الهجوم الدموي الذي نفّذته ميليشيات مسلحة على جموع المتظاهرين في ساحة الخلاني وجسر السنك ببغداد مساء الجمعة الماضي، يعني شيئا واحدا وهو أن عصابات إيران أزاحت جانبا من يمسكون بمقاليد السلطة في العراق، وقررت أن تحسم الأمر بنفسها من خلال مخططها لبث الرعب في صفوف الثائرين عبر الاندفاع المباشر للقتل وسفك الدماء، وكأنها تقول إن لا عاصم لدماء الأبرياء من همجيتها.
كان ذلك الهجوم الوحشي أقرب ما يكون إلى عمل منفرد نفّذه شخص بأسلحة عدة، أو أقرب إلى عمل جماعي بقرار موحّد صادر عن جهة بعينها لعدد من عناصرها المدربين والمؤدلجين غير المستعدين لمناقشة الهدف من وراء ما كُلّفوا به، ولا للتراجع في لحظة ما عن إطلاق النار، وهم أقرب إلى كتيبة الإعدام الموجهة لتنفيذ حكم باتّ استنفد كل مراحل التقاضي.
بين الهجوم الوحشي والعمل الإرهابي والاعتداء الإجرامي تعددت النعوت المطلقة على تلك الحادثة المريعة، لكن لا أحد يستطيع توجيه أصبع الاتهام مباشرة لمن يجلس على مقعد وثير في مكان ما من العاصمة بغداد ليتابع تحركات القتلة، وربما ليسمع أزيز الرصاص وهو يمزق صدور الوطنيين العراقيين، لأن الوضع في العراق أصبح محلّ تجاذب بين شعب ثائر يطمح إلى تحرير بلاده من الفساد الممنهج في مفاصل الدولة، والاستبداد الميليشياوي الخاضع لأوامر الاحتلال الإيراني عبر أدوات فارسية مباشرة وأخرى محلية تأتمر بأوامر علي خامنئي وقاسم سليماني وإيرج مسجدي في ضرب عراق اليوم كما كانت تأتمر بأوامرهم في ضرب عراق الثمانينات من القرن الماضي، عندما كانت تشارك في المعارك إلى جانب الإيرانيين ضد جيش بلادهم.
لقد بات واضحا أن إيران تراهن وبقوة على إلغاء إرادة العراقيين، والإطاحة بحلمهم بوطن قوي وغني وآمن وموحّد وجامع لأبنائه تحت خيمة الانتماء الوطني، لا تحت هيكل الانقسام الطائفي والديني والعرقي. وهي تعتبر نجاح العراقيين في تحقيق أهداف ثورتهم فشلا لمشروعها الإمبراطوري الذي يستهدف بالأساس وطن العرب انطلاقا من بوابته الشرقية. لذلك نزلت بكل قوتها للتصدي للثوار من خلال الاستهداف المباشر بالرصاص الحي، في استحضار للغز القناصين المحترفين الذي عرفته انتفاضات ما سمّي الربيع العربي ولا يزال إلى حد الآن خارج إمكانية التفكيك. الفرق أن ما حدث في 2011 كان لإسقاط الأنظمة، وما تقوم به إيران اليوم هو لإسقاط إرادة الشعوب.
لقد نظر نظام الملالي وحلفاؤه ولا يزالون، إلى الثورات ضد الأنظمة المرتبطة بهم على أنها مؤامرات، بينما يرون في أي تحرك ضد الأنظمة غير التابعة لمشروعهم بأنها ثورات شعبية تستحق الدعم والمساندة، فما يهمهم ليس تلك الشعارات المرفوعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا محاربة الفساد وتحرير الأوطان من الاستبداد، إنما يهمهم وبالأساس أن تنتصر الحسابات والمصالح الاستراتيجية لمشروع الحاكم بأمره الإيراني، ذاك المتدثر بعباءة الطائفية لتنفيذ مشروعه التوسعي الإمبراطوري عن طريق ميليشيات مسلحة لا تحترم روح الدولة الوطنية ولا تعترف بسيادتها.
وكما هو الشأن بالنسبة إلى المشروع الفارسي، يبدو المشروع العثماني الأردوغاني التركي رديفا له، في دعم ميليشيات ليبيا ضد إرادة الليبيين، وفي دعم الإرهاب في سوريا ضد إرادة السوريين، وفي احتضان المتآمرين على الدولة المصرية ضد إرادة المصريين، بما يشير إلى الوضع المتأزم الذي أصبحت تعانيه المنطقة العربية المنتهكة حرماتها في أجزاء رئيسية من جغرافيتها، والمهددة سلامة أمنها القومي بفعل سلطة الميليشيات التي تتمدد أمام أنظار مجتمع دولي، يتدخل لإسقاط الأنظمة، ويمتنع عن ذلك عندما يتعلق الأمر بعصابات مسلحة تغدر بالآمنين وتسفك دماء المسالمين دون أي رد فعل لجرائمها.
كان الهدف من هجوم الجمعة الدموي هو التأكيد على تخوين وتكفير المتظاهرين السلميين واعتبارهم خارجين عن الدين والمذهب والطائفة، لأنهم هددوا مصالح نظام الملالي وأتباعه المحليين في العراق، وفي حالتي التخوين والتكفير يصبح هدر الدماء أمرا متاحا ومباحا، وهو ما رأيناه في دول عربية عدة، كاليمن المصابة بلعنة الحوثي وليبيا المطعونة بخنجر الإخوان والمقاتلة، ولبنان الممسوك بقبضة حزب الله وحركة أمل، والجزائر التي دفعت أرواح عشرات الآلاف من أبنائها خلال عشريتها السوداء، ومصر التي شهدت حربا طاحنة مع الإرهاب، وسوريا التي لا تزال تنزف، حتى لا يكاد يكون بلد عربي واحد خارج دائرة الاستهداف من قبل من يزعمون احتكار الدين ويعملون على سرقة الأوطان من شعوبها.
إن ما نشاهده اليوم في العراق هو تجاوز للقانون والعدالة وللقيم الأخلاقية ولحق الشعوب في الدفاع عن أوطانها ومقدراتها، وانتهاك لمبادئ الشرعية الدولية وللميثاق الدولي لحقوق الإنسان، وهو نتيجة مباشرة لغزو بلد مستقل وذي سيادة، واحتلال أراضيه، وتسليمه لأعدائه التاريخيين وللخونة المحسوبين عليه، وتحويله منذ عام 2003 إلى حقل تجارب لمشروع فاشل تم إسقاطه عليه دون تقدير لطبيعة خصوصياته الاجتماعية والثقافية، كما أنه نتيجة للسياسات العربية الفاشلة التي لطالما انبنت على الاندفاع التكتيكي دون أدنى استشراف لنتائجه على المدى البعيد.
لقد اعترفت الولايات المتحدة في مناسبات عدة بفشلها في العراق، وببطلان ذرائعها لاحتلاله، ولكن من الذي يدفع ثمن ذلك اليوم؟ إنهم العراقيون أولا ومن ورائهم العرب. واليوم يدفع أبناء الرافدين أرواحهم ودماءهم في معركتهم لإصلاح الخطأ، ويجد العرب أمنهم القومي منتهكا، ولكن دون قدرة على ردع أطماع إيران. وذات الأمر بالنسبة إلى تركيا التي تقضم أجزاء من سوريا، وترسو بأطماعها على الساحل الليبي، وتخترق دولا أخرى في صمت، كالمرض القاتل في صمت، والذي لا أحد يعرف متى سيفتك بصاحبه.
إن ما حدث في بغداد، الجمعة، يشير إلى أن هناك وحشا يحاول أن يمنع العراق من استعادة سيادته وقراره الوطني وحريته ومقدرات شعبه ووحدة مواقفه، وهو وحش لا يقف عند حدّ، وإنما يتربّص بالجميع، وبات من الضرورة التوافق عربيا ودوليا على ردعه ورده على أعقابه خائبا، حتى لا تصبح لنا ساحات أخرى كساحات الخلاني في عواصم أخرى كما هو الشأن في عاصمة الرشيد.
العرب