في أعقاب مثوله أمام القضاء الفرنسي بتهم مختلفة بينها الكسب غير المشروع واختلاس أموال الدولة السورية وبناء إمبراطورية عقارية في فرنسا قيمتها نحو 90 مليون يورو، أوصى ممثلو الإدعاء العام الفرنسي بالسجن أربع سنوات وغرامة 10 ملايين يورو على رفعت الأسد عم رئيس النظام السوري. ومنذ عام 1984، بعد خلافه مع شقيقه حافظ الأسد ومحاولته الانقلاب عليه، يقيم رفعت الأسد خارج سوريا متنقلاً بين إسبانيا وفرنسا وبريطانيا، مع زوجاته الأربع وأبنائه وبناته وحاشيته، ويدير إمبراطورية مالية تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
وقبل أن يفلح شقيقه في إقناعه بمغادرة سوريا إلى موسكو ثم جنيف، مزوداً بمبالغ مالية طائلة كما تشير روايات عديدة متقاطعة، كان رفعت الأسد يقود «سرايا الدفاع» التي تمتع عناصرها وضباطها بامتيازات فائقة من حيث الرواتب والسكن والتسليح والحصانة والصلاحيات الأمنية، وكانت أولى وأقوى الوحدات العسكرية المكلفة بحماية النظام مباشرة. كذلك كانت صلة قرابة عن طريق المصاهرة تجمعه مع الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي قبل تتويجه ملكاً، الأمر الذي مكّنه من حيازة حظوة خاصة لدى بعض الأنظمة العربية، وفي أوساط رجال المال والأعمال داخل سوريا وخارجها.
لكن موقعه الأمني تحديداً هو الذي أتاح له تأسيس علاقة وطيدة مع عدد من أجهزة الاستخبارات الغربية التي تعاونت معه درءاً للأخطار التي كانت تتهدد بلدانها من منظمات إرهابية على صلة مباشرة به. وفي هذا الإطار لم يكن غريباً أن يزوره في جنيف موفد خاص من الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران حاملاً دعوة للانتقال إلى فرنسا والإقامة فيها، ثم تقليده وسام الشرف برتبة فارس لاحقاً، وذلك على الرغم من قناعة الأجهزة الأمنية الفرنسية بأنه غير بعيد عن إصدار الأوامر باغتيال السفير الفرنسي في بيروت لوي دولامار خريف 1981.
لكن «سفاح تدمر» و«جزار حماة» هما في عداد أبرز الألقاب التي يستخدمها الكثيرون من أبناء الشعب السوري وغالبية منظمات حقوق الإنسان الدولية في وصف رفعت الأسد، إذْ إليه شخصياً وإلى «سرايا الدفاع» تُنسب مجزرة سجن تدمر الصحراوي أواخر حزيران (يونيو) 1980 حين جرى إعدام 600 سجين سياسي على سبيل الثأر لمحاولة اغتيال حافظ الأسد، كذلك يُتهم وسراياه بارتكاب العديد من الفظائع خلال حصار مدينة حماة في شباط (فبراير) 1982.
لهذا فإن ما يلفت الانتباه بصدد محاكمة رفعت الأسد أنه لا يمثل بتاتاً لأي مسؤولية تخص تلك الوقائع الرهيبة التي ترقى إلى جرائم حرب وفق كل المعايير المعتمدة، وبالتالي فإن القضاء الفرنسي إذ يصحح اليوم خطأ الساسة ومسؤولي الأجهزة الأمنية الفرنسيين الذين احتضنوا «مختلس الأموال» و«باني الإمبراطورية العقارية»، فإنه في الآن ذاته لا يرد مظالم الآلاف من ضحايا سجن تدمر ومدينة حماة. كذلك يلفت الانتباه أن القضاء الفرنسي لا يحاكم رفعت الأسد اليوم على سبيل مقاضاة مشروعة طالبت بها جهات حقوقية وإنسانية سورية تمثل أولئك الضحايا، بل استجابة لشكوى قدمتها منظمتا «شيربا» و«الشفافية الدولية» المعنيتان بمكافحة الفساد على نطاق عالمي.
كأن وصول القاضي الفرنسي إلى تهمة اختلاس الأموال خير من عدم وصوله نهائياً إلى الإدانة بارتكاب جرائم الحرب.
القدس العربي