في الثالث والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عبرت طائرة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس فوق العاصمة العراقية بغداد، بعد ساعات قضاها في محافظة الأنبار المجاورة، داخل قاعدة عين الأسد، أضخم القواعد العسكرية العراقية المستضيفة للجيش الأميركي، متجهاً إلى أربيل، حيث التقى القيادات الكردية هناك قبل أن يعود إلى واشنطن، متجاوزاً بغداد واللقاء بالمسؤولين فيها. الزيارة التي كرر خلالها رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبد المهدي، ما قاله حرفياً في زيارة سابقة مماثلة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في السادس والعشرين من نوفمبر العام الماضي، بأنه “كان على علم بها”، في معرض تبريره سبب عدم نزول ترامب ومن ثم نائبه في بغداد، لم تكن سوى نتيجة لجملة تحوّلات في مواقف أميركا من النظام السياسي في العراق، الذي أشرفت بنفسها على تأسيسه عام 2003 ودعمته مالياً وسياسياً.
وفيما يُعتبر عبد المهدي أول مسؤول عراقي رفيع منذ عام 2003 قوبلت زيارته للولايات المتحدة بتأجيل لأربع مرات، آخرها في سبتمبر/ أيلول الماضي، إذ جرت العادة على أن أي رئيس حكومة جديد في العراق تكون من أولى محطاته الخارجية واشنطن، يمكن خلال عام من حكومته إيراد مواقف ونقاط مهمة غير مسبوقة في العلاقات الأميركية-العراقية منذ الغزو الأميركي للبلاد، تؤكد دخول البلدين فعلياً مرحلة جديدة مختلفة تماماً عن الفترة السابقة التي أعقبت عام 2003، وحينها كانت الجهود الأميركية تركز على دعم النظام السياسي في العراق ومحاولة تجميله وتقديمه للعالم على أنه نتاج التغيير الأميركي في العراق، والأخذ به نحو الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، حتى وصل الحال إلى اعتبار بغداد محطة تتقرّب عبرها أنظمة في المنطقة من واشنطن، عبر إعادة فتح سفاراتها أو تقديم مساعدات لها، إذ كانت تشجع الدول على ذلك، وخصوصاً في فترة الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما.
منعطفات سياسية وأمنية
”
الولايات المتحدة قد لا تمنح العراق تمديداً آخر في الإعفاء من العقوبات الإيرانية
”
ووسط تسريبات أكدها مسؤول عراقي رفيع في بغداد لـ”العربي الجديد”، تفيد بأن الولايات المتحدة قد لا تمنح العراق تمديداً آخر في الإعفاء من العقوبات الإيرانية بما يتعلق باستيراد الغاز والكهرباء من طهران، والمقرر أن تنتهي مدته الشهر المقبل، فإن منعطفات سياسية وأمنية عديدة خلال عام كامل تُظهر عبر التوقف عندها مدى تأزم العلاقة بين بغداد وواشنطن، أو على الأقل تراجعها. كانت أولى شرارات هذا الانعطاف بعد خسارة واشنطن حراك تشكيل الحكومة العراقية بعد انتخابات منتصف 2018 لمصلحة طهران، إذ قاد المبعوث الأميركي بريت ماكغورك آنذاك حراكاً واسعاً في العراق مقابل حراك مماثل لزعيم “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني، لم يوفق فيه ماكغورك في تطبيق وجهة النظر الأميركية المتعلقة بالعراق، التي كانت مع منح رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي ولاية ثانية أو ترشيح شخصية أخرى غير مختلفة مع المصالح الأميركية. وسوّق الأميركيون آنذاك برنامجاً وشيكاً لمساعدة العراق في مرحلة ما بعد “داعش” على مراحل عدة، بينها إعادة الإعمار، وتحقيق المصالح الوطنية، وترسيخ الاستقرار في المدن المحررة.
وبعد أسابيع قليلة من أول قصف تتعرض له المصالح الأميركية في البصرة نهاية سبتمبر/ أيلول 2018، حين تعرضت القنصلية الأميركية لهجوم صاروخي وأصدرت واشنطن على إثرها قراراً بإغلاق القنصلية ونقل العاملين فيها إلى بغداد، قيّدت الولايات المتحدة فقرات مهمة في برنامج تسليح وتدريب القوات العراقية، خصوصاً ما يتعلق بالأسلحة المضادة للدروع، والصواريخ الموجّهة، بعد تقارير تحدثت عن انتقال قسم من تلك المساعدات من الجيش العراقي إلى مليشيات مرتبطة بإيران. ولم يشفع للحكومة إعلان قوانين تتعلق بـ”الحشد الشعبي” وتعتبره جزءاً من المنظومة الأمنية العراقية، في إعادة الدعم العسكري واللوجستي الأميركي السابق إلى عهده الأول. رافق ذلك تصريحات نارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، طالب فيها المسؤولين العراقيين بمواجهة تصرفات إيران، وأخرى اعتبر فيها أن احتلال العراق كان خطأً جسيماً، متحدثاً عن نفوذ إيران والإرهاب فيه، وهو ما أثار اعتراضات واسعة من الساسة العراقيين.
وأصدرت الولايات المتحدة سلسلة عقوبات على ثلاث دفعات خلال أقل من عام بحق مسؤولين وسياسيين عراقيين، بعضهم بارزون، فضلاً عن زعماء مليشيات، وهي عقوبات استنكرتها الحكومة العراقية واعتبرتها مؤثرة في العلاقات بين البلدين. وطاول أولها السياسي آراس حبيب، الذي يشغل مقعداً في البرلمان العراقي الحالي، ويرأس مجلس إدارة مصرف البلاد الإسلامي العراقي، الذي اتهمته واشنطن بأنه حلقة وصل بين إيران و”حزب الله” اللبناني. وآخر هذه العقوبات قائمة صدرت هذا الشهر تضمّنت أسماء زعماء مليشيات إضافة إلى رجل الأعمال والسياسي خميس الخنجر، بتهم تتعلق بقمع التظاهرات، بحسب ما ذكره إيجاز صحافي أصدرته وزارة الخزانة الأميركية في وقت سابق. أعقب ذلك صدور بيانات إدانة شديدة اللهجة من الخارجية الأميركية للسلطات العراقية، منددة بقمع التظاهرات والتضييق على الحريات وقطع الإنترنت، مؤكدة قلقها من الأوضاع في العراق وطريقة تعامل السلطات هناك مع المتظاهرين السلميين.
وخلال العام ذاته، أطلقت أميركا أذرعها الإعلامية، الناطقة باللغة العربية على وجه التحديد، في حملة بدت منظمة ضد الفساد والانتهاكات الحقوقية والتمييز على الأساس الطائفي وجرائم مليشيات عراقية، بدت أنها متزامنة مع تسريبات لوثائق مهمة أفرجت عنها واشنطن تتعلق بعلاقة مسؤولين عراقيين مع إيران وتسريبهم معلومات سيادية، وتعاملهم مع إيران على حساب العراق ومواطنيه، وهي وثائق بالمحصلة يندرج ما فيها ضمن الخيانة العظمى، إلا أن السلطات العراقية لم تحقق فيها ورفضت التحدث عنها أساساً.
”
تجاهل العراق عروض شركات نفط أميركية في حقول البصرة وتوجّه إلى عروض أخرى صينية وروسية
”
بالمجمل، فإن التصرفات العراقية التي يعتبرها مراقبون أخطاءً، أوصلت العلاقة مع الولايات المتحدة إلى منطقة تكاد توصف بالنديّة في بعض الأحيان، ومن أبرزها تلك المتعلقة بالجانب الاقتصادي منها، ولا سيما تجاهل العراق عروض شركات نفط أميركية في حقول البصرة وتوجّهه إلى عروض أخرى صينية وروسية، واللجوء إلى عرض شركة “سيمنز” لبناء محطات طاقة، على الرغم من عرض شركة “جنرال الكتريك” الأميركية، الأكثر إغراءً ومنفعة للعراق، مروراً بتوجه العراق إلى الصين وإبرام 8 اتفاقيات تتعلق بالبنى التحية والتجارة الحرة، وإلغاء بغداد رخص الطيران السابقة الممنوحة للطائرات المسيّرة التابعة لقوات التحالف، ومنها الأميركية، عقب سلسلة هجمات استهدفت معسكرات “الحشد الشعبي”، واتهمت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك تجاهل السلطات العراقية تحذيرات أميركية من الموافقة على طريق بري يربط بين طهران ودمشق مروراً بالعراق، ومماطلة الحكومة العراقية الأخيرة في قبول عرض سعودي بتصدير الكهرباء إلى العراق بنصف كلفة ما تشتريه بغداد من طهران، انتهاءً بإعادة إحياء الحكومة العراقية ما يعرف بالتحالف الرباعي ضد الإرهاب الذي يضم موسكو وطهران ونظام الأسد إضافة إلى بغداد، وعقد اجتماعات دورية في بغداد في أول ثلاثاء من كل شهر، وإعادة افتتاح منفذ القائم الحدودي، وصولاً إلى حملة إقالات وإحالة على التقاعد لضباط وقادة عراقيين معروفين بعلاقاتهم الجيدة مع التحالف الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، واستبدالهم بقيادات أخرى مقربة من “الحشد الشعبي” وإيران.
رافق ذلك استمرار تغاضي الحكومة العراقية عمّا لا يقل عن 30 هجوماً صاروخياً استهدف منشآت ومواقع لمصالح أميركية مختلفة في العراق خلال هذا العام، من بينها هجمات صاروخية استهدفت السفارة الأميركية بواقع 9 مرات هذا العام، وانتهت بالمجمل في باحة السفارة الخلفية أو قربها، وفي القصور الرئاسية في الموصل وفي البرجسية في البصرة، وفي التاجي والمطار شمال وغربي بغداد، وفي بلد بمحافظة صلاح الدين، وقاعدة عين الأسد غربي العراق، من دون أن تقدّم الحكومة العراقية تفسيرات لمواصلة تلك الهجمات، ومن دون القبض على منفذيها أو تعمل على منعها.
هجوم نوعي
الهجوم الأميركي مساء الأحد، هو الأول الذي يستهدف تنظيماً مسلحاً يمكن اعتباره غير “جهادي” منذ عام 2003 في العراق. وأتى الهجوم على كل محتويات المعسكر (دمر بالكامل) بما فيها معدات وأسلحة أميركية الصنع مخصصة بالأصل للجيش العراقي وانتقلت إلى أكثر الفصائل المسلحة طواعية بيد إيران في العراق خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تبلغ مساحته نحو 4 كيلومترات مربعة، في منطقة صحراوية تقع بين مركز قضاء القائم والحدود العراقية السورية، عند مثلث يدعى “المزرعة”، تسيطر عليه فصائل عراقية مسلحة مختلفة، أبرزها “النجباء” و”العصائب” و”الطفوف” و”الإمام علي” و”البدلاء” و”سيد الشهداء”، لكن الكلمة العليا فيها لـ”كتائب حزب الله” التي تتولى أيضاً مهام استخبارية على الحدود، بما فيها التنسيق مع قوات نظام الأسد، الموجودة مع مليشيا “فاطميون”، وهي خليط من جنسيات إيرانية وأفغانية وعراقية وترتبط مباشرةً بالحرس الثوري الإيراني، في الجانب المقابل من التنف السوري وقرى محاذية لبلدة البوكمال السورية، مع فصائل عراقية أخرى.
وقال مسؤول عراقي رفيع في بغداد لـ”العربي الجديد”، إن الهجوم “كان متوقعاً”، وجرى تداول مناطق عدة محتملة لمهاجمتها، أبرزها جرف الصخر، جنوب بغداد، والكرسي قرب بلدة تلعفر غرب الموصل، وطوزخورماتو شمال بغداد، والخالص في ديالى شرقي بغداد، على اعتبار أنها مراكز الفصائل الأقرب إلى إيران. ووصف الهجوم بأنه “أنهى المنطقة الرمادية التي ظلت العلاقات الأميركية العراقية داخلها منذ تسلم عادل عبد المهدي السلطة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي وانتقلت إلى مرحلة الندية أو على الأقل توقف التغاضي عن حقيقة هيمنة إيران على العراق”. وأوضح أن “العراق أمام مرحلة تصعيد جديدة، وهناك تسريبات تؤكد أنه لن يحصل على إعفاء أميركي جديد من العقوبات على إيران في ما يتعلق بالغاز والكهرباء، إذ إن تمديد التسعين يوماً الذي حصل عليه نهاية أكتوبر الماضي يقترب على الانتهاء بعد ثلاثة تمديدات سبقتها منحت للعراق”.
”
الدائرة المحيطة بترامب مقتنعة بأن الفصائل الأكثر قرباً من إيران تمكّنت من السيطرة على الحكومة العراقية
”
موظف عراقي رفيع المستوى في السفارة العراقية في واشنطن تحدث عبر الهاتف لـ”العربي الجديد”، عن الهجوم، مرجحاً أن “لا يكون الأخير”. وتابع طالباً عدم ذكر اسمه أن “هناك محوراً كبيراً داخل دائرة صنع القرار الأميركية، خصوصاً الدائرة المحيطة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقتنع بأن الفصائل الأكثر قرباً من إيران قادت أشبه ما يكون بانقلاب ناعم في العراق، مستغلة ضعف شخصية عادل عبد المهدي وانصياعه التام لإيران، وتمكّنت على مدى هذا العام من السيطرة على الحكومة ومفاصل الدولة المهمة وممارسة عمليات ترهيب وتضييق على الحريات العامة والخاصة”.
وأضاف أن “هناك قناعة بأن شخصيات مثل هادي العامري وأبو مهدي المهندس وفالح الفياض وقيس الخزعلي أكثر تأثيراً ونفوذاً في العراق من رئيس الوزراء”. وختم بالقول إن “أحد المسؤولين الأميركيين سأل عضواً في وفد عراقي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة: لماذا يمكن أن تنتقد وسائل الإعلام العراقية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وتخاف انتقاد أبو مهدي المهندس أو قيس الخزعلي؟ فلم يحصل على جواب”.
من جهته، قال المحلل السياسي العراقي، أحمد الحمداني، لـ”العربي الجديد”، إنّ “من المرجح أن تلجأ الولايات المتحدة إلى سياسة تصعيدية أكثر مع المليشيات العراقية المرتبطة بإيران. وفي المقابل، فإن الجانب العراقي، سياسياً، سيعيد فتح ملف إخراج القوات الأميركية الذي أغلق فجأةً قبل أشهر من الآن، من دون عرض المشروع على البرلمان”. واعتبر أنه من طريقة الرد العنيفة لواشنطن على الهجوم الذي استهدف مصالحها في قاعدة “كي وان” بكركوك يوم الجمعة الماضي، يتبيّن أنها جادة هذه المرة بالرد على أي هجوم بالكاتيوشا تتعرض له مستقبلاً، وسيكون على الفصائل المسلحة في العراق، ومن بعدها إيران، أن تقرر إذا ما كانت تريد وقف التصعيد وعدم الرد على الهجوم أو تحويل العراق إلى ساحة مواجهة لن يكون الخاسر منها سوى العراقيين، خصوصاً التظاهرات التي قد تقتل ويجري وأدها تحت دخان المواجهات إن تكررت مرة أخرى.
العربي الجديد