العراق: إصرار الشارع على إسقاط مرشحي السلطة

العراق: إصرار الشارع على إسقاط مرشحي السلطة

دخلت الأحزاب السياسية العراقية في مرحلة المتاهة، بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به في لي ذراع الشارع. كان الرهان قائما على القتل والاختطاف والترويع، لثني المنتفضين السلميين من دس أنوفهم في الخيار السياسي، والذهاب بعيدا في التصدي للطغمة الفاسدة.
كانت الأحزاب تتوقع دخولهم في حالة نشوة الانتصار بإسقاط رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، ثم العودة إلى البيوت وإفساح المجال للاعبين السياسيين، كي يعيدوا ترتيب قواعد اللعبة من جديد، من خلال اختيار دمية ثانية بلباس آخر، للظهور أمام الرأي العام بأنهم ديمقراطيون حتى النخاع، ووطنيون حتى العظم باستجابتهم للشارع، لكن قواعد اللعبة لم تعد بعد اليوم كما كانت في السنوات الست عشرة الماضية. إننا اليوم أمام وضع سياسي مختلف تماما، مما بات معروفا في المشهد العراقي منذ عام 2003، فالهوية الوطنية بُعثت من جديد، جسدتها ساحات التظاهر، وسقط اليقين الزائف الذي كان الساسة يعتصمون به، من أننا متعددو الانتماءات ولسنا شعبا واحدا.
كل هذه كسرت حواجز الخوف وطورت فكرة التصدي، وأعطت دفعة فعل ثوري للخروج من النفق المظلم الذي عاشه العراقيون. هذا النفق الذي عششت فيه التوأمة بين الطائفية والفساد، والتوأمة مع الحساسيات الطائفية والإثنية، حتى باتت الطائفية الحصن الحصين للفاسدين، تجير لهم الصفقات والمشاريع، في حين أصبحت السلطة مجرد أداة تدير من خلالها عصابة اللصوص فروع الفساد بينهم بالعدل الطائفي والقسطاس المذهبي. اليوم بات للعراقيين حضور فاعل وصوت مجلجل ومطالبات بوطن، وانتقل مركز القرار في المعادلة السياسية الحالية إليهم وباتوا هم صانعيه بأيديهم، بعد أن غيروا كثيرا من قواعد اللعبة التي كتبتها واشنطن وطهران. إننا اليوم أمام وضع جديد تماما في المشهد، حتى الفواعل الدوليين والإقليميين باتوا يدركون أن الوضع الراهن حصلت فيه تبدلات لم يكونوا يتوقعونها، وهم اليوم ولأول مرة باتوا يلهثون للحاق بالحدث الذي تصنعه ساحات التظاهرات، بعد أن كانوا هم صناع القرار، فحتى وقت قريب كانت الرئاسات الثلاث في العراق، رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الوزراء، كانت كلها تأتي بحزمة واحدة بما يسمى الصفقة. وكانت هذه الصفقة تتم بالتفاهمات الأمريكية – الايرانية. فالدولة العراقية مجرد هياكل رسمية فارغة، في حين أن سلطة القرار كانت موجودة في أمكنة أخرى. اليوم الجميع باتوا مجبرين على أن يأخذوا بالاعتبار أن صاحب القرار هو في الشارع، يمثله المواطن البسيط والشاب العاطل عن العمل، والمرأة التي وجدت نفسها في عمق الأزمة الحياتية التي صنعها الفساد، والمثقف المنحاز إلى الوطن، ورجل الدين المتمسك بالقيم السماوية، وزعيم القبيلة الذي لا يبيع النخوة في سوق المزايدات السياسة، لذلك رأينا كيف أنه خلال بضعة أيام من الانتفاضة المباركة السلمية في الشارع، سقطت حكومة مؤلفة من كل الأحزاب والقوى السياسية الطائفية، والمدعومين بحاضنين دوليين وإقليميين. في حين تصارع السلطة الحالية موجة التغيير هذه، وتحاول بشتى الوسائل إيجاد بديل عن رئيس الوزراء، لكن في كل مرة تقول الساحات إن هذا لا يمثلنا، وذاك لا تنطبق عليه مواصفات المعادلة الجديدة، فيتوالى سقوط المرشحين خلال ساعات.

ما بين الترشيح وسقوط المرشحين يجد الجميع أنفسهم أمام مرحلة جديدة، يكتبها المهمشون والعاطلون عن العمل، مرحلة استعادة الدولة العراقية ودورها

وما بين الترشيح وسقوط المرشحين يجد الجميع أنفسهم أمام مرحلة جديدة، يكتبها المهمشون والعاطلون عن العمل، مرحلة استعادة الدولة العراقية ودورها، وعصر نهوض وطني غاب عن أفق الكثيرين، في حين يقف اللصوص والطائفيون وعصابات القتل والجريمة فاغري الأفواه، غير قادرين على استيعاب مستجدات الوضع، فينتقل هذا الارتباك إلى الأحزاب والكتل والميليشيات، ويتراشقون الاتهامات ويخوّنون أحدهم الاخر، وصولا إلى الدعوة لمحاكمة الرئاسة التي يتهمونها بأنها انحازت إلى ما يقولون عنه إنه مخطط أمريكي لتغيير الوضع السياسي القائم. فيصبح المشهد كوميديا بامتياز حين يتهم أحدهم الآخر بأنه ينفذ المخطط الامريكي، بينما الجميع جاء بهم الامريكيون، والجميع باتوا عملاء مزدوجين للأمريكيين والإيرانيين أيضا. وليس هنالك أحد أحسن من الاخر في هذا المستنقع الرديء.
في الأدبيات السياسية يقال إن الفُقر هو أب الثورات، وإن الثورات قد تحدث عندما يعجز الحاكم عن فرض سيطرته على المحكومين، وأن المحكومين يصبحون غير معترفين بسلطة الحاكم. ولو نظرنا إلى السلطة الموجودة في المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003 وحتى اليوم، نجدها عبارة عن كتل تدعي تمثيل مذاهب وطوائف وإثنيات ومناطق. هؤلاء جميعهم ينظرون إلى الدولة على أنها ملكهم ويوزعون السلطة بينهم، وكأنها غنيمة لهم. فلابد أن يولّد هذا المشهد عدم اعتراف شعبي بسلطة المافوق، كما يولّد امتلاك الدولة وتوزيع السلطات على الحواشي والاقرباء، فقرا مدقعا، لا يمكن إلا أن ينتج عنه انسداد سياسي ثم ثورة، لذلك وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود، بعد أن وصل الفساد على كل المستويات إلى مدياته القصوى. قابله وصول فائض الغضب الشعبي إلى مدياته القصوى أيضا، بعد أن غاب أفق المستقبل تماما بوجه العراقيين خلال الست عشرة سنة الماضية، حتى ما عاد حتى الخبراء المختصون قادرين على استشراف مستقبل العراق لمدة سنة أو أكثر بقليل، على الرغم من كل الإمكانيات المادية والبشرية التي يحوزها، لذلك عندما يرتفع الشعار الرئيسي في كل ساحات التظاهر (أريد وطن)، معنى ذلك أن كل العراقيين باتوا في أمس الحاجة إلى واقع جديد، يحققون به إنسانيتهم، ومستقبلا آمنا يضمن حياة حرة كريمة لهم وللأجيال القادمة، في ظل دولة تضع الجميع على خط شروع واحد يتساوون فيها بالحقوق والواجبات.
إن نزول الجماهير إلى الشارع ليس نزهة، بل هو إدراك واع وعميق لصعوبة، بل واستحالة التغيير عبر القنوات الرسمية، فإذا كانت هذه القنوات كلها أُطرا شكلية فاقدة للحياة، وغير قادرة على أداء الواجبات المرسومة لها، كما هي الحالة في العراق، فإن الشارع يصبح هو المسرح الوحيد الذي تُظهر عليه الجماهير بطولتها وقدرتها على التغيير. ولقد أثبت شباب الانتفاضة أن باستطاعتهم رمي العلب السياسية الفاسدة وراء ظهورهم، وامتلاك زمام المبادرة. كما برهنوا على أنهم قادرون على ضرب أسس الواقع السياسي المضمون دوليا وإقليميا، بتصديهم الذي لم يشهد العراق منذ تأسيسه وحتى اليوم حركة احتجاجية شعبية بهذا العمق.
إن ساحات الاحتجاجات والاعتصامات خاصة في المحافظات الجنوبية، باتت اليوم ورشا شعبية تُنتج فيها مستلزمات المواطنة الفاعلة. يكفي النظر إلى الشعارات المرفوعة فيها، والأهازيج التي تصدح في أرجائها، والدماء التي تسيل على جنباتها ومقترباتها، كي يتيقّن كل من مازال لديه شك بأن الهوية الوطنية باقية، وأن يعيد التفكير بسياساته كل من رسم خططه في الاستثمار في دماء ومستقبل العراقيين لتحقيق أمنه القومي.

القدس العربي