تبدو كل سيناريوهات الحلول المحتملة للعراق بعد انتفاضة الشباب المتصاعدة في بغداد والمحافظات، إما مرتبطة بالأحزاب الحاكمة أو بالميليشيات التي تدين بالولاء لإيران أو بقرار وموقف مرجعية النجف، وهي في مجملها حلول لم تعد قابلة للاستهلاك الشعبي، يرفضها المحتجون بشكل قوي.
في يوم ما استفاق العراقيون على هول صدمة احتلال بلدهم، وعندما فتحوا التلفزيونات وجدوا أرذل صور الرثاثة السياسية مجسّدة في مجلس الحكم المنحل، فأطلقوا للمرة الأولى على أنفسهم سؤال: هل نحن حقا مختلفون إلى هذا الحد؟ الإجابة وجدناها اليوم في ساحة التحرير!
إذا كان رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي قد تعلّم مبكرا أفضل من غيره الدرس التقليدي في علوم السياسة عن “فن الممكن”، فإنه لا يستطيع أن يخرج من تاريخ المنطقة الخضراء الرث لأنه نتاج مجلس الحكم المنحل.
وليس صعبا على جيل الانتفاضة المتصاعدة في المدن العراقية استعادة سنوات مجلس الحكم الرثة، فغالبية الوجوه التي اختارها الحاكم المدني بول بريمر آنذاك متواجدة اليوم بطريقة أو أخرى في القرار السياسي، من بينهم عبدالمهدي نفسه، فيما كان الرئيس الحالي برهم صالح نائب رئيس وزراء في أول حكومة شكّلها الحاكم المدني الأميركي برئاسة آياد علاوي، ومع أنهم جميعا نتاج حكومة افتراضية، لكن الواقع السياسي يتعامل معهم، من دون أن يترقّب منهم إنتاج حل لمعضلة العراق المستمرة منذ انهيار القيم الوطنية عند ساسة 2003، فظهر للعالم العراق المزيف فيما توارى العراق الحقيقي في القلوب وفي متون التاريخ.
استعادة العراق لعراقيته
المنطقة الخضراء ليست مصدرا لأي حل اليوم مهما علت الخطابات التلفزيونية من زعاماتها، فلا أحد يستطيع إيجاد حل أين تكمن المشكلة نفسها.
لهذا يرفض شبان “نازل اخذ حقي” الطبقة السياسية والدينية برمتها، عندما تعلموا الدرس الذي أريد له أن يغيب عنهم، الحل يكمن في استعادة العراق لعراقيته وهذا ما يختصره هاشتاغ بسيط، لكنه أعمق درس سياسي يقدمه العراقيون اليوم لشعوب العالم يتمثل في “نريد وطن”.
ببساطة متناهية غاب الوطن في كل ما جرى من أحداث في العراق منذ عام 2003، وحل مكانه تقسيم ديني وطائفي وقومي أريد له أن يكون ممثلا شرعيا لما سمي بالعراق الجديد. واليوم يراد من منظري ذلك التقسيم الواهن إيجاد حل لمعضلة متصاعدة في بلاد مخطوفة كانوا أنفسهم مصدرا حقيقيا لها وأصروا على استمرار التقسيم من أجل بقائهم واستمرار مصالحهم.
وهذا يعني أن مفاهيم السياسة سترتد وترتدي برقع طالبان عندما تتوخى من الطبقة السياسية الحاكمة في المنطقة الخضراء بقوة الفصائل التي تدين بالولاء لإيران، إيجاد نهاية مخاتلة لثورة شباب العراق.
دعونا نتخيل السيناريوهات المحتملة للأسابيع المقبلة في عراق تستمر ثورته، فإيران لا تغيب عن مجمل تلك السيناريوهات مع أن القرار عراقي كما يزعمون، عندما يتعلق بالحكومة والبرلمان، غير أن الشارع العراقي لديه السيناريو الأوضح عندما غيّر أسماء الشوارع في النجف وكربلاء والديوانية من مسميات إيرانية طائفية إلى عراقية وطنية. وهذا يعني ببساطة أن كل حل لمستقبل العراق بمواصفات إيرانية لا يمكن أن يكون حلا، لذلك ووفق التقويم المفرط بالتفاؤل، ليس بمقدور المنطقة الخضراء وساستها وأحزابها ورجال دينها إنتاج حل لا يكون بصناعة إيرانية.
العراقيون لا يرون أن بدائل عادل عبدالمهدي موجودون في منظومة الحكم القائمة
سيناريو التدوير لوجوه منتجة من أحزاب طائفية بغض النظر عن نيات تلك الوجوه ليس حلا آخرا، فهم بالنهاية أبناء مخلصون للأحزاب الطائفية الحاكمة، لذلك عندما اقترح هادي العامري، رئيس قائمة الفتح في زيارته الحالية إلى إيران، أسماء من تلك الأحزاب على “السادة” في طهران من أجل استحصال الموافقة عليهم، كان يدور في نفس محيط العبث السياسي المراوغ، فليس هناك من يرى من المحتجين العراقيين أن بدائل عادل عبد المهدي موجودون في منظومة الحكم القائمة. ما يؤكد تشبث الطبقة السياسية بآلياتها السائدة في التغيير، برغم الغضب الكبير في الشارع.
عرض العامري عددا من المرشحين على طهران، لتوافق على أحدهم، كي يجري تكليفه بتشكيل حكومة “عراقية” جديدة، فقصي السهيل عن ائتلاف دولة القانون، وعدنان الزرفي عن تحالف النصر وعبدالحسين عبطان عن تيار الحكمة، تمثيل طائفي مكرر لم يعد مقنعا لجيل عراقي أعلن دفن الطائفية في ساحة التحرير.
ذلك أيضا سيناريو حل أنتجته المنطقة الخضراء غير قابل لقبول الشارع العراقي الذي غادر التردد وهو يصنع المستقبل.
دعونا نرى سيناريو أن يكون الحل بيد مرجعية النجف بزعامة آية الله علي السيستاني، وهو أمر لن يكون مقبولا ببساطة، فالمرجعية نفسها سقطت هيبتها عند الشارع العراقي منذ أن أصبحت طرفا محايدا بين المتظاهرين والأحزاب الدينية الفاسدة.
تاريخ المرجعية منذ عام 2003 ليس صامتا بقدر ما هو نجاح في صناعة مفهوم دولة دينية داخل الدولة، المرجعية الشيعية غادرت مواصفاتها التاريخية بكونها مصدرا دينيا معنيا بشؤون الطائفة، وأضفت على نفسها طابعا سياسيا واقتصاديا مستحوذا على المال والقرار وبمباركة إقليمية ودولية.
دعونا نتذكر الفتوى السياسية الأولى للسيستاني قبل أيام من سقوط بغداد، عندما أعلن بشكل قاطع تحريم التعامل مع المحتل الأميركي! إلا أنه سرعان ما وجد نفسه أول المتعاملين معه بوجود أول دبابة أميركية على أرض العراق سواء عن طريق وسيط أو بالحث!
قال بريمر وقتها إن رسالة السيستاني إليه كانت ذكية ومقبولة بالنسبة إلينا كأميركان إلى درجة استمر التواصل بيننا عن طريق أطراف أخرى، فكان من مصلحة السيستاني ومن مصلحتنا أيضا ألا نلتقي وجها لوجه.
للمرجعية منذ عام 2003 تاريخ ملوث باللاوطنية، وكانت أنانية في كل مواقفها وأبوتها لأحزاب طائفية وفصائل مجرمة مارست القتل على الهوية، منذ اللحظة التي أقرت فيها دستورا تقسيميا وحتى فتوى إنشاء الحشد الشعبي، فلماذا يراد لها اليوم أن تكون مصدرا للحل في صناعة مستقبل العراق وهي شريكة في كل الذي مر عليه من مآس.
إن مفاهيم السياسة سترتد وترتدي برقع طالبان عندما تتوخى من الطبقة السياسية الحاكمة في المنطقة الخضراء بقوة الفصائل التي تدين بالولاء لإيران، إيجاد نهاية لثورة شباب العراق
أرى أن المرجعية نفسها بحاجة إلى إصلاح من أجل استعادة دورها الديني ومنع تحويل العراق إلى جمهورية إسلامية على غرار إيران يحكمها السيستاني من قبوه الغامض!
لا تخفي المرجعية قلقها المتصاعد مما يجرى في الشارع العراقي، لأنه في النهاية سيهدد رمزيتها وسهولة إعلان مواقف شعبية مناهضة لها كمقدمة لانحسار تأثيرها، لذلك ستبقى معنية بالخيارات، وخصوصا التعديلات المحتملة للدستور والقانون الانتخابي.
لكن مجريات الأسابيع الماضية تدفعنا إلى قراءة تتمثل برفض السيستاني التخلي عن فكرته بأن أي تغيير يجب أن يحدث من داخل النظام وعبر الآليات السياسية المعهودة، والتي أريد لها أن تكون سائدة في التدوير الطائفي والتقسيم القومي للعراقيين لجعل وطنيتهم في هامش التعريف الطائفي والعشائري، الأمر الذي تستفيد منه الكتل السياسية في الاستمرار بمعارضة رغبة الجمهور بالتغيير.
سيدعم السيستاني التغيير إذا كان البديل من أحزاب شيعية موالية له أو تحفظ مركزية تأثيره ولا تفكر في وضع المرجعية ضمن المراكز التي تتحمل مسؤولية تحويل العراق إلى بلد فاشل.
ستقبل المرجعية في النهاية بديلا ليس جزءا من المشروع الإيراني المباشر لإقناع المحتجين وامتصاص غضبهم، وإن كانت لدى ذلك البديل صلات جيدة بطهران، وهذا النوع من الساسة موجود والسيستاني يعلم هذا. لكنه في النهاية ليس حلا ثارت من أجله الملايين في الساحات العراقية. وسيكون مصيرة استمرار عملية الفشل السياسي.
ملاذ الدستور التقسيمي
ماذا عن الدستور والكلام الذي يدور بشأن تغييره، إنه المعضلة الكبرى، فهو الملاذ الذي أبقى الطائفيين على طائفيتهم والمقسمين على حصتهم، لأنه كتب في لحظة شاذة من تاريخ العراق، ولم يكتب للعراق والعراقيين. الدستور في حقيقة الأمر لا يمثل إلا من كتبه من بينهم نوح فليدمان الخبير القانوني الأميركي الذي اختاره بريمر في الإشراف على لجنة كتابة الدستور.
لذلك توصلنا النهاية التي لم تحن بعد إلى أن الحلول المقترحة للعراق المزيف، الذي ثار عليه شباب ساحة التحرير، لايمكن أن تأتي من المنطقة الخضراء لأنها لا تمثل العراق الحقيقي.
في يوم ما وبعد أسابيع من احتلال بغداد، سألت أحد الذين أسهموا في كتابة تاريخ العراق السياسي والإعلامي في العقود الأخيرة، ما يمكن لنا أن نترقبه من وطننا، فعبر لي عن تشاؤمه المطلق متوقعا أننا نحتاج إلى أكثر من نصف قرن لاستعادة العراق من خاطفيه.
كنت أحمل مثل هذا التشاؤم مثله بعد سنوات رثة ومريرة وموجعة مرت على العراق، إلا أن جيل التوك توك اختصر السنين وصنع المعجزة التي فشلنا حتى في تخيلها.
العرب