الاقتصاد التركي في ظل حكومة العدالة والتنمية: من الانهيار إلى الانتعاش

الاقتصاد التركي في ظل حكومة العدالة والتنمية: من الانهيار إلى الانتعاش

 الاتصاد التركي

حقق الاقتصاد التركي منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا في الثالث من تشرين الثاني عام 2002م، سلسلة من الإنجازات اللافتة التي لم تكن في حسبان المحللين الاقتصاديين حيث نجح في الخروج من عنق الزجاجة بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت به بداية الألفية الثانية.

   واسهمت هذه الإنجازات في أن تحتل تركيا المرتبة السادسة عشرة في ترتيب الاقتصاديات على المستوى العالمي، والسادسة على المستوى الأوروبي، اذ ضاقت الفجوة ولأول مرة بين معدلات التنمية التركية ومعدلات التنمية الأوروبية. كما  اصبحت الاقتصاد الأكبر إسلاميًّا.

 وتهدف هذه  الورقة للإجابة عن السؤال التالي: كيف حقق الاقتصاد التركي- وهو اقتصاد غير منتج للنفط- تلك الإنجازات خلال مدة قصيرة؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقسم البحث إلى عدة محاور:-

أولًا- الإصلاحات الاقتصادية عقب أزمة عام 2001م:

وصلت حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم، في بيئة داخلية تعاني أزمة اقتصادية حادة؛ نتيجة التزام رئيس الحكومة الأسبق الحكومة بولنت أجاويد (28 أيار1999- 18 تشرين الثاني2002) بالقرض الذي قدمه صندوق النقد الدولي لها في عام 2001م، مطالباً إياها بإجراء اصلاحات اقتصادية وفق رؤيته ورعايته. وكان من نتائجها :

 –  اختلال الأوضاع المالية للبنوك الخاصة والعامة.

– ارتفاع معدلات العجز، وحجم المــــــديونية الخارجية.

 – انخفاض احــــتياطي الدولة من الــــــــعملات الأجنبية.

–  عدم استطاعة القطاعات الاقتصادية في الدولة تحمل هذه المتغيرات مما نجم عنه تردي الأوضاع. كإغلاق مئات الآلاف من الشركات التجارية، وتقلص حجم الاستثمار إلى أقل من النصف. وبلغت البطالة حدودا مرعبة، مع تزايد أعداد العاطلين عن العمل، بفعل إغلاق الشركات والمصانع.

 وبخصوص هذه الأزمة قدّم الحزب رؤية نقدية عميقة تعتمد لغة الأرقام والمعلومات والحقائق للحالة الاقتصادية التركية قبل الانتخابات، وكوّن تصورا واضحا لأسباب الأزمة ومظاهرها وسبل الخروج منها، وحدّد رؤيته الاجتهادية بشكل واضح، وقدّمها للشعب، مقدما الوعود بتجاوز تلك الأزمة والخروج من الحالة السيئة، ولم تكن وعوده مبنية على شعارات ولغة خطابية أو فكرية، وإنما على برنامج اقتصادي صاغه خبراء في المجال الاقتصادي التركي وفي مقدمتهم الرجل الثاني في الحزب عبد الله غول.

 وقد وجد الحزب في الفساد السياسي سببا مباشرا للأزمة الاقتصادية التي تعانيها الدولة، مؤكدا انتهاج طريق الانفتاح الاقتصادي والخصخصة والتقارب مع أوروبا استراتيجية للخروج من الأزمة.

واوضح الآليات التي سيعتمدها بهذا الخصوص وهي:                                – استئصال مشكلات تركيا المستعصية بتعبئة الموارد الإنسانية والطبيعية المهملة، بما يجعلها دولة منتجة باستمرار وتنمو بالإنتاج .

 – تخفيض معدل البطالة، وردم الهوة في توزيع الدخل بما يزيد من مستوى الرفاه.

 – اتباع سياسات تهدف الى تحقيق الكفاءة والفاعلية في الإدارة العامة، واشراك المواطنين والمنظمات المدنية في عملية صنع القرار.

– تحقيق الشفافية الكاملة والمحاسبة في كل جانب من جوانب الحياة العامة.

واسهم الطرح الاقتصادي المتخصص والجريء من قبل الحزب في القبول الغربي والداخلي له.

  ولتجاوز الازمة غيرت الحكومة جملة من الافتراضات والمبادئ الأساسية، التي اعتمد عليها صندوق النقد الدولي في وصفته لعلاج الاقتصاد التركي، ومنها – على سبيل المثال- ترك العمل بنظام الصرف الثابت والانتقال للأخذ بنظام الصرف المرن، والاعتماد على استثمارات القطاع الخاص الذي اهتمت به الحكومة وعملت على حل الكثير من مشكلاته.

ولمكافحة البطالة في مجتمع أغلب مواطنيه هم في سن الشباب، وضعت حكومة العدالة والتنمية نصب عينيها هدفا يتمثل في أن تتجاوز معدلات الاستثمار نسبة 30% من الناتج القومي الإجمالي، وحتى يتم ذلك عملت على ما يلي:-

ـ   زيادة التقشف وخفض النفقات .

– جذب رؤوس الأموال الخارجية بشكل مباشر .

– تأمين الطاقة وضمانها بأسعار اقتصادية على المستوى البعيد .

– إصلاح التعليم المهني وحل مشكلة نقص الأيدي الماهرة،وتحسين بيئة العمل .

– إصلاح الجهاز الإداري للدولة وضمان الشفافية والمراقبة والمحاسبة.

– التحقيق مع  المسؤولين المتورطين في قضايا الفساد، خاصة الذين شغلوا مناصب رفيعة المستوى في الدولة كرؤساء الوزراء السابقين : كتانسو تشيللر ومسعود يلماظ.

ثانيا: الإنجازات الاقتصادية:

وقد كان لهذه الإصلاحات انعكاسات ايجابية على الاقتصاد التركي على المستوى الداخلي والخارجي في السنوات العشر الأخيرة ، تمثلت بالآتي:

على المستوى الداخلي:

– كان معدل دخل الفرد السنوي في عام 2002م، لا يتجاوز3.500 دولار، وأصبح وفقًا للإحصاءات التي نشرت في البرنامج الاقتصادي التركي لعام 2013م، 17468 ألف دولار أمريكي. ومن المتوقع أن يصل في نهاية هذا العام إلى 18092 ألف دولار أمريكي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدد سكان تركيا يتجاوز ال 70 مليونا.

– في عام 2002م، بلغت قيمة  الصادرات التركية 36 مليارا، واستمرت في الارتفاع حتى وصلت 140 مليارا في نهاية العام 2013م. وتتوقع تركيا أن تبلغ قيمة صادراتها 500 مليار دولار في العام 2023م عندما تحتفل بالذكرى المئوية لإنشاء الجمهورية التركية.

 – وصل احتياط البنك المركزي التركي من “العملة القيادية” 134مليار دولار أمريكي في نهاية العام 2013م..

– أزيلت ستة أصفار من الليرة التركية، كان الدولار في عام 2002م يساوي مليوناً ونصف المليون ليرة تركية، ليصبح يساوي2.6 ليرة تركية في عام 2014م.                                                                                        .

– اسهمت السياسات الاقتصادية لحكومة حزب العدالة والتنمية في الانخفاض التدريجي والمستمر لنسب التضخم في تركيا، حيث بلغت نسبته (70.8) بالمئة في نهاية عام 2002م. في حين بلغت نسبته حتى شهر أيلول من هذا العام(8.9) بالمئة. ومن المتوقع أن يغلق التضخم هذا العام على معدل سنوي قدره(9.2) بالمئة. وهو ما لم يحصل في تركيا منذ نصف قرن.                   – بلغت نسبة النمو في الاقتصاد التركي 6.1 في المائة بين السنوات 2002م-2008م، واستمر في نموه حتى وصل 8 في المئة نهاية عام 2011م، لكن هذا النمو تراجع إلى 3 في المئة خلال العام الحالي، نتيجة انكشاف تركيا الكبير على منطقة اليورو، التي استحوذت على معظم صادراته خاصة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وبالتالي كل تداعيات الأزمة الأوربية انعكست سلبًا على الاقتصاد التركي.

– ارتفعت أجور الموظفين والعاملين في القطاع العام التركي إلى 188 بالمئة في السنوات بين 2002م-2009م، أي وصلت الزيادة في الأجور إلى ضعفي التضخم. كما أقرت الحكومة التركية في العام 2012م، نظام زيادة الرواتب الجديد الذي يقوم على مبدأ (4+4) وتعني زيادة بنسبة 4 بالمئة في النصف الأول من العام يتبعه 4 بالمئة في النصف الثاني.

– ارتفع عدد الشركات الاجنبية المشاركة من 5400 شركة في العام 2002م، إلى37.373 ألف شركة أجنبية تعمل في تركيا حتى شباط من العام الحالي. وهو ما يشير الى أنها أصبحت أرضاً خصبة للاستثمار. ومنهم 22.370 ألف شركة في إسطنبول، فيما تضم العاصمة التركية أنقرة 2362 شركة، بينما تعمل 4116 شركة أجنبية في أنطاليا.

 بلغ عدد الشركات الألمانية في تركيا 5726 شركة، والبريطانية 2661 شركة. وبلغ حجم الاستثمار الأجنبي في تركيا، خلال العام الفائت نحو 12 مليار دولار أمريكي.

 ومن المفيد الإشارة هنا، الى أن تركيا اتخذت عدة خطوات بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية ومنها تحديث النظام الضريبي، وتشجيع الشركات الأجنبية على بدء مشروعات في المناطق الأقل نمواً، وستواصل تركيا جذبها خلال الأشهر المتبقية من العام الحالي، خاصة في قطاعات الطاقة، والتأمين البنكي، والخدمات المالية، وكذلك صناعة السيارات.

– ارتفاع  العائدات المالية جراء عمليات الخصخصة في الاقتصاد التركي في ظل حكومة العدالة والتنمية، حيث بلغت عائداتها 13.48 مليار دولار أمريكي.

– أخيراً، كانت ديون تركيا لصندوق النقد الدولي في عام 2002م، تصل إلى 23.5 مليار دولار، انخفض هذا الرقم إلى 6.8 مليار دولار في العام 2009، وتم سداده بشكل نهائي في نيسان عام 2013.

   ومما لاشك فيه ان سداد الديون لصندوق النقد الدولي يعد منجزًا اقتصاديًا لأي دولة، تدفعها ظروفها الاقتصادية إلى الاقتراض منه، وتتمكن خلال مدة زمنية قصيرة من تخفيض ديونها وسدادها بشكل نهائي، من صندوق يعد إحدى مؤسسات العولمة الاقتصادية حيث ترتكز مدخلاته على الاقتراض وإعادة جدولة الديون للدول، في حين تكرس مخرجاته على عولمة ظاهرتي الفقر والتخلف، وسياستي التقشف المالي والخصصة.

– على المستوى الخارجي :

مكن النهوض الاقتصادي التركي أنقرة من ممارستها لدور أكثر فاعلية فقد اهتمت بتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع بئيتها الاقليمية، وتنويعها، لأنه السبيل في تعزيز مكانتها، فالتعاون الاقتصادي من وجهة نظر رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان يعد الوسيلة الناجعة لمعالجة الخلافات وتحقيق التكامل الاقتصادي، وهو موجه للسياسة وليس العكس كما يرى.

وبشكل عام ، يمكن التمييز بين دورين اقتصاديين أساسيين لحكومة العدالة والتنمية، أولهما، دور تركيا كمركز اقتصادي إقليمي حيث أبرمت مجموعة من اتفاقيات التجارة الحرة مع سوريا – قبل الثورة-، وتونس والمغرب في عام 2004م، ومصر والسلطة الوطنية الفلسطينية في عام 2005م، كما وقعت على عدة اتفاقيات اقتصادية مع المملكة العربية السعودية التي تمـثل الشريك التجاري الأكثر أهمية لها، وإيران إذ تعتمد تركيا على غازها الطبيعي، فهي أكبر خامس شريك تجاري لها ( في حال التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة )، والبحرين، وسلطنة عمان، والبحرين، العراق إذ بلغ عدد الاتفاقيات المبرمة معه 48 اتفاقيه شملت مجالات واسعة كالطاقة والنقل والصحة والأمن، ووقعت مع سوريا- قبل الثورة- 40 اتفاقية منها، اتفاقية فتح الحدود المشتركة وإلغاء التأشيرة بينهما. ثانيهما، وقعت تركيا مع دول مجلس التعاون الخليجي في أيار 2005م، على اتفاقية إطارية لتعزيز العلاقات الاقتصادية.

أما فيما يتعلق بدور تركيا كمركز لخطوط نقل الطاقة، حيث يستند هذا الدور الى الموقع الجغرافي لها، والذي يجعلها احد أهم الممرات العالمية لعبور وتصدير الطاقة المختلفة ، ويعزز مكانتها الاستراتيجية رغم محدودية الإنتاج التركي من مصادر الطاقة، ومن أبرز خطوط الأنابيب النفطية والغازية التي تشترك فيها تركيا مع دول جوارها:

– خط كركوك- جيهان؛ والذي من خلاله ينقل النفط والغاز العراقيين إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وخط أنابيب غاز إيران- تركيا، الي ينقل بواسطته الغاز الإيراني عبر تركيا إلى سوريا وأوروبا، وتجدر الإشارة هنا، الى ان تركيا تواجه بسبب هذا الخط ضغوطا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى تعارضه مع السياسة الأمريكية في احتواء إيران وعزلها .

-خط أنابيب النفط باكو- تبليسي- جيهان، حيث وقعت تركيا وجورجيا وأذربيجان اتفاقا لبناء هذا الخط في تشرين الثاني 2001م، وبدئ العمل فيه عام 2006م، لينقل الطاقة من الشرق إلى الغرب .

– خط أنابيب غاز جنوب القوقاز، الذي يربط بين الحقول الساحلية للغاز في “شاه دينز” بأذربيجان إلى تركيا عبر جورجيا.

– أخيراً وقعت تركيا وروسيا في 28 كانون الأول عام 2011م، ــ على الرغم من تناقض موقفهما الدبلوماسي حيال الثورة السورية- على اتفاق يقضي بإنشاء خط أنبوب غاز” السيل الجنوبي” ينقل الغاز الروسي عبر المنطقة الاقتصادية البحرية التركية إلى أوروبا.

 وبفعل الاصلاح الاقتصادي حققت تركيا في نهاية عام 2013م ناتجا قوميا بلغ 887 مليار دولار أمريكي، كما أن القيادة التركية الحالية عازمة على أن تحتل دولتها في عام 2023م المرتبة العاشرة اقتصاديًا على المستوى العالمي، وأن تكون مدينة اسطنبول  ضمن أهم عشرة مراكز اقتصادية على ذات المستوى.

ومن المفيد الاشارة هنا، الى أن مدينة اسطنبول تحتل حالياً المرتبة 27 من ناحية المدن الأكثر تأثيرا اقتصاديا على مستوى العالمي. ومن الملفت أيضًا أن تركيا في ظل الاصلاح الاقتصادي تحولت من دولة كانت تقترض الأموال إلى دولة مانحة لها، اذ وصلت إلى مستوى أن تقدم قرضًا مالياً لصندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار!! ومن الملفت أيضا في هذه النتائج الاقتصادية، إنها تحققت في دولة غير منتجة للنفط، بل يشكل عليهاعبئاً كبيرا عليها ولاسيما مع الارتفاع الهائل لأسعاره، حيث يبلغ حجم وارداتها النفطية حوالي 20 مليار دولار سنوياً. وهو ما يوازي حجم عائداتها السنوية من السياحة .

ثالثًا- العوامل المحفزة في الإنجاز الاقتصادي التركي:

لم تك المنجزات الاقتصادية التي حققتها حكومة العدالة والتنمية بمعزل عن عوامل اخرى اسهمت في تحقيقها، ولعل أهمها:

– العامل الداخلي:

اسهم في هذا النجاح الاقتصادي نزاهة ومصداقية قيادة حزب العدالة والتنمية على المستوى الشخصي والالتفاف الجماهيري حوله، والمستوى العالي للنخبة القيادية فيه، فأردوغان كان رئيسا لبلدية اسطنبول واستطاع تحقيق إنجازات كبيرة، وأعطت تجربته العملية تلك مصداقية كبيرة له على مستوى النزاهة الشخصية وعلى مستوى الكفاءة السياسية والإدارية، وقد وُصف الحزب من قبل الوسط الإعلامي المحلي بأنه “الحزب الأبيض” نسبة إلى مصداقية ونزاهة قيادته وبشكل خاص أردوغان وعبد الله غول، وهي الصفة – أي النزاهة – التي كان الأتراك يرجونها في ظل حالة الفساد السياسي التي كانت مستشرية، والطريف في الأمر أنّ عددا من الدراسات الغربية كانت توقعت نهاية الطبقة السياسية التركية السابقة وظهور طبقة سياسية جديدة قبل الانتخابات، وفعلا تميز الحزب بأن النسبة الغالبة من أعضائه وقياداته لم تكن تشغل مناصب عامة أو قيادية من قبل، الأمر الذي يبدو وكأنّ السطح السياسي كله قد تغير، أو كأنّ هزة سياسية قد حصلت في الدولة.

-العامل الخارجي :

شكل ترشح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي حافزا كبيرا لحكومة العدالة والتنمية للقيام بالإصلاحات على المستويات كافة؛  اذ كان مطلوبا منها للانضمام الى الاتحاد تطبيق معياريين،  وهما:-

=  المعيار السياسي:ممثلا بالاتي:

– ارساء أسس الديمقراطية النيابية.

– بناء دولة القانون، وتفكيك قواعد الاستبداد.

– احترام حقوق الإنسان وإلغاء التشريعات المنافية لها.

– احترام حقوق الأقليات ومنحها حرية الممارسة الثقافية وحق التعبير عن هويتها داخل إطار الدولة.

المعيار الاقتصادي، وتمثل بما يلي:-

– وجود نظام اقتصادي فعال يعتمد على نظام السوق.

– إصلاح النظام المصرفي والمالي ليتكيف مع النظم المعمول بها في دول الاتحاد.

– إصلاح المؤسسات والمرافق العامة بما يتفق مع المقاييس الموجودة في الاتحاد.

– بناء أسواق محلية قادرة تتحمل تبعات الانفتاح على السوق الداخلية الأوروبية .

– مكافحة الفساد والرشوة في جهاز الدولة.

وقد جاء هذان المعياران وبشكل كبير منسجمين مع الأهداف الاستراتيجية الداخلية والخارجية التي تسعى حكومة العدالة والتنمية لتحقيقهما، فعلى المستوى الداخلي يسهمان في إبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية في تركيا، وجعلها تتجه نحو حكم مدني لا يكون لها دور فيها. أما الهدف الخارجي القديم فيتمثل في انضمامها للاتحاد الأوروبي.

تجدر الإشارة هنا الى أن الإنجازات الاقتصادية التي حققتها حكومة العدالة والتنمية هي أشبه بتلك الانجازات التي حققتها ألمانيا واليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فكلتا الدولتين وظفتا ظروف الحرب الباردة  بما يعود بالنفع على اقتصادهما، وكذلك الحال ينسحب أيضا على تركيا في توظيف عضوية الترشح للاتحاد الأوروبي في تحفيز اقتصادها.

 رابعًا- مكامن الضعف في الاقتصاد التركي:

على الرغم من القفزات الكبرى التي حققها الاقتصادي التركي إلا أنه يعاني بعض المخاطر:-

أولها: ان الثروة المتنامية في تركيا لم تتوزع بالتساوي وما تزال منطقة الأناضول في وسط الدولة والجنوب الشرقي، الذي تقطنه أغلبية كردية أفقر بكثير من غيرها  واهلها محرومون من الاستثمار ونسبة البطالة فيها مرتفعة بشكل ، ولم يترجم النمو الاقتصادي لفرص عمل مستدامة في هذه المناطق.

والتساؤل هنا هل هذه سياسة عامة متبعة من قبل حزب العدالة والتنمية في افقار المنطقة الكردية- وهذا ليس من مصلحته- أو لظروف تتعلق بوجود وسيطرة حزب العمال الكردستاني عليها الذي من مصلحته افشال كل المشاريع التنموية هناك كي لا تستقطب الاكراد باتجاه الدولة؟

ثانيهما: على الرغم من السياسة النقدية والضريبية المنضبطة، إلا أن هناك فجوة كبيرة بين مداخيل الدولة بالعملة الصعبة والعملة المحلية، ووجود خلل في الموازين الهيكلية الرئيسة قد يقوض ذلك توقعات ايجابية إلى حد كبير للاقتصاد الناشئ. كما أن بعض سياسات البنك المركزي قد تسبب مخاطر متواصلة، لذا بعض الخبراء الاقتصاديون يحذرون حزب العدالة والتنمية  الذين يتهمونه بالاستبداد من دفع المستثمرين للهروب بأموالهم. وعلى الرغم من وجاهة هاتين الملاحظتين، إلا انهما لا تقللان من قيمة منجزات الاقتصاد التركي.

خامسا -أثر مشهد التغيير العربي على الاقتصاد التركي:

ان السياسة الاقتصادية التركية مبنية على الاستقرار، ويرى الاقتصاديون الاتراك أن الاستقرار شرط اساسي في التوسع التجاري. فمن إحدى المسلمات، أن اقتصاد أي دولة يتأثر سلبا او ايجابا  بالأحداث المجاورة لها. ومع مشهد التغيير العربي، شهدت بعض الدول العربية التي انتفضت ضد حكامها حالة اللاستقرار، هذه الحالة التي قد تؤثر على اندفاعة الاقتصاد التركي الذي لم يمر على تعافيه مدة طويلة بعد، باعتبار أن الدول العربية هي التي تستحوذ على الجزء الأكبر من حجم الصادرات التركية وأن أي عدم استقرار في تلك الدول سوف يؤثر سلبا على هذه الصادرات وعلى اقتصاد الدولة ككل .

إذ بدأت التكاليف الاقتصادية للانتفاضات العربية تظهر في كشف الحساب الاقتصادي التركي، الطامح إلى أن يدخل قائمة أقوى عشر اقتصادات في العام بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية في29 تشرين الأول عام 2023م، إذ أشارت جمعية المصدّرين الأتراك إلى أنّ الصادرات التركيّة إلى الدول العربية التي شهدت انتفاضات قد تدنّت بشكل ملحوظ.

ولفت تقرير الجمعية الاقتصادية إلى أنّ الصادرات التركية إلى كلّ من تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن مجتمعة قد انخفضت، وعلى الرغم من أنّ هذا الانخفاض كان متوقعا في تركيا على اعتبار أنّ هذه الدول تمرّ في حالة من عدم الاستقرار الذي من المفترض أن يكون مؤقتاً، يراهن الأتراك على أنّ هذه الخسائر الاقتصادية التي مُنيوا بها على المدى القصير، ستنقلب أرباحاً على المدى الطويل بعد أن تشهد هذه الدول العربية حالة من الاستقرار .

وهو الأمر المستبعد على المدى القريب – في شكل صحيح على المسار الديموقراطي- لذا لا بد من تفعيل استراتيجية “البحث عن أسواق جديدة” وازدهار سياسة جعل التصدير بديلًا عن أية ” برامج أيديولوجية”، وذلك فيما أطلق عليه” السياسات التجارية” الجديدة لأنقرة.

الخلاصة:

يمكن القول ان الدرس المستفاد من الانجاز الاقتصادي في تركيا والذي تحقق في ظل حكومة العدالة والتنمية خلال عقد من الزمان، ليس ضرباً من ضروب الخيال، وليس رجماً بالغيب، فالإصلاح الاقتصادي ليس بحاجة الى توفر الموارد الاقتصادية فقط، وان كان توفرها ضروريا، لكن وجود نخبة حاكمة، ناصيتها، فضيلة إرادة التغيير، والحكم الرشيد لا يقل أهمية عنها. فالتجارب الدولية تؤكد ذلك فعلى سبيل المثال وليس الحصر اليابان وسنغافورة من الدول المتقدمة اقتصادياً لكنهما من الدول عديمة الموارد. أما الاقتصاد التركي فقد أظهر أن الاعتماد على العلم والعمل أي المعرفة والتصنيع قادر على تحقيق الانجازات.

 د.معمر فيصل خولي