اعتقاد الرئيس العراقي برهم صالح في إمكانية إرساء علاقات خارجية مختلفة للعراق تقوم على عدم التخندق ضمن أي من المحاور المتصارعة على النفوذ في البلد، يهتزّ بقوّة تحت وقع تهديد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران والتي أكّدت مجدّدا أن كلام الرئيس صالح عن التوازن والنأي بالنفس مجرّد تنظير غير قابل للتحقّق على أرض الواقع.
بغداد – تُحرج حالة التوتّر التي خلّفتها سلسلة الضربات التي طالت مؤخّرا عددا من مقارّ الحشد الشعبي في العراق ونُسبت المسؤولية عنها لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، على نحو خاصّ رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح، ليس فقط بسبب علاقاته الوثيقة بواشنطن وحرصه على الحفاظ عليها والتوفيق بينها وبين علاقاته الضرورية مع الموالين لإيران في الداخل العراقي والذين لم يكن يستطيع الوصول إلى منصب الرئيس دون موافقتهم، ولكن أيضا بسبب نسف التهديدات، التي وجّهتها الميليشيات الشيعية الموالية لإيران إلى الولايات المتّحدة، لتنظيرات صالح بشأن سياسة التوازن والنأي بالنفس وتجنيب العراق صراعات المحاور، وهي السياسة التي روّج لها بكثافة منذ مجيئه للرئاسة، وكان يعتقد أنّه يتقدّم فعلا نحو إرسائها.
وبينما كثفت إسرائيل حراكها العسكري ضد الوجود الإيراني في المنطقة، سعى الرئيس العراقي إلى إبلاغ ساسة بلاده الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع طهران رسالة ينص مضمونها على أن “التصعيد ليس في صالح بغداد”.
وقادت سلسلة تفجيرات ضربت عددا من مخازن السلاح والعتاد التابعة للحشد الشعبي وأقرت الحكومة العراقية بأنها نُفذت بفعل فاعل، إلى إطلاق سلسلة تهديدات من قبل فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران ضد المصالح الأميركية في العراق.
واتهمت هذه الفصائل واشنطن بتسهيل عمليات إسرائيلية لقصف أسلحة وأعتدة الحشد الشعبي، مؤكدة أنها ستهاجم أهدافا أميركية في العراق إذا تعرضت مقراتها لاستهداف جديد. وقال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس إن الجيش الأميركي أدخل أربع طائرات إسرائيلية قادمة من أذربيجان إلى العراق لتنفيذ عمليات قصف ضد مقرات عراقية.
وقالت كتائب حزب الله، وهي أشد الفصائل العراقية المسلحة تطرفا وأكثرها قربا من الحرس الثوري الإيراني، إنها ستهاجم المصالح الأميركية في العراق إذا تعرضت مقرات الحشد الشعبي لقصف جديد.
رسائل للمقربين من إيران تتضمن مخاوف أطراف داخلية وخارجية من تحول العراق إلى ساحة مواجهة بين طهران وواشنطن
لكن تهديد زعماء الميليشيات العراقية، على ما يبدو، لم يوقف إسرائيل عن مواصلة استهداف الأنشطة الإيرانية في المنطقة من خلال غارات جديدة في سوريا.
وأعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي جوناثان كونريكوس عن “تمكن جيش الدفاع الإسرائيلي بواسطة مقاتلاته من إحباط محاولة إيرانية قادها فيلق القدس انطلاقا من سوريا لشن هجوم على أهداف إسرائيلية في شمال إسرائيل باستخدام طائرات مسيّرة قاتلة”.
وأضح كونريكوس أن الهجوم الإسرائيلي استهدف عددا من الأهداف الإرهابية ومنشآت عسكرية لفيلق القدس وميليشيات شيعية، في منطقة عقربة في جنوب شرق دمشق.
ويستخدم في العادة مصطلح “ميليشيات شيعية” لوصف المقاتلين العراقيين الذين يعملون تحت إمرة القوات الإيرانية في سوريا.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها قوات عراقية في سوريا إلى قصف إسرائيلي، لكنها المرة الأولى التي يجري فيها تبني العملية بشكل رسمي من قبل تل أبيب.
وفي أوضح إشارة إلى تبني إسرائيل غير المباشر للعمليات العسكرية ضد الميليشيات الشيعية العراقية الحليفة لإيران في سوريا والعراق، قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن العملية التي شنتها إسرائيل على الأراضي السورية كان “هدفها نقل رسالة لطهران مفادها أنه لا حصانة لها في أي مكان”.
وأضاف “لولا النشاطات الإسرائيلية على مدى السنوات الأخيرة لوصل عدد المقاتلين الإيرانيين في سوريا إلى مئة ألف”. ولم يقرّ كاتس بما يتردد عن قيام إسرائيل بعمليات داخل العراق. واكتفى بالقول “إننا نعمل في أماكن مختلفة”. وبدا خلال اليومين الماضيين أن بغداد تقف على حافة الانزلاق نحو حرب بين إسرائيل ووكلاء إيران في العراق.
ويحاول الرئيس العراقي برهم صالح الحصول على ضمانات من الساسة المقربين من طهران بالعمل على ضبط معسكرهم وامتصاص حماس أنصارهم.
وبعد اجتماعه مع رئيسي الوزراء عادل عبدالمهدي والبرلمان محمد الحلبوسي وإصداره بيانا داعما لجهود الحكومة في بسط قرارها على قوات الحشد الشعبي، التقى صالح زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي وزعيم تحالف الفتح هادي العامري، المقربين من إيران.
وتحدث صالح مع المالكي والعامري عن “رفض سياسة المحاور، وضرورة النأي بالبلد عن أن يكون ساحة لتصفية الحسابات”، مشددا على “ضرورة الالتزام بموقف الدولة العراقية بمختلف مؤسساتها التنفيذية والتشريعية في إعلاء المبادئ الدستورية واعتماد السياقات القانونية في التعاطي مع الأزمات، وعدم القبول بأن تكون البلاد ساحة صراع وتناحر للدول الأخرى”.
وفيما دعا إلى “العمل المشترك من أجل السلام والتنمية والتقدم والتعاون الإقليمي”، لفت صالح إلى “أهمية اكتمال التحقيق الجاري من قبل الجهات الوطنية المختصة في معطيات ما تعرضت له مخازن للأسلحة من تفجيرات مؤخرا للخروج بموقف موحد يحفظ حقوق العراق ويعزز أمنه واستقلاله وسيادته”.
وبدا أن حديث الرئيس العراقي يتضمن رسائل صريحة، لأقرب المقربين من طهران، تتضمن مخاوف أطراف داخلية وخارجية من تحول العراق إلى ساحة مواجهة بين إيران والولايات المتحدة.
ولم يستبعد مقربون أن يكون الرئيس العراقي نقل رسائل أميركية إلى حلفاء إيران في العراق، تحذّرهم من استهداف مصالح الولايات المتحدة في هذا البلد. وتستند هذه القراءة إلى حقيقة العلاقة الوثيقة بين الرئيس العراقي ومسؤولين بارزين في الإدارة الأميركية.
ويمكن أن تقود هذه الرسائل بجانب الرسائل العسكرية التي يحملها القصف الإسرائيلي لتحركات القوات الإيرانية والميليشيات العراقية في سوريا ومقرات الحشد الشعبي في العراق، إلى دفع الإيرانيين للإفصاح عن حقيقة نواياهم وما إذا كانوا يخططون لمواجهة عسكرية فعلا.
لكن مراقبين يتحدثون عن “خيارات محدودة” أمام إيران في حال أرادت الرد داخل العراق، فالسفارة الأميركية ببغداد لم تعد تضم سوى 15 شخصا بعدما خدم فيها ثلاثة آلاف موظف في بعض الأحيان، ما يحد من قيمة استهدافها، أما الوجود العسكري الأميركي فهو لصيق بالقوات العراقية ما يصعّب مهمة استهدافه، وهو ما يرجح اقتصار الرد الإيراني على المواقف الإعلامية.
العرب