هناك، إذاً، أشياء كثيرة تتغير، ولكن قدرتنا على تمثل تبعاتها السياسية تظل محدودة نظراً للطابع السريع للتحولات الجارية؛ ويمكن القول إن الاتفاق النووي الأخير الذي أبرمته طهران مع القوى الكبرى من شأنه أن يسهم في رفع مستوى التوتر في المنطقة خلال الشهور القليلة المقبلة، قبل أن تتجه الأوضاع نحو التطبيع التدريجي نظراً لحتمية أن يصل الجميع إلى قناعة أن المواجهة المفتوحة ستكون مكلفة وذات نتائج كارثية بالنسبة إلى الجميع.
الحديث عن الدور المقبل لإيران يستمد أهميته ومشروعيته، من هشاشة الأوضاع وتفجرها في أكثر من مكان من خريطة الشرق الأوسط، فجبهات المواجهة مفتوحة على مستويات عدة بداية من «الحرب العالمية على الإرهاب»، مروراً بمأساة الحرب السورية والصراع في اليمن، فضلاً عن الأجواء المضطربة في كل من العراق ولبنان وليبيا التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، بعد سقوط نظام القدافي.
وعليه، فإن الشرق الأوسط يتجه بشهادة الكثير من المتخصصين نحو «سايكس بيكو» مكرر، بمواصفات جديدة تستند إلى أدوات تنفيذ محلية تتوسل النهج التكفيري كأفق عقدي من أجل تقويض أسس ودعائم الدول الوطنية في المنطقة.
ويذهب قسم من المحللين الغربيين إلى التأكيد في هذا السياق، على أن الحرص الكبير الذي أبدته الإدارة الأمريكية من أجل الوصول إلى إبرام الاتفاق النووي مع إيران يعود إلى رغبة البيت الأبيض في إعادة رسم خريطة توازنات جديدة في منطقة تعرف اضطرابات غير مسبوقة، ويقول أحدهم: إن هذا هو رهان أوباما، إنه يسعى إلى إعادة تشكيل التوازن في ميزان القوى ما بين المملكة السعودية وإيران.
وتعني مثل هذه التصريحات أن واشنطن لا تريد أن تكون الغلبة في المنطقة لقوة إقليمية على حساب قوة أخرى، كما تفصح عن وجود خلفية سياسية شريرة تهدف إلى توظيف الصراع المذهبي والتناقضات الطائفية بين السنة والشيعة من أجل المحافظة على مصالحها، ولا مندوحة من الاعتراف بأن واشنطن تسعى إلى إلهاء القوى الإقليمية في صراعات لا تنتهي تسمح لها بالمحافظة على مكاسبها ونفوذها في المنطقة، مع تركيز جهودها- في اللحظة نفسها- من أجل الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في جنوب شرق آسيا.
تريد واشنطن، إذاً، أن تفك ارتباطها العضوي بمنطقة الشرق الأوسط، بيد أن فك الارتباط لا يعني التخلي عن النفوذ وعن المصالح الحيوية، ولكن مثل هذا التوجه يتلاءم كثيراً مع خطط واشنطن الهادفة إلى دفع أطراف دولية وإقليمية من أجل ممارسة مهام «المناولة السياسية» لمصلحة البيت الأبيض، الأمر الذي يفسِّر إلى حد بعيد رغبتها في توظيف الإرهاب وتسييره مع الادعاء في اللحظة نفسها أنها تسعى إلى محاربته.
ولا يمكننا بالتالي أن نستغرب التصريحات المنسوبة لبعض القادة العسكريين الأمريكيين، التي يؤكدون من خلالها أن القضاء على التنظيم الإرهابي المسمى ب«داعش» يمكن أن يستغرق أكثر من 15 سنة، في الوقت الذي لم يستغرق احتلال العراق وتفكيك جيشه، الذي كان يقال إنه يحتل المرتبة الرابعة أو الخامسة عالمياً، أكثر من بضعة شهور.
ويؤكد العارفون بشؤون المنطقة أن واشنطن تريد أن تتعامل في الشرق الأوسط مع الجميع، مع «الأخيار» ومع «الأشرار»، مع الدول الوطنية الحليفة والمناوئة لها في اللحظة نفسها، ومع التنظيمات والجماعات المسلحة التي تمثل ما أضحى يسمى بالدولة الافتراضية التي تريد أن تكون بديلاً للدول الوطنية.
وتريد أيضا أن تعترف لكل طرف من الأطراف المتصارعة، بمجال تأثيره الحيوي الخاص، إنها تدعم الجميع ضد الجميع، وتصل هذه السياسة إلى دعم الموقف الاستراتيجي لقوى إقليمية بعينها لا تجد أدنى حرج في تعريض المنطقة لمخاطر كبرى من أجل خدمة حساباتها السياسية الظرفية.
يمكننا أن نزعم في هذه العجالة أن الشرق الأوسط يتجه نحو مستقبل مجهول، لأن أطرافاً عدة لم تعد تتورع عن توظيف عناصر الهوية الوطنية والدينية من أجل خدمة أهداف تكتيكية، لا تنسجم البتة مع الأهداف الاستراتيجية الكبرى البعيدة المدى لشعوب المنطقة؛ ونشهد منذ شهور عدة سباقاً محموماً ما بين القوى الإقليمية المختلفة من أجل استباق مرحلة بناء التوازنات الجديدة المترتبة عن خيارات الدول الكبرى في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي الإيراني.
من المؤكد أن دول الشرق الأوسط ستصل لا محالة إلى مرحلة الإنهاك الشامل وإلى مزيد من الصراع عبر جبهات المواجهة المتعددة، ولاسيما في سوريا واليمن، ويقول الخبراء السياسيون إن المنطقة وصلت الآن إلى مستوى غير مسبوق من التشظي والتجزئة إلى درجة أن كل فاعل إقليمي يسيِّر الأوضاع بحسب ما تمليه عليه مصالحه الضيقة، الأمر الذي يجعل كل طرف يشعر بالعجز عن الانفراد بتوجيه مسار الأحداث في المنطقة.
ليس أمامنا في الأخير إلا أن نستنتج عطفاً على ما سبق، أنه من حق شعوب المنطقة أن تحلم بغد، تتجاوز فيه دول المنطقة مرحلة الصراع القائم على توازن الرعب، إلى مرحلة التوازن السلمي والتقارب الاستراتيجي، الذي يحقن دماء الشعوب ويعيد توجيه الصراع الأصلي والمصيري نحو «إسرائيل»، التي تمثل الخنجر المسموم الذي وضعه الغرب في جسد المنطقة.
الحسين الزاوي
صحيفة الخليج