يسود اعتقاد على نطاق واسع بأن هناك تساؤلات عدة في أوساط صنع القرار ورسم السياسات الخارجية للسعودية بعد هجمات سبتمبر الماضي على منشآت النفط في شركة “أرامكو”، والموقف الأمريكي وحجم الدعم السياسي والدفاعي الذي يبدو أنه دون مستوى توقعات المملكة قياسا لعمق علاقات التحالف بين البلدين، والتهديدات التي تواجهها.
وأثارت تلك الهجمات التي يعتقد أنها إيرانية مباشرة أو عن طريق قوات حليفة لها، الحشد الشعبي العراقي أو جماعة الحوثي، حالة من القلق تجاه الأخطار المحتملة التي يمكن أن يتعرض لها قطاع الطاقة السعودي من هجمات مماثلة مع ضعف واضح في أداء الدفاعات الجوية.
ويعتمد الاقتصاد السعودي بنسبة تتعدى 85 في المئة على إيرادات قطاع الطاقة، وفق تقارير دولية.
الولايات المتحدة والسعودية ودول أخرى، اتهمت إيران بالمسؤولية عن الهجمات على منشآت أرامكو وناقلات في الخليج العربي وبحر عمان.
ولم ترد الولايات المتحدة على تلك الهجمات، لكنها أرسلت المزيد من الجنود والمعدات إلى السعودية لتعزيز قدراتها الدفاعية في منع هجمات مماثلة في المستقبل.
كما أن الولايات المتحدة تجاهلت الرد على إسقاط الدفاعات الإيرانية طائرة استطلاع أمريكية قالت طهران إنها أسقطتها داخل الأجواء الإيرانية، بينما أكدت واشنطن أنها أسقطت في المياه الدولية قرب مضيق هرمز.
ومن المؤكد أن الدعم الدولي، الأمريكي خصوصا، للسعودية قد تراجع بشكل واضح نتيجة عوامل عدة تأتي الحرب في اليمن في مقدمتها، والانسحاب الإماراتي من هناك، بالإضافة إلى حادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي والأزمة “غير المبررة” دوليا مع قطر.
من جانب آخر، تسعى السعودية لتهدئة جميع الجبهات السياسية والعسكرية لإنفاذ رؤية ولي العهد محمد بن سلمان لتطوير وإعادة تشكيل اقتصاديات المملكة وفق رؤية 2030، وتبديد مخاوف الدول والشركات من الاستثمار بالمملكة بعد الهجمات على منشآت نفط أرامكو المطروحة للاكتتاب على نسبة من أصولها المملوكة للدولة السعودية.
وكشف الهجوم الإيراني “المفترض” على منشآت “أرامكو” مدى ضعف القدرات الدفاعية السعودية في حماية تلك المنشآت، ومدى تراجع قوة التحالف مع الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وترددها في القيام بأي عمل عسكري يستهدف إيران، مع اهتمام أمريكي واضح لإجراء محادثات مباشرة أو عبر وسطاء مع إيران.
وتتحدث وسائل إعلام غربية، بينها صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، نقلا عن مسؤولين أوروبيين وأمريكيين وخليجيين، عن رسائل متبادلة بين إيران والسعودية بشكل مباشر أو عبر وسطاء دوليين.
وتضطلع دول عدة مثل العراق وباكستان وسلطنة عمان، بجهود خفض التوترات بين إيران والسعودية، من أجل تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة.
ووفق تقرير الصحيفة، فإن ممثلين عن السعودية وإيران تبادلوا في الأشهر الأخيرة “رسائل مباشرة”، وأجروا اتصالات عبر سلطنة عمان وباكستان والكويت لتخفيف التوترات بين البلدين.
وتهدف مثل تلك الرسائل “المفترضة” إلى تخفيف حدة التوترات بين الرياض وطهران.
ونقلت الصحيفة الأمريكية عن مسؤول سعودي لم تسمّه قوله إن هجمات سبتمبر الماضي قد “غيَّرت قواعد اللعبة في العلاقات بين السعودية وإيران”.
وعلى صلة بتخفيف حدة التوترات مع إيران، تحدثت وسائل إعلام عربية وعالمية نقلا عن مسؤولين، إجراء السعوديين مفاوضات مباشرة بوساطة عمانية مع ممثلي جماعة الحوثي الحليفة لإيران.
وكانت جماعة الحوثي قد أعلنت استعدادها لإجراء محادثات مع السعودية في سبتمبر/ أيلول الماضي، ووقف إطلاق النار من جانب واحد، ردت عليه السعودية بوقف جزئي فسره خبراء بأنه اتجاه سعودي “جديد” للتخفيف من حدة التوترات مع طهران والحوثيين، وكذلك ما يتعلق بالأزمة مع قطر.
وفي مقابلة مع السفير الإيراني في باريس بهرام قاسمي، نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قال إن بلاده تسعى للسلام مع السعودية، دون إعطاء تفاصيل عن مباحثات تجريها حكومته مع الرياض.
وتحدث قاسمي عن تقديم إيران مبادرة “سلام متبادل” تتضمن التعاون المشترك في حماية الأمن الإقليمي لتأمين حركة الطاقة والتجارة الدولية في الخليج العربي، بعد سلسلة من الهجمات التي تعرضت لها ناقلات نفط سعودية وإماراتية ومن دول أخرى، خلال الفترة التي تلت تشديد العقوبات الأمريكية ضمن خطة “الضغط القصوى” التي رد عليها مسؤولون إيرانيون بأن يكون تصدير النفط مسموحا به للجميع أو لا أحد.
وتبادلت إيران والسعودية رغبتهما المشتركة في حل المشاكل الأمنية والسياسية في المنطقة، اليمن أولا وباقي منطقة الخليج العربي.
وتشكل التطورات الإقليمية والمخاطر الناجمة عن التوترات في المنطقة حافزا لكلا البلدين في تخفيف حدتها لتجنب المخاطر الأكيدة جراء أي مواجهات في المنطقة سواء بين الولايات المتحدة وإيران، أو بين هذه والسعودية أو أي دولة أخرى في المنطقة.
في مقابل ذلك، هناك أسس لعداء طويل يمتد لأربعة عقود من التنافس على النفوذ في المنطقة والدور الريادي الإقليمي.
ومنذ مطلع 2016، توترت العلاقات بين السعودية وإيران بشكل غير مسبوق بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، إثر إعدام رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر والاعتداءات التي أعقبتها على المنشآت الدبلوماسية السعودية في إيران، وموقف طهران من تلك الاعتداءات.
وتنظر إيران إلى أن العداء مع الولايات المتحدة نتيجة طبيعية لتحريض أو تشجيع سعودي، إلى جانب القلق في الأوساط الإيرانية من تقارير متعلقة باستهدافها من خلال التنسيق والتعاون الاستخباراتي بين السعودية والإمارات من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.
ومن المحتمل أن تتجه العلاقات بين السعودية وإيران في المدى القصير إلى “التهدئة” دون عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل 2016.
لكن على المدى المتوسط والبعيد، فإن احتمالات شن هجمات إيرانية مباشرة أو عبر حلفاء لها ستظل قائمة ما لم يصل البلدان إلى “تفاهمات” من شأنها إزالة مشاعر العداء “المتنامية” بينهما نتيجة تراكمات سنين طويلة من أدوار إيرانية في عدد من الدول العربية، تنظر إليها السعودية على أنها مجال نفوذها “التقليدي”.
ومع استمرار وصول التعزيزات الأمريكية إلى السعودية والمنطقة، فإن إيران ستنظر إليها على أنها تهديد يستهدفها بشكل مباشر “قد” يتطور إلى هجوم عسكري أمريكي سعودي مشترك.
وتتنافس إيران والسعودية من خلال حلفاء لهما في بلدان عدة يصل الصراع بينهما إلى ما يشبه حروب الوكالة “الخفية” في اليمن وسوريا والعراق التي حققت فيها طهران مكاسب مهمة على حساب السعودية والدول الحليفة لها.
ومنذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015، استثمرت إيران تخفيف توتراتها مع الولايات المتحدة في تعزيز نفوذها في دول المنطقة، سوريا والعراق ولبنان واليمن.
وهناك مخاوف سعودية من احتمالات عودة العلاقات الإيرانية الأمريكية بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، وتقليص وجود قواتها بالمنطقة إلى حدوده الدنيا.
ويؤكد الرئيس الأمريكي أن بلاده لا تحتاج إلى نفط الدول الخليجية، وأن على دول المنطقة والدول المستفيدة من النفط حماية الممرات البحرية دون الاعتماد الكامل عليها.
وليس من السهولة بمكان إعادة بناء الثقة بين السعودية وإيران، لكن الرياض تسعى على الأقل في المرحلة الراهنة إلى التوصل إلى اتفاق يضمن وقف الهجمات الإيرانية المباشرة أو عبر قوات حليفة لها على قطاع الطاقة، سواء البنية التحتية أو ناقلات النفط.
المتغيرات الإقليمية والتطورات الداخلية في السعودية وعوامل أخرى، ستدفع باتجاه إمكانية فتح حوار “جاد” مع إيران لتفادي أي مواجهات مفتوحة بالمنطقة، وهو ليس بالأمر السهل على السعودية التي تبنت سياسة اتسمت بالتنافس مع إيران والعداء لها في بعض الأحيان.
لكن السعودية تجد نفسها أمام خيارات “محدودة” لمواجهة النفوذ والتهديدات الإيرانية للبنية التحتية لمصادر الطاقة التي تقع ضمن مدى الصواريخ الباليستية والطائرات الإيرانية دون طيار.
ويمثل النفوذ الإيراني في دول المنطقة تحديا خطيرا للمصالح السعودية وطرق التجارة الدولية والأمن الإقليمي بشكل عام.
(الأناضول)