يحوم فوق سماء لبنان شبحٌ يقضّ مضاجع الأوليغارشيا اللبنانية، ويُرجّف أوصالها. وثمّة فرصة تاريخية اليوم لإعادة تقويم كونفدرالية الطوائف وإصلاح حال النظام اللبناني، وإنهاء العهر السياسي والاجتماعي والثقافي الذي دام طويلًا، وتحطيم السَفَه الاستهلاكي الذي تطاول زمنه، في مرحلته الأخيرة وحدها، إلى أكثر من أربعين عامًا. لقد انتهى، على الأرجح، الاقتصاد القائم على تبييض الأموال، وعلى المال السياسي والأمني المتدفق من الخارج، وعلى نهب الثروات العامة، وعلى الاستثمارات العقارية المدمّرة للبيئة وللتحضر معًا، ولا بأس بعد ذلك في قليلٍ من السياحة والزراعة والصناعة. ماتت الزراعة وصادراتها، لأن لا أحد يرغب في شراء المنتوجات اللبنانية المسقيّة بمياه المجارير. وكفّ السياح العرب عن المجيء إلى لبنان لأن لا أحد منهم، إلا القليل جدًا، يريد أن يأتي إلى هذا البلد ذي الهواء الملوّث والمسرطن. وما عادت الجامعات اللبنانية مقصدًا للطلاب العرب؛ فهم يدرسون اليوم في أفضل جامعات أميركا وبريطانيا. ثم إن بعض الجامعات اللبنانية بات مشهورًا في تزوير الشهادات وإعطائها لمن يرغب. وكفّت المستشفيات اللبنانية عن كونها مستشفى العرب، فالفيروسات فيها جعلتها تحتاج، هي نفسها، إلى الشفاء.
فشلت الحريرية الاقتصادية التي دشنها الراحل رفيق الحريري، وانتهت إلى ديون هائلة ينوء الاقتصاد اللبناني بحملها. وكانت الحريرية قد انتهت عمليًا في العام 1996، بعدما تبيّن، مع عملية “عناقيد الغضب” الإسرائيلية، ومع فشل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، أن السلام مع إسرائيل غير ممكن. بيد أن الحريرية، كنهج سياسي، استمرّت بقوة الواقع، وتحوّلت إلى جماعة سياسية ومالية ومذهبية، وها هي تلفظ أنفاسها اليوم رؤيةً ومشروعا ونهجا، لكنها ستبقى تكوينا مذهبيا. ولبنان المقبل الذي تحوّل، في الأربعين سنة الماضية، من دولة متوسّلة إلى دولة متسوّلة، لن يكون مختلفًا جذريًا عن لبنان التقليدي، ولن يشكل انقطاعًا تامًا عن لبنان القديم، بل سيكون لبنان قديمًا مع خضوعٍ لمقادير من إصلاحات جبرية فرضتها تطورات الأحوال، والتي لم تصبح ممكنةً في سياق وعي الكارثة، بل جرّاء القهر والإرغام. ومهما يكن أمر هذا الاحتمال المرجّح، فإن حقبة الاستهلاك السفيه لدى الدولة والمواطن انتهت، فالاستدانة بفوائد عالية لسداد أقساط الديون وفوائدها، ثم الاستدانة مجدّدًا لسداد الأقساط المتراكمة وخدمة الدين، ما عادت ممكنة. وهذه الحال انتهت، ولن يكون لبنان، عشر سنوات مقبلة على الأقل، ما كان عليه في زمن الزيف الإنفاقي، وما عاد في وسع الفرد اللبناني أن يبقى على غرار دولته وزعمائه، وأن يستمرّ في “البهورة والفشخرة”؛ سيستهلك أقلّ مما ينتج، كدولته التي ستنفق أقلّ من إيرادها. وفي هذه الحال، سيعلن اللصوص الكبار، من عيار زعماء الطوائف وقادة
“الاستدانة بفوائد عالية لسداد أقساط الديون وفوائدها، ثم الاستدانة مجدّدًا لسداد الأقساط المتراكمة وخدمة الدين، ما عادت ممكنة”الأحزاب والسياسيين المحترفين وتابعيهم من رجال الدين، ومن الصحافيين ومروّجي الكذب، حالة حداد ونحيب.
انتهت “العنفصة” اللبنانية التي دأبت على إهانة العرب، لا سيما أهل الخليج، بإطلاق صفة “العربان” عليهم، في وقتٍ كانوا يأكلون من معجنهم ويعملون في منشآتهم. واليوم، ها هنّ عاملات المنازل الأجنبيات اللواتي اكتشفن المستور في بيوت لبنانية كثيرة، يزممن شفاههن قرفًا مما يشاهدنه في هذه الأيام، ويغادرن لبنان بلا أسف. والمرض الاستهلاكي اللبناني أصاب، منذ زمن، شرائح واسعةً جدًا من الشعب، فترى الواحد يقبض ألف دولار في الشهر وينفق ألفي دولار، وما إن يبشّره زعيمه باستحصاله على وظيفة متواضعة، حتى يطرق، في اليوم التالي، باب المصرف ليستدين قرضًا مديدًا يمكّنه من شراء سيارة شيروكي، ثم ينعطف ليشتري علبة سيجار فاخرة؛ وهذا الذي ينتشي بقيادة سيارته الفاخرة لا يتورّع عن تعبئة خزان سيارته بأقل من ثلاثة دولارات: المهم المظهر.. ومثل هذا الشخص كثيرون؛ فالواحد من هؤلاء يستدين ألف دولار من صاحبه، وقبيل موعد السداد يستدين ألف دولار من صديقٍ ثانٍ ليدفعها إلى الأول.. مثل دولته التي يتدخّل الحاكم فيها في عمل القضاء، والتاجر يتباهى بالجشع، والصانع لا يخاف من عاقبة الغش، ورجل الدين لا يستطيب إلا الكراهية والنفاق والتعصب، ورجل السياسة لا يتقن إلا حرفة النصب والنهب، ولا يجيد إلا المخادعة؛ دولة فيها السارقُ ماشٍ، والقاضي راشٍ، والحاكم لاهٍ، والوزير ساهٍ، والزعيم تاجر، ووريثه فاجر، والحق مكتوم وباقي الحال معلوم.
الفجور الاستهلاكي الذي غمر المجتمعات العربية منذ سبعينيات القرن المنصرم، أي بعد فورة أسعار النفط التي أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، أدّى إلى ظهور سلوكٍ مطابق، وأخلاقياتٍ متلائمةٍ مع ذلك التحوّل. ولبنان بلد فيه عدد كبير من الأرزقية والحرابقة (الحربوق أو الحربوء من الحرباء)، وأكثر الكلمات شيوعًا في أرجائه هي “البرطيل” و”البخشيش”
انتهت “العنفصة” اللبنانية التي دأبت على إهانة العرب، لا سيما أهل الخليج، بإطلاق صفة “العربان” عليهمالموروثتان من العهد العثماني. والآن، بعد أن كُشف ذلك كله، ونُزعت الأستار، وفُضح المخبوء، وفُكّت المغاليق، فأي لبنانٍ تتطلع إليه النخب الجديدة؟ وما هي الصيغة الممكنة للنظام السياسي اللبناني المقبل؟ ومع أن الأجوبة كثيرة جدًا، إلا أنها ما برحت ذهنيةً، أي إجابات مؤرخين أو سياسيين أو حالمين.
كان لبنان منذ تأسيسه في 1920 مشكلة؛ مشكلة بين مَن رفض ذلك التأسيس وأبى الانفصال عن سورية ومَن خاف من توسيع حدوده لأنه أفقد المسيحيين الغلبة العددية. وحتى بعد استقلاله في 1943 عصفت به المشكلات التي لم تتوقع: تسع سنوات بعد الاستقلال، أي في 1952، اندلعت حركة احتجاجات أطاحت الرئيس بشارة الخوري وعهده الذي تميز بفساد كبير. وفي 1958، اندلعت حركة مسلحة ضد حكم الرئيس كميل شمعون المنخرط في سياسة حلف بغداد، وفي الفساد أيضًا. ثم مرّت ثلاث سنوات إضافية لينقضّ الحزب السوري القومي الاجتماعي على حكم الرئيس فؤاد شهاب بانقلاب عسكري فاشل. ولم تكد تمضي أربع سنوات حتى كانت الطبقة السياسية الطفيلية والفاسدة تنقضّ على بنك إنترا في 1966، وتدمّره كمن يطلق النار على رجليه. وفي 1969، تنفجر الأوضاع في لبنان على قاعدة الموقف من العمل الفدائي، وست سنوات بعدها تندلع الحرب الأهلية في 1975، والتي لم تتوقف إلا باتفاق الطائف في 1989. وما انفكّ لبنان، حتى بعد توقف الحرب الأهلية، على هذا المنوال.
هذه هي وقائع ثلث قرن من تاريخ لبنان بعد الاستقلال عن فرنسا. وكان لبنان، في أثناء هذه الحقبة، يتدهور من سيئ إلى أسوأ، من المارونية السياسية التي حفرت قبرها بيدها حين فجّرت الحرب الأهلية في 1975 إلى السنّية السياسية بعد اتفاق الطائف بزعامة رفيق الحريري، فإلى الشيعية السياسية التي أخذت تتبلور، بالتدريج، منذ 1985. وفي أثناء تلك الحقبة المتغيرة، لم تكن قضايا الديمقراطية أو العلمانية لتعني أي شيء للمارونية السياسية، كان يعنيها الإبقاء على “الدولة”، كي تحكمها بأرجحيّةٍ حاسمة، ثم تمنح الآخرين ما بقي من حصص. والسُنّية السياسية، ومعها الشيعية السياسية، على تنافرهما الشديد، لا تهمهما الديمقراطية أو العَلمانية، بل الحفاظ على امتيازاتهما التي كسباها في اتفاق الطائف. والمارونية السياسية لم تكن مقصورةً على الموارنة، بل كانت تحالفًا طائفيًا ضم طيفًا من الموارنة والسُنّة والشيعة والدروز، أما مفاتيح السلطة فكانت كلها تقريبًا في أيدي الموارنة. والسُنّية السياسية على منوالها؛ فقد سارت في ركاب رفيق الحريري جماعاتٍ وأحزابا من جميع الطوائف، طمعًا في الثروات التي لاحت بقوة في فترة إعادة إعمار لبنان التي قادها الحريري بنفسه. وعلى الغرار نفسه، ها هي قوى ومجموعات سياسية غير شيعية تعتاش اليوم على الموائد السياسية والنقدية للشيعية السياسية المترنحة. وفي هذا الميدان، يعتقد كثيرون أن الطائفية في لبنان مشكلةٌ يمكن حلّها، أو علّة من الممكن علاجها. والحقيقة أنها نظام وليست علةً أو مرضًا، وأي تغيير في النظام الكونفدرالي – الطائفي يعني تغيير النظام اللبناني برمته، وهذا الأمر يحتاج حربًا أهلية، والويل من هذا الخيار.
هل التغيير ممكن؟ ثمّة مَن يتحدّث عن “الدولة المدنية” بديلا من “الدولة الطائفية”. وعبارة
“المارونية السياسية لم تكن مقصورةً على الموارنة، بل كانت تحالفًا طائفيًا ضم طيفًا من الموارنة والسُنّة والشيعة والدروز””الدولة المدنية” باتت جارية على الألسن من دون تبصّر أو إمعان نظر، وهي عبارة احتيالية أو تملّصية لتجنب الكلام عن “الدولة العَلمانية”. وهذا المصطلح نحته مفكرون إسلاميون منذ سنوات، بعدما ظلوا قرابة الثمانين سنة يرفضون الديمقراطية، لأنها تعني حكم الشعب نفسه من خلال الدستور، وهو أمرٌ مخالف للإسلام الذي يفرض، بحسب رأيهم، إقامة حكم الله من خلال الشريعة، لا حكم الشعب من خلال الدستور. والانقضاض السلفي على الديمقراطية كان أقل جلبةً من الانقضاض على العَلمانية التي أشاعوا أنها “تعادل الإلحاد”، وأنها “مروقٌ من الدين”. ومثل تلك اللغة كانت تكشف ضحالة معرفية وهلعًا متزايدًا أمام أفكار الحداثة والتنوير.
مهما يكن، لا قيمة لمصطلح “الدولة المدنية”، فجميع الدول اليوم تقريبًا مدنية بما في ذلك المستبدة. والفاروق في ذلك تمييز الدول التي تُحكم بالقوانين المدنية من التي تحكم بالقوانين العسكرية. لبنان دولة مدنية مثل الأردن والجزائر وسورية والمغرب؛ فهذه الدول، على سبيل المثال، وعلى الرغم من طبيعة النظام الحاكم في كل منها (ملكي دستوري أم ملكي مقيد أم رئاسي أم برلماني)، كلها مدنية، لأن الناس تُساس بالقوانين المدنية في جميع شؤونها، ولها دستور مدني، بينما الدول العسكرية هي التي يُعلّق فيها الدستور، وتُلغى المؤسسات الدستورية كالحكومة ومجلس النواب والمحاكم المدنية العادية، ويتولّى الحاكم العسكري الفصل في قضايا الناس بموجب أنظمة الطوارئ والقوانين العسكرية والمحاكم الاستثنائية.
إما دولة ديمقراطية عَلمانية عصرية في لبنان، أو نعود إلى دولة الطوائف القديمة مع تعديلاتٍ فرضتها الانتفاضة الاحتجاجية الجديدة. والتعديلات التي تلوح، على المستوى الاقتصادي، إكراهية، وهي خضوع لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهذا هو الراجح. وبهذا المعنى، سيكون لبنان قد تنقل، خلال نحو نصف القرن، من حكم العائلات (المقاطعات) الموروث من العهد العثماني (لم يكن لبنان كيانًا سياسيًا وجغرافيًا قائمًا)، إلى حكم الطوائف في عهد “الاستقلال” الموروث عن الانتداب الفرنسي، إلى حكم السوق والاقتصاد النيوليبرالي في عصر العولمة. ولبنان المقبل لن يكون انقطاعًا راديكاليًا عن لبنان القديم، حتى لو خضع لمقادير من إصلاحاتٍ فرضتها تطوّرات الأحوال. والكارثة هي ما ينتظرنا إذا لم يتمكّن الخبراء والمفكرون من ابتداع حلول مبتكرة للخروج من خرافة “الطراز اللبناني الفريد” وحكاية “العبقرية اللبنانية” التي تستطيع الإفلات من الشرنقة دائمًا. لنتذكّر أن اللبناني كان يعمل، حتى القرن التاسع عشر، في حرفة شيل الحرير في جبل لبنان، والتي تقتضي خنق ديدان القز في موعد معلوم قبل أن تتحوّل فراشاتٍ طائرة تقطّع خيوط الشرنقة، فهل يتمكّن اللبنانيون من تقطيع خيوط الشرنقة الجديدة، والتحرّر من نظامهم القديم الثقيل، أم يختنقون بما فعلت أيديهم، وتتطاير احتجاجاتهم هباء، ويتحوّل الجميع متسوّلين في دولة تتسوّل المساعدات الخارجية بعدما كانت دائمًا دولة تتوسّل المساعدات الخارجية؟
العربي الجديد