ما الذي ينتظره رئيس الجمهورية والبرلمان العراقي بعد اقالة رئيس الوزراء وحكومته، لترشيح بديل مؤقت يليق بمطالب وتضحيات المحتجين ودماء الشهداء؟ ما الذي سينفذه البرلمان، وهو المنتخب من قبل 18 بالمئة من المؤهلين للانتخاب، بينما يتواجد الـ 82 بالمئة منهم، حاليا، في ساحات المدن والمحافظات، احتجاجا على الطائفية والفساد والعمالة، التي غلفت حياة الشباب، الخريجين خاصة، خلال 16 عاما الأخيرة، في بلد يُعد واحدا من أغنى دول النفط المصدرة بالعالم، حيث يصدر 4 ملايين برميل يوميا، وتبلغ ميزانية حكومته 112 مليار دولار (ميزانية إيران للعام المقبل هي 35 مليار وسكانها ضعف سكان العراق) بينما لا يحمل خريج الجامعة، الذي يستشهد في ساحات الاعتصام، وفي جيبه اقل من الدولار يوميا؟
لنترك، جانبا، تاريخ الساسة العتيد في التعاون مع المحتل ومأسسة الطائفية ونهب ثروة البلاد. لنترك جانبا 16 عاما من تجريد المواطنين من الاحساس بالانتماء الى الوطن، وتصنيع الهويات الزبائنية، حيث الولاء لمن ينعم بالعمل او المال من أمراء الميليشيات ومافيات الفساد، ولنراجع سجلهم خلال الستة أسابيع الأخيرة، فقط، أي منذ اندلاع الانتفاضة في الأول من تشرين/ أكتوبر. ولنتبع مقولة « عفا الله عما سلف»، التي طالما كررها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.
عند مراجعة سجل إنجازات رئيس الجمهورية والبرلمان والحكومة المُقالة (لاتزال سارية المفعول بانتظار تحقيق معجزة اختيار رئيس وزراء جديد)، خلال الستة أسابيع، تقريبا، من المظاهرات والاعتصامات السلمية (باعتراف العالم كله)، اقترفت منظومة « العملية السياسية»، أو «النظام الفاشي»، حسب المنتفضين، بشكل مباشر أو غير مباشر، أفعالا تجاوزت حدود الوصف بمفردات «الجرائم» و«الانتهاكات» التي توصف بها أفعال الأنظمة القمعية، عادة.
يضم سجل النظام، حتى اليوم، قتل ما يقارب 475 مواطنا وعشرين ألف جريح وآلاف المعتقلين، بالإضافة الى المختطفين الذين لا يُعرف مصيرهم. وهي أرقام تضمن الفوز الساحق للنظام العراقي على نظام الدكتاتور زين العابدين بن علي، بتونس، مثلا، والذي بلغ عدد ضحاياه، في الأيام السابقة للإطاحة به، 67 شهيدا. وتمت محاكمة الأمنيين الذين ارتكبوا الجرائم، بعد هربه، وهنا وجه التشابه مع بعض ما يجري حاليا في العراق «لأن القتلى الذين سقطوا برصاص الأمن خلال الثورة أصيبوا في أماكن قاتلة مثل الرأس والرقبة، وهذا يعني أن فعل القتل كان متعمدا وليس على وجه الخطأ»، حسب محامية عوائل الشهداء.
مهما كانت مسميات «الطرف الثالث» أو «المندسين»، والتي ترتب عليها استشهاد مئات الشباب في مجازر وحشية ارتكبت خلال وجود هذا النظام، وفشله في حماية المواطنين هو مسؤولية النظام. وأن أفراده، في ظل نظام وطني، سيحاكمون، بتهم القتل العمد والجرائم ضد الإنسانية
من بين «إنجازات» النظام، التي انغرزت عميقا بذاكرة الشعب، هي ارتكاب المجازر. اذ لم يعد معدل القتل اليومي، التدريجي، للمتظاهرين، يُشبع من تعودوا على شرب الدماء. فكانت مجزرة الناصرية، جنوب العراق، التي ذهب ضحيتها زهاء 32 قتيلاوأكثر من 225 جريحًا في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، بينما قُتِل 15 متظاهرًا وجُرِح 157 آخرين في 30 تشرين الثاني/نوفمبر. تخللتها يوم 29 حملة تصفية المتظاهرين في مدينة كربلاء، استشهد خلالها 13 شخصا على الأقل وإصابة 865 آخرين. وأدى هجوم مسلحين على المتظاهرين، في ساحة الخلاني ومنطقة السنك، وسط بغداد، ليلة الجمعة 6 كانون الأول/ ديسمبر، الى مجزرة استشهد جرائها 25 شابا وجُرح نحو 130.
أدى استشراء القتل والاستهداف المنهجي للمتظاهرين الى استنكار عالمي بدءا من الأمين العام للأمم المتحدة الى فرنسا وكندا والولايات المتحدة، بالإضافة الى اصدار المنظمات الحقوقية الدولية، التقرير تلو التقرير، ادانة لاستمرار استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين مما أدى إلى ارتفاع عدد الوفيات والإصابات. ووصل الأمر بالبابا فرنسيس الى مناشدة « السلطات إلى الاستماع إلى صرخة الناس الذين يطلبون حياة كريمة وسلمية».
فمن هو المسؤول، اذن، عن ارتكاب هذه المجازر؟ يؤكد شهود عيان من بين المتظاهرين أنها ميليشيات مسلحة مدعومة إيرانيا، وأنها ميليشيا عصائب الحق وكتائب حزب الله. وتبين أشرطة فيديو عديدة مسيرة مؤيدي الحشد الشعبي، في ساحة التحرير، وهم يحملون السلاح وشعارات تأييد المرجعية مقابل المتظاهرين السلميين حاملي العلم. بينما يتهم الناطقون باسم النظام وكل ساسته، الطرف الثالث، او المندسين. ويقول المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي أنهم «مضمرو سوء يريدون تخريب العلاقة بين العراق وإيران». أما المتحدثون باسم البيت الابيض الأمريكي فالمسؤول الأول هو إيران. أما وكالة انباء «ارنا» الإيرانية الرسمية فقد ذهبت أبعد من ذلك متهمة المتظاهرين أنفسهم بكونهم قد تم تحريكهم من قبل أمريكا والسعودية وإسرائيل «بهدف تخريب علاقات إيران مع العراق وسوريا».
في غياب وجود أي تحقيق عراقي مستقل حول الجرائم، وحملات التشويه والتضليل والتلفيق المستمرة، وعدم تحميل المسؤولية لأي جهة كانت، تبقى كل الاحتمالات حول هوية مرتكبي الجرائم، واردة. فأبواب العراق مشرعة أمام كل من هب ودب، وأرضه مسرحا لصراع يكاد لا يهدأ يوما بين إيران وأمريكا منذ احتلاله عام 2003 وتأسيس «العملية السياسية». فإيران ممثلة بالميليشيات المسلحة المحصنة من العقاب، وأمريكا بقواعدها العسكرية ومخابراتها وقدرتها على تنفيذ العمليات الخاصة بواسطة «الشركات الأمنية». كلا البلدين يدافعان عن مصالحهما وأمنهما، بعيدا عن أراضيها. كلا البلدين مستعدين وقادرين على تنفيذ «العمليات القذرة»، بأشكالها، على حساب حياة العراقيين، لإثارة الفتنة وديمومة ضعف البلد. فالعراق الضعيف، المستهلكة ثروته البشرية والنفطية، في نزاع مستمر، منخفض الدرجة، مفيد لكلا الطرفين. فمن الذي يريد عراقا قويا؟
يلعب ساسة النظام، نفسه، أدوارهم بمهارة عالية. فهم لايزالون يجتمعون سوية، يتبادلون الابتسامات، ولا ينسون أن يستنكروا «استخدام العنف» ضد المتظاهرين، بعد أن يتأكدوا من وجود الكاميرات لالتقاط صورهم. آملين بالبقاء، على الرغم من تآكل وجودهم المنخور بالفساد ودماء الشهداء، وهم يعولون على كسب الوقت وتخدير المنتفضين بالوعود المهدئة. متعامين عن أن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي ان ما يجري، مهما كانت مسميات وتوصيفات «الطرف الثالث» أو «المندسين»، والتي ترتب عليها استشهاد مئات الشباب وحتى الأطفال في مجازر وحشية ارتكبت خلال وجود هذا النظام، وفشله في حماية المواطنين هو مسؤولية النظام. وأن أفراده، في ظل نظام وطني مستقل، سيحاكمون، ان آجلا ام عاجلا، بتهم القتل العمد والجرائم ضد الإنسانية.ش