يُعرف الاغتيال كمصطلح يُستعمل لوصف عملية قتل مخططة ومنظمة ومتعمدة، ويستهدف شخصيات مهمة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو أمني، وتكون دوافعه في الغالب عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو انتقامية أو استباقية، ويستهدف شخصية معينة أو مجموعة شخصيات يعتبرها منظمو الاغتيال والقائمون عليه عائقاً لهم في طريق انتشار أوسع لأفكارهم أو أهدافهم أو مشاريعهم، ولا يقتصر الاغتيال على القادة السياسيين أو العسكريين فقط بل يقع في دائرة أهدافه العلماء والأدباء والشعراء أيضا، كاغتيال الأديب والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني، عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في منتصف عام 1972، بل قد يمتد ليطول الأصدقاء أحيانا إذا كان لديهم أسرار يُمكن أن تُفضي لتبعات أمنية أو سياسية. وهو ما سنشير إليه لاحقا في نموذج خدمة مقابل خدمة كتسهيل اغتيال السياسي المغربي المهدي بن بركة، واغتيال الأصدقاء كالوزير اللبناني إيلي حبيقة.
“كيدون”
بعد سبع سنوات فقط من إعلان قيام إسرائيل، وفي عام 1955، كتب المحاضر في الجامعة العبرية يشعياهو ليبوفيتش رسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون، اشتكى فيها من “أن الفلسطينيين الأبرياء يُقتلون في العمليات الإسرائيلية”، وجاء رد بن غوريون واضحًا “لا أتفق معك”، مؤكدًا أنه “إذا كان من الجيد أن يكون هناك عالم مليء بالسلام والأخوة والعدل والصدق، فإن الأكثر أهمية من ذلك أن نكون كإسرائيل موجودين فيه”. من الواضح أن فكرة الدولة المحصنة جيدًا التي تقضي على أعدائها بالقوة كلما كان ذلك ممكنًا لا تزال تدعمها أغلبية كبيرة من الإسرائيليين، هذه القناعة هي التي سهلت مهمة تحويل الموساد من جهاز للتنسيق الأمني إلى آلة فعلية للقتل، بل إن وحدة نخبة خاصة داخله، يطلق عليها “كيدون” وتابعة لفرع العمليات الخاصة بالجهاز “قيساريا”، تم إنشاؤها خصيصًا لهذا الغرض.
بدأ الموساد نقل عملياته للخارج في الستينيات، بعد أن قام باستهداف عالم الصواريخ الألماني هاينز كروغ، الذي كان يعمل في برنامج تطوير الصواريخ المصرية في ميونخ عام 1962، قبل أن يقوم الجهاز باغتيال هربرت كوكروس عام 1969 في أورغواي، ضمن برنامج اغتيالات خاص وجهه الموساد للمتورطين في “مذابح الهولوكوست” ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
أقتل أولا
يُقدم رونين برغمان، مؤلف كتاب “أقتل أولا” التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل، وقائع لسلسلة طويلة من النجاحات التكتيكية المذهلة، وأيضا من الفشل الاستراتيجي الكارثي، كمحاولة اغتيال خالد مشعل الفاشلة عام 1997، ويشير في مقابلة جرت معه بالتزامن مع نشر كتابه إلى نجاح وفاعلية أكثر من 2700 عملية اغتيال في تاريخ إسرائيل منذ قيامها أي خلال 70 عاما فقط. بل يتحدث الكتاب عن تبادل للخبرات في الاغتيالات بين إسرائيل والولايات المتحدة، ويقول إن الولايات المتحدة قد استفادت من الخبرات الإسرائيلية في مواجهة الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأن بوش الابن نقل هذه الخبرات للأجهزة الأمنية الأميركية.
حان الوقت كي تدفعوا
يشرح برغمان في كتابه “أقتل أولا” نموذجاً من الاغتيالات الإسرائيلية يمكن تسميته بـ” خدمة مقابل خدمة” ويذكر حادثة اغتيال السياسي المغربي المهدي بن بركة، ويقول: “هناك قضية بن بركة، وتورط إسرائيل في اغتيال السياسي المغربي في أكتوبر 1965”. ويضيف أنه قضى ساعات طويلة مع مئير عميت (رئيس الموساد في الفترة من 1963 إلى 1968) ولم يخبره بالحقيقة الكاملة. ويصف برغمان العملية بالاستثنائية، ويقول إن مئير عميت لم يُقدم تقريرا كاملا إلى رئيس الوزراء آنذاك ليفي إشكول عما حدث. وأنه – مئير- ورّط الموساد في عملية اغتيال سياسي. ويدعي برغمان أن الموساد لم يفعل ذلك، لكنهم ساعدوا السلطات المغربية في اغتياله.
يتساءل برغمان في تفاصيل عملية اغتيال المهدي بن بركة، قائلاً: “لماذا أرادوا مساعدة المغاربة؟ لأنه في أيلول/ سبتمبر آنذاك- قبل شهر من عملية الاغتيال- عُقدت في الدار البيضاء قمة للجامعة العربية”. وينقل برغمان على لسان مئير “لقد سمح لنا المغاربة بوضع أجهزة سمع والإصغاء لكل ما يقولونه لبعضهم بعضاً. وكانت تلك التسجيلات أساس ثقة إسرائيل بأنها ستفوز في حرب الأيام الستة، لأنه يمكن سماعهم يتجادلون”. ويضيف “ذهب عميت إلى إشكول وقال: انظر، يمكنك سماع عبد الناصر وحسين يصيحان على بعضهما بعضا. وبعد شهر فقط، جاء المغاربة إلى الإسرائيليين وقالوا: لقد حان الوقت لكي تدفعوا عما لديكم، نعم؟ “.
الأصدقاء في دائرة الاستهداف
نموذج آخر مختلف من الاغتيالات الإسرائيلية ما تعرض له الوزير إيلي حبيقة في لبنان، الذي قُتل صباح الخميس 24 يناير/ كانون الثاني 2002 بانفجار سيارة ملغومة في ضاحية الحازمية ببيروت الشرقية، وقُتل معه في الانفجار ثلاثة من مرافقيه. وقد كشف تحقيق خاص في برنامج “الجريمة السياسية” الذي بثته الجزيرة بتاريخ (2019/9/1) ملابسات اغتيال الوزير اللبناني السابق إيلي حبيقة، و مدى ارتباط اغتياله بمجزرة صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وارتبط اسم حبيقة بمجزرة صبرا وشاتيلا التي وقعت في سبتمبر/ أيلول 1982 وبقيت تلاحقه حتى مقتله، إذ برز اسمه كأحد المسؤولين عن المجزرة، بدعم من وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون. وارتبط اغتيال حبيقة عقب استعداده للإدلاء بشهادته أمام محكمة بلجيكية تثبت تورط شارون بمجزرة صبرا وشاتيلا، وعندما شعر شارون باقتراب حدوث ذلك وإمكانية إدانته بالمجزرة قرر اغتيال حبيقة الذي يصفه الأكاديمي الإسرائيلي إيال زيسر بأن – حبيقة- زار إسرائيل عدة مرات وكان مسؤولا عن التواصل والتنسيق مع الإسرائيليين، وبعد اغتيال حبيقة تم إغلاق ملف المجزرة. ويصف شارون محددات الاغتيالات الإسرائيلية قائلا: “في بعض الأحيان سوف نعلن ما فعلناه، وأحيانًا أخرى لن نعلن أننا فعلناه، ليس علينا دائمًا أن نعلن ذلك”.
نفذت إسرائيل ما يزيد عن 2700 عملية اغتيال خلال سبعة عقود، وامتدت الاغتيالات الإسرائيلية إلى الكفاءات العلمية في كل من تعتقد أنه قد يُمثل خطرًا على وجودها مثل ما شهدته مصر من اغتيال عالمة الطاقة النووية سميرة موسى، والمفكر في الأيديولوجية الصهيونية جمال حمدان، وعالم الذرة مصطفى مشرفة، وسعيد بدير العالم في مجال الاتصال بالأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، وكذلك اغتيال العلماء العراقيين، واغتيال علماء في برنامج إيران النووي، وشهدت سورية في 10 أكتوبر/ تشرين الثاني عام 2014 تفجيرا لسيارة بمنطقة برزة بدمشق، اتضح فيما بعد أنها تقل خمسة من علماء الطاقة النووية في سورية.
لم تكن الاغتيالات الإسرائيلية موجهة للفلسطينيين فقط، أو حتى للعرب فحسب، ولكن لتصفية خصوم إسرائيل بالكامل، سواء أكانوا رموز حركات المقاومة أو علماء عرب أو أجانب مشرفين على برامج تسليح في الدول المعادية لإسرائيل، أو حتى من الدبلوماسيين والسياسيين الذين تبنوا سياسات تضر بمصالح إسرائيل.
وتقوم استراتيجية الاغتيالات الإسرائيلية على تنفيذ العمليات، سواء استخبارية أو عسكرية لتقليص قدرات الأعداء من التزود بأي إمكانيات قد تُسهم في إحداث أي تحول في موازين القوة في المنطقة. ويتسق ذلك مع اتجاه نمط الاغتيالات الإسرائيلية الموجه بالأساس ضد ظهور أي زعامة قد تقود الجماهير، وكذلك منع تطوير أيٍ من دول المنطقة للتكنولوجيا النووية، أو حتى عمل المقاومة الفلسطينية على تنمية منظومتها الهجومية كالصواريخ والطائرات من دون طيار.
من دون توقف
كشف رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، في الحادي عشر من أكتوبر 2019 في مقابلة مع صحيفة معاريف الإسرائيلية أن الموساد لم يوقف عمليات الاغتيالات واستهداف عناصر بارزة في حركة حماس، منذ اغتيال المهندس الفلسطيني فادي البطش في ماليزيا. ومهندس الطيران التونسي محمد الزواري، وأضاف كوهين في المقابلة المذكورة، أن إسرائيل تنفذ عمليات اغتيال كهذه بشكل متواصل ومن دون توقف. ويقول: “المعركة هي اسم اللعبة، وظيفتنا أن نقطع تطوير أي قدرات استراتيجية للعدو، كالتي يمكن أن تمس بمستقبل وأمن مواطني دولة إسرائيل”. وقد تطرق رئيس الموساد إلى مسألة تصفية واغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، فقال: “إن الأخير لم يرتكب بعد الخطأ المصيري الذي يضعه على قائمة المطلوبين للموساد، لكن سليماني يدرك أن اغتياله واستهدافه ليسا أمرَين غير ممكنَين”.
العربي الجديد