلسطيني”.
وفي خطوة من المؤكّد أنها ستثير موجة استياء، سيتمّ عقد مؤتمر البحرين بالتزامن مع مؤتمر تعقده “الأونروا” للمانحين، مما يركز على ما يبدو على أن الأمريكيين يفضلون الشكل على المضمون. ووقعت مصادمات بين إسرائيل و«حماس»، التي تحكم قطاع غزة، باستمرار خلال العام الماضي بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية داخل القطاع بشكل رئيسي. وإذا لم يتمّ إنقاذ الولايات المتحدة مرة أخرى من دوافعها السيئة، فإن اندلاع أزمة – وحرب – في غزة ليست سوى مسألة وقت.
من جهتها، قد تغيّر السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، كما هدّدت مراراً وتكراراً، استراتيجيتها فتوقف التعاون الأمني مع إسرائيل وتنسحب من اتفاقات طويلة الأمد تمّ الإعلان عنها في “اتفاقيات أوسلو” للسلام عام 1993. وقد غرقت السلطة الفلسطينية في عجز كبير في الموازنة بسبب وقف المساعدات الأمريكية، المترافق مع رفضها بشكل منفصل قبول أي تحويلات ضريبية من إسرائيل. فمند مطلع العام الحالي، يتقاضى الموظفون الحكوميون، بمن فيهم ضباط الأمن نفسهم الذين يتعاونون مع إسرائيل، نصف راتب فقط. وتقدّر أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أنه سيكون أمام السلطة الفلسطينية شهرين إلى ثلاثة أشهر فقط قبل بدء الانهيار إذا استمر المسار الحالي. وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية، يعتقد الإسرائيليون بأن هناك فرصة ضئيلة لاحتمال رضوخ الرئيس عباس للضغوط الأمريكية وموافقته من جديد على خطة السلام.
وإذا كانت إدارة ترامب قلقة (كما ينبغي أن تكون)، فهي لا تُظهر ذلك. فعندما تمّ طرح السيناريو أعلاه على كوشنر مؤخراً، والذي يشمل انهيار السلطة الفلسطينية نفسها، تظاهر باللامبالاة قائلاً، “سيحدث ما هو مقدّر”، وكأنه رجل اعتاد أن يتمّ إنقاذه باستمرار.
معهد واشنطن