إن كراهية بنيامين نتنياهو التي تكون مبررة أحياناً ومبالغاً فيها في أحيان أخرى، تبعث في الحياة المزاج القديم المحبوب في إسرائيل: الاشتياق لما كان، وأكثر من ذلك، الاشتياق لما لم يكن موجوداً في أي يوم. هذا موسم الولادة المتعسرة: من يخوّف الآخر أكثر بوصف الكوارث التي تقف أمام إسرائيل: دولة شريعة، نهاية الديمقراطية، نهاية الدولة، نهاية العالم.
يوم القيامة الآن، وما هو الأكثر طبيعية من تجميل الماضي، الاشتياق لما كان، تعظيم ما لم يكن. إسرائيل الجميلة والعادلة.. قبل صعود النذل إلى السلطة؛ خرابها بعد 13 سنة من حكمه. الحقيقة هي أن الوضع كان أفضل قبل مجيء نتنياهو، ولكنه كان أقل جودة مما يصفونه، اليوم
أسوأ لكنه أقل مما يبكون عليه.
اشتاقت إسرائيل إلى الماضي وزينته؛ في عام 1960 نشرت “هيد آرتسي” تسجيلات (التي كانت بملكيتها)، عشية أغاني اليشوف الذي عقد في قصر الثقافة بتل أبيب، وكان عمر الدولة حينها 12 سنة. اشتاقت الدولة في حينه إلى ماضيها. “ارفعوا صهيون واحملوا المعجزة والعلم، انظروا كم هو عظيم هذا اليوم”. تلك كانت التسجيلات الأولى في كل بيت تقريباً. لقد سمعناها عشرات المرات بانفعال حميمي مبكر ومبالغ فيه. هكذا علمونا بأن نشتاق لما يجب وعدم معرفة ما لا يجب معرفته. بعد ذلك بـ 60 سنة، تتكرر اللازمة مرة أخرى: يقولون إن الوضع هنا كان أكثر سعادة قبل ولادتي.
الحنين إلى الماضي يتركز الآن على الديمقراطية المثالية، والإعلام الحر، والعلمانية المجيدة التي كانت موجودة ولم تعد موجودة الآن، بسبب نتنياهو بالطبع. في سنة واحدة من بين الـ 71 سنة من حياتها، في 1966 – 1967، لم يوجد في إسرائيل حكم عسكري في جزء من المناطق الخاضعة لسيطرتنا. هل يمكن تصديق ذلك؟ في الـ 18 سنة الأولى كان هناك حكم عسكري داخل الحدود السيادية، وكان سارياً على عدد من مواطنيها، ولكن حسب الانتماء القومي.
ديمقراطية؟ حتى بدون ضحك، إن التقدم المهني لكثيرين كان مرهوناً ببطاقة الحزب، قبل وقت طويل من الحديث عن التسييس. المحكمة العليا تملصت بخوف طوال سنوات من الحسم بشأن الاحتلال، قبل وقت طويل من المس الشديد بحراس العتبة. اليسار الراديكالي والعرب كانوا خاضعين لملاحقات واضطهاد لم يتجرأ أحد على تطبيقها اليوم. كانت إسرائيل في حينه دولة شاباك أكثر مما هي الآن، الجيش أيضاً كان أكثر تقديساً.
كان هذا قبل وقت طويل من نتنياهو، قبل وقت طويل من هجوم رئيس الحكومة “الشائن” على القناة 12. معظم الصحف كانت صحفاً ناطقة بلسان الأحزاب. ثمة مؤسسة غير ديمقراطية بصورة واضحة، ولجنة المحررين سيطرت على المعلومات التي نقلت إلى الجمهور بتعاون مخجل مع السلطات. والرقابة العسكرية مسحت وأسكتت أكثر مما تفعل الآن.
الإعلام كله كان مجمداً تقريباً. مدير عام مكتب رئيس الحكومة عمل محرراً رئيساً في إذاعة الحكومة الوحيدة في حينه. معظم الصحف خدمت نوايا واحدة ووحيدة، قومية ووطنية. مذبحة كفر قاسم والقتل الجماعي الإجرامي في قبيا أخفيت عن الجمهور لزمن طويل، بموافقة ذليلة لما يسمى الصحف الحرة -كما يبدو- قبل نتنياهو.
قبل نتنياهو، لم يكن هنا علمانية يخافون عليها كثيراً. المدارس العلمانية في طفولتنا كانت متدينة أكثر من الموجودة الآن. آيات التوراة اليوم في طابور الصباح.. قبعة منسوجة في كل درس للتوراة.. تقبيل كتاب التوراة إذا سقط على الأرض، لا سمح الله. “عيد نزول الكتاب” في الصف الثاني، هو عيد “نزول التوراة”، كل ذلك في معاقل العلمانية في تل أبيب.
مدينة كانت مغلقة ومنغلقة تماماً في أيام السبت أكثر مما هي اليوم. سينما في يوم السبت؟ محلات؟ بصعوبة.. صيدلية مناوبة في طرف المدينة. هذا كان قبل وقت طويل من التهويد.
وكان الوضع أكثر سعادة قبل وقت طويل من التهويد وتخريب الديمقراطية، لكن ليس كما يصفونه الآن. تسبب نتنياهو بالضرر والتخريب. ولكن كان هناك من سبقوه في ذلك.
القدس العربي