الحكومة التركية الائتلافية وأحزاب السلطة التاريخية والمعاصرة

الحكومة التركية الائتلافية وأحزاب السلطة التاريخية والمعاصرة

dört-lider-kolaj-promo

عندما توشك محاولات تشكيل الحكومات الائتلافية على التوقف أو الجمود، وقبل أن تصل إلى حافة التشرذم والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، تقف الأحزاب السياسية الكبرى لتحمل مسؤولياتها التاريخية، ومعالجة حالة عدم الاستقرار ليس لإثبات نجاحها فقط، وإنما لإثبات عدم فشلها أمام الشعب أولاً وأخيراً، فعدم قدرة الأحزاب السياسية التركية على تشكيل حكومة ائتلافية ضمن النسب الانتخابية التي أرادها الشعب التركي نفسه تعني أن هذه الأحزاب عاجزة أن تجسد التنوع السياسي والفكري والثقافي والقومي والعرقي والاثني والطائفي الذي يتمتع به المجتمع التركي، أو ما تمثله خريطة الفسيفساء التركية بكل تنوعاتها وجمالياتها التاريخية والتراثية، في الأصالة والحداثية والمعاصرة، أي أن عجز الأحزاب السياسية الفائزة بالانتخابات البرلمانية أن تجسد ذلك في حكومة ائتلافية وفق الدستور البرلماني يعني أن هذه الأحزاب السياسية لا تمثل حقيقة التنوع الاجتماعي والحضاري في تركيا، أو أنها لا تملك العقلية الإيجابية التي تحسن إدارة التنوع التركي التاريخي والحاضر.
ولذلك فإن الأحزاب الكبرى لا بد أن تلعب دور الإخوة الكبار في الأسرة التي فقدت الأب بحسب النظام السياسي البرلماني، وبالنظر إلى التاريخ التركي الحديث والمعاصر، وكذا بالنظر إلى ساحة الأحزاب السياسية التركية الحالية، وضمن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي لا يوجد فيها إلا أربعة أحزاب سياسية هي حزب العدالة والتنمية الحائز على 258 نائبا، وحزب الشعب الجمهوري الحائز على 132 نائبا، وحزب الحركة القومية الحائز على 80 نائبا، وحزب الشعوب الديمقراطي الحائز على 80 نائبا، لا يوجد فيها أقوى من الحزبين الأوليين في ترتيب عدد النواب لهما في البرلمان التركي لتشكيل الحكومة الائتلافية، ولكن نجاح الحكومة الائتلافية ليس مناطًا بهذا السبب فقط، أي ليس لأنهما في المرتبة الأولى والثانية فقط في عدد النواب في البرلمان التركي، وإنما لأنهما الحزبان اللذان حكما تركيا بقوة من الناحية العملية، أي لأنهما حزبا السلطة والحكم في التاريخ التركي الحديث والمعاصر، وهما وحدهما الحزبان اللذان لا يزالان لديهما القدرة على حكم تركيا في المستقبل بنجاح ما بقي النظام السياسي البرلماني على حاله.
لقد حكم حزب الشعب الجمهوري تركيا منفرداً لأكثر من ربع قرن من عام 1923 ولغاية 1950م، وبعد إقرار التعددية الحزبية السياسية وإجراء الانتخابات البرلمانية عام 1950 خرج من الانفراد في السلطة، وشارك بعدها في حكومات ائتلافية عديدة، وبحكم قوته الايديولوجية والسياسية والاقتصادية والشعبية بقي موجوداً في الساحة السياسية التركية، ولم ينته مثل العديد من الأحزاب السياسية التي حكمت تركيا ولكنها لم تستطع البقاء في الشارع التركي ولا في حكوماته اللاحقة، ومنها أحزاب رؤساء الوزراء السابقين من أمثال؛ عدنان مندريس، وسليمان ديمريل، وتورغت أوزال، وتانسو تشيلر وغيرهم من الذين لم تعد أحزابهم السياسية موجودة أو لديها حضور سياسي في الشارع.
لذلك كانت لحظة التحدي المعاصرة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة 7/6/2015، وبالرغم من التصريحات التي صدرت من رؤساء الأحزاب الفائزة بعد نتائج الانتخابات، كان لا بد أن تتوجه الأنظار إلى أكبر حزبين سياسيين لهما الخبرة الطويلة في السلطة والحكم، وهما حزب الشعب الجمهوري الأطول عمرا بين الأحزاب السياسية التركية على الإطـــــلاق، وحزب العدالة والتنمـــية الأكثر انتماءً للتاريخ والتراث والحضارة والإنجاز والنهضة والتقدم في التاريخ التركي المعاصر، فهما الأكثر حظاً لتشكيل حكومة ائـــتلافية، تحمــل مسؤولية إنقاذ تركيا في اللحظـــات العصيبة؛ فحـــزب الشـــعب الجمهــــوري هو حزب الأخ الأكبر عمرا وخبرة وتجربة، وحزب العــــدالة والتنمية هو حزب الأخ الأكبر ثقـــة شعبية وانتماءً حضـــارياً ونجاحاً اقتصاديا وسياسياً، فكان لا بد أن يكونا الأكثر والأكبر فرصة في تشكـــيل الحكـــومة الائتلافـــية، وهمـــا الحزبان اللذان التقيا تاريخيا في أكثر من محطـــة سياسية لتشكيل حكومات ائتــلافية، ولو بأشخاص آخرين وعناوين أخرى في الحكومة الائتلافية الأولى التي شاركت فيها الحركة الإسلامية لأول مرة عام 1973، في حكومة بولانت أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري ونجم الدين اربكان زعيم حزب السلامة الوطني في ذلك الوقت، وما أتى بعدها وإن واجهت كثيرا من الصعاب والانقلاب.
ولكن كان ذلك مؤشرٌا على أن الحزبين هما الأكثر حظاً لتشكيل الحكومة الائتلافية، وهو ما تشير إليه التصريحات الأخيرة لرئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو، فقد صرح يوم الخميس 16/7/2015 «أنّ حزبه توصّل إلى اتفاق مبدئي مع حزب الشعب الجمهوري لتشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة، وأنّ الجولة الأولى للمفاوضات التي أجراها مع قادة الأحزاب السياسية المشاركة في البرلمان التركي، كانت مثمرة وبناءة».
هذا التصريح هو الأكثر انسجاماً مع تاريخ تركيا الحديث والمعاصر، لأن الحزبين الآخرين وهما حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي، لا يملكان الحظوظ السياسية نفسها، كان الأول منهما وهو حزب الحركة القومية بزعامة دولة باهشلي قليل التجربة في السلطة والحكم، فلم يصل إلى السلطة السياسية إلا لعدة أشهر بالرغم من تاريخه الطويل في العمل السياسي، وكما قال رئيسه دولة باهشلي: «إنه يفضــل أن يكون حزب المعارضة الأم»، فقـــد كان هذا التصريح منذ أيام دليلاً على أنه سيكون حزب المعارضة الأقـــوى والأكبر، وهذا لا يتحقق إلا والحكومة الائتلافية المقــــبلة مشــــكلة من حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، وبالتالي فهو سيكون زعيم المعارضة على خصمه السياسي الرئيسي حزب الشعوب الديمقراطي، وهذا مؤشر على ان فرصة نجاح المعارضة ستكون ضعــــيفة جداً، بل ستكون معارضة مفككة، فحزب الحركة القومـــية سيبقى يضع نفسه في الجهة المعاكسة لحزب الشعوب الديمقراطي، ولن يتفقا ولن يتوافقا على معارضة موحـــدة في المستقبل، والحزب الثاني حزب الشعوب الديمقـــراطي بزعامة صلاح الدين ديميرطاش فهو عديم التجربة في السلطة والحكم.
تصريحات داود أوغلو التي رجحت تشكيل الحكومة الائتلافية المبدئية مع حزب الشعب الجمهوري لم تقطع الطريق مع الحزبين الآخرين، ولكن قد لا يكون من الصواب أو من الممكن تشكيل الحكومة الائتلافية مع الحزبين الآخرين، وقد يكون تصريح داود أوغلو الذي لم يغلق الباب على الحزبين الآخرين، ووصف الاتفاق مع الشعب الجمهوري بأنه مبدئي، هو من باب المناورة السياسية، لعدم منح حزب الشعب الجمهوري قوة زائدة في وضع شروطه على حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة. فالحديث عن اتفاق مبدئي يعني ان التفاوض هو حول شروط المشاركة في الحكومة الائتلافية أو توزيع الحقائب الوزارية أو في خطة عمل الحكومة المقبلة وصلتها مع السياسات السابقة لحزب العدالة والتنمية الذي انفرد في السلطة لمدة ثلاثة عشر عاماً، وبالأخص في رسم السياسة الخارجية، التي كان لحزب الشعب الجمهوري الكثير من الاعتراض عليها وهو في المعارضة.
ومع ذلك يمكن القول أن هذا التحالف بين حزب العدالة والتنمية ومع حزب الشعب الجمهوري هو الأكثر حظاً في تشكيل الحكومة الائتلافية، وفشــــله سيعـــني حتمــــاً الذهاب إلى انتخابات مبكرة، لأن فرص نجاحه هي أقوى بين الأحزاب السياسية البرلمانـــية الحالية، وهذا ينسجم مع التصريحات الأولية لرؤساء الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات في الساعات الأولى لظهور النتائج الانتخابية، فرئيس حزب الحركة القومية دولت باهتشلي صرّح في اللحظة الأولى أنه لن يشارك في حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية ويفضل البقاء في المعارضة، وقد حاول أن يتراجع عن تصريحه السابق ووضع شروطا للمشاركة في الحكومة الائتلافية من باب المناورة السياسية، ولكنه عاد فرجح رغبته في البقاء في المعارضة الأم.
وكذلك كانت تصريحات رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديميرطاش حيث قال: «إنّ نواب حزب الشعوب الديمقراطي لن يشاركوا في أي تحالف مع حزب العدالة والتنمية»، وهذا الموقف من صلاح الدين ديميرطاش لم يتغير لأنه يعلم أن فرصته في دخول حكومة ائتلافية بعد الفوز الأول له في دخول البرلمان على أساس حزبي تواجه بالصعوبات السياسية الكبيرة، ولكنها ليست مستحيلة كما هي عادة السياسة، ولعل من أكبر أسباب عدم مشاركة حزب الشعوب الديمقراطي في الحكومة الائتلافية المقبلة هــــو مشروع المصالحة الداخلية، التي تتطلب من حزب الشعوب الديمقراطي التنديد بكل الأعمال الإرهابية التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، وبالأخص على الحدود التركية السورية، حيث يقوم حزب العمال الكردستاني باستغلال الاضطرابات الحاصلة هناك في إثارة المشاكل للأمن التركي، ربما لظنه أنها تصلح ورقة ضغط على الحكومة التركية في المفاوضات المقبلة في عملية السلام الداخلي!.
هذه نتائج الجولة الأولى لمباحثات الأحزاب السياسية في تشكيل الحكومة الائتلافية، والتي يقوم بها رئيس حزب العدالة والتنمية داود أوغلو المكلف بتشكيل الحكومة التركية من قبل رئيس الجمهورية أردوغان منذ تاريخ 9/7/2015، ولكنها قد لا تكون مخالفة لهذه النتائج المبدئية، فقد صرح داود أوغلو قائلاً: «عقب الانتهاء من عطلة العيد سيقوم ممثل حزب العدالة والتنمية عمر جيليك وممثل حزب الشعب الجمهوري خلوق قوج بمتابعة المفاوضات الجارية بين الحزبين»، أي ان المفاوضات بعد العيد ستكون أيضاً بين الحزبين الأكثر عملاً في السياسة تاريخياً، والأكثر خبرة في تشكيل الحكومات وصناعة السياسيات، والأكثر تفاعلاً مع الأوساط السياسية الدولية، وليس الأكثر شعبية فقط.

محمد زاهد جول

صحيفة القدس العربي