تثير التطوّرات السياسيّة في العراق الذي يعيش في الأشهر الأخيرة على وقع انتفاضة شارع محتج يتشبث بتغيير النظام وبتخليص البلد من سطوة النفوذ الإيراني العديد من الأسئلة بخصوص مصير السياسة الأميركية في هذا البلد، حيث كثر الحديث عن إمكانية أن تكفّر الولايات المتحدة عن ذنبها المتمثّل في تعبيد الطريق أمام طبقة سياسية إسلامية ترتهن لإملاءات إيران وحكمت البلاد منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003.
بغداد – رغم قساوة الهجمة الدموية الميليشيوية الشرسة على شباب الانتفاضة العراقية، لكنهم لا يتطلعون ولا ينتظرون من الولايات المتحدة أن تمدّ حبل الإنقاذ السريع إليهم وإلى بلدهم وذلك بسبب الرصيد السياسي والعسكري المؤلم الذي خلفته السياسات الأميركية ضد شعب العراق منذ التنفيذ البشع لأقسى حصار اقتصادي دام أربعة عشرعاما.
لقد ارتهنت القضية العراقية منذ ثلاثة عقود تقريبا بالحلول الدولية وبقرارات الإدارات الأميركية الذي توّجته بالاحتلال العسكري عام 2003 وما بعده من شراكة رخيصة مع النظام الإيراني الذي هيمن بصورة مطلقة على العراق عام 2011 بعد خروج القوات الأميركية بقرار من الرئيس السابق باراك أوباما.
إن النخب السياسية والثقافية العراقية كانت قد أشارت منذ سنوات إلى الخطأ الأميركي الجسيم المضاف للاحتلال وهو تسليم الحكم لمجموعة الإسلام السياسي الشيعي ومن ثم إلى إيران وليس إلى قوى ليبرالية عراقية مستقلة كانت في صفوف المعارضة ضد نظام صدام حسين أغمضت إدارة بوش العين عنها وأهملتها. وهذا هو واحد من الأسباب التي أدت إلى الوضع الكارثي في العراق.
الصورة السلبية للتعاطي الأميركي في الشأن العراقي لا تلغي حقائق جيوسياسية كثيرة تقول إن العراق مهم استراتيجيا للولايات المتحدة ولغيرها من أصحاب النفوذ الدولي، وهذا ما يشجع كثيرين من أوساط البحث المقربة من القرار السياسي الأميركي للتعبير عن محاولات يجدونها ضرورية للضغط باتجاه إجراء تعديلات في المنهج الأميركي تجاه العراق والمنطقة.
تعتقد هذه الأوساط أن الترابط بين الملفين الإيراني والعراقي أصبح أكثر حساسية من ذي قبل وأن خلفيات قرار تسليم الحكم في العراق للإسلاميين الشيعة كانت مقدمة لتسليم الحكم للإسلاميين ضمن حركة الربيع العربي في كل من مصر وتونس وليبيا ثم في اليمن، كانت من أجل أن تنهي دور الإسلام السياسي وأحزابه في الحياة العربية.
إن الخطأ الأميركي الجسيم المضاف للاحتلال بعد إسقاط نظام صدام حسين هو تسليم الحكم لمجموعات الإسلام السياسي الشيعية ومن ثم إلى حليفتها إيران وليس إلى قوى ليبرالية عراقية مستقلة
هذه العوامل تعطي تفسيرات سياسية قريبة من الواقع تشير إلى أن الأميركيين لديهم ترتيبات جدّية قد لا تكون صورتها الكاملة واضحة لمرحلة جديدة في التعاطي مع ساحات الشرق الأوسط المهمة وفي مقدمتها العراق.
كما أن ما يحصل حاليا من تدهور سياسي في هذا البلد قد يقود إلى فوضى لا تؤذي الشعب العراقي فحسب وإنما بارتدادات سلبية على الاستراتجية الأميركية في المنطقة أكثر مما تعيشه حاليا.
وقد استبقت هذه المؤشرات حملة واسعة من الأحزاب والميليشيات المحسوبة على إيران تبالغ وتنسج قصصا خيالية حول النشاطيْن السياسي والعسكري الأميركيين في العراق قبيل وخلال انتفاضة أكتوبر السلمية لكي تبرر بعض الهجمات العسكرية على المراكز والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في العراق ولكي تشوّه وطنية انتفاضة الشارع وهي في كل ذلك تعبّر عن القلق المتصاعد في النظام الإيراني من احتمالات وصول الانتفاضة إلى نتائج مهمة.
تجد مجموعة واسعة من الخبراء والباحثين الأميركيين ضرورة دخول الإدارة الأميركية في تحديات جديدة في العراق تدعم الحراك الشعبي العراقي.
ويقول الباحث في معهد واشنطن (مايكل نايتس) “لا بد من أن تحسم الحكومة الأميركية أمرها بسرعة حول هذه المسائل ثم أن تتصرف على هذا الأساس. وثمة طريق واضحة نسبيّا، ولو أنها قد تكون خطرة، للمضي قدما فلا بد من أن نصطف إلى جانب الجيل الجديد من العراقيين والشيعة الوسطيين داخل المؤسسة الدينية، ويجب أن ندعم التغيير المنظّم وغير العنيف الذي يبلغ ذروته في قانون انتخابي جديد وقانون جديد للأحزاب السياسية ومراقبة دولية فعّالة في الانتخابات القادمة”.
ويرى الباحث السياسي في واشنطن بلال وهاب أن “الأميركيين قد فقدوا منذ فترة طويلة اهتمامهم بالتجربة الديمقراطية في العراق التي بدأوها منذ أكثر من خمسة عشر عاما بتخليهم عن ‘أجندة الحرية’ التي كانت عنوان سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لصالح سياسة واقعية تركز على تهديدات على غرار تلك التي تشكلها إيران، وفي حين نأت واشنطن بنفسها إلى حدّ كبير عن السياسة الداخلية في بغداد، إلّا أن ممارسة الحريات العراقية تطرح فجأة تحديا استراتيجيا بليغا أمام النظام الإيراني”.
إن السياسة الأميركية الأكثر وضوحا على الأرض لا تحمل في المدى المنظور إجراءات فعالة داخل العراق تتجاوز الدعم السياسي والإعلامي للمنتفضين العراقيين سواء من خلال التصريحات الرسمية التي ذهبت إلى طموحات البحث عن قادة سياسيين عراقيين جدد يتولون أمور بلدهم، أو تكثيف الجهود الدبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة وتبنّي الدعوات لتصعيد تلك الجهود إلى مستويات أكثر قوة في التعبير عن التضامن مع المعتصمين في العراق، وإدانة القمع الدموي للميليشيات المسلحة الموالية لإيران والمدعومة من سلطة الأحزاب في بغداد.
ويستبعد المراقبون أن تسير السياسة الأميركية في دعم انتفاضة الشعب العراقي الحالية بشكل يتناسب مع حجم الدماء التي تراق في شوارع العراق، كما لا يستطيعون توقع موقف أميركي للتغيير يكون قويا ومؤثرا على غرار التزاماتهم لعقدين من الزمن قبل عام 2003 في تبني احتجاجات الفئات السياسية الشيعية والكردية حين قدمت الأجهزة الأميركية واجهات لمعارضة عراقية شكلية تبنتها بقوة.
وأصدرت واشنطن لدعم هذه الواجهة الأخيرة قانونا في الكونغرس عام 1998 اسمه “قانون تحرير العراق” في حين تم تداول مشروع قانون أميركي عام 2017 سمي “منع زعزعة أمن العراق واستقراره” انتقل من مجلس النواب الأميركي إلى الكونغرس ورحل إلى عام 2018 و2019 دون أن يشرّع وسط زوبعة من الهلع والخوف داخل الأحزاب العراقية والميليشيات المسلحة، ولم ير النور إلى حدّ اليوم.
إن وضع العراق الساخن واحتمالات ما سيحصل على المستويين السياسي والأمني يضع الأسئلة مجددا أمام المسؤوليات الأميركية لتصحيح أخطائها ضد شعب العراق والمساعدة في إخراج إيران من هذا البلد.
العرب