خلال الأيام الأخيرة التي سبقت مقتل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني وأبو مهدي المهندس نائب رئيس “هيئة الحشد الشعبي” في العراق، أشار المسؤولون الأمريكيون مراراً وتكراراً إلى أن العلاقة مع العراق قد وصلت إلى مفترق طرق، غير أن الأزمة الحالية كانت منتظرة منذ فترة طويلة. فقد استولت الميليشيات المدعومة من إيران، وأبرزها “كتائب حزب الله”، بشكل فعال على المجالات والمسؤوليات الرئيسية، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء، والمركز الحكومي/المنطقة الدبلوماسية، ومطار بغداد، ومختلف الطرق السريعة التي تربط إيران بسوريا، وإدارة المجال الجوي في البلاد. وفي غضون ذلك، سمحت الحكومة للميليشيات بقتل عشرات المحتجين العراقيين العام الماضي لمنعهم من الوصول إلى السفارة الإيرانية، غير أنها وقفت جانباً عندما هاجمت الميليشيات السفارة الأمريكية في 31 كانون الأول/ديسمبر.
ثلاثة خيارات أمريكية
إذا كانت سياسة الولايات المتحدة تجاه العراق عند مفترق طرق فعلاً، فما هي المسارات المحتملة التي قد تتبعها واشنطن؟
الاستمرارية. يتمثل أحد الخيارات في مواصلة النهج الحالي الذي يستلزم ترك المحتجين والقادة الدينيين والمعتدلين في العراق بمفردهم إلى حدّ كبير بينما يحاولون إعادة ديمقراطيتهم المنحرفة إلى مسارها الصحيح. وفي إطار هذا السيناريو، من شأن الولايات المتحدة أن تردّ فقط على الهجمات الخطيرة التي تستهدف مواطنين أو منشآت أمريكية، وتغض الطرف عن هجمات المضايقة غير القاتلة كما فعلت قبل الهجوم الصاروخي الذي نفذته ميليشيا [“كتائب حزب الله”] في 27 كانون الأول/ديسمبر وأودى بحياة مقاول أمريكي.
مزيد من التشدد المجدي. يُلمّح العديد من المسؤولين الأمريكيين حالياً إلى مسار ثانٍ قد ينطوي على عقوبات أقصى وردع العناصر المناهضة للولايات المتحدة في العراق. ويشمل ذلك فرض عقوبات على قائمة أوسع بكثير من السياسيين ورجال الميليشيات لدورهم في شنّ/تسهيل الهجمات على منشآت أمريكية أو ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد العراقيين. كما يمكن لواشنطن أن تحجب الإعفاءات من العقوبات على عمليات الشراء العراقية للغاز والكهرباء من إيران إذا عجزت بغداد عن حماية الأمريكيين والممتلكات الأمريكية. وفي المجال الحركي، قد تتخذ الولايات المتحدة تدابير “وقائية” في المستقبل لحماية قواعدها (كما أشار وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبير في 2 كانون الثاني/يناير)، وربما حتى ضد إيران مباشرة (كما حذر الرئيس ترامب في 31 كانون الأول/ديسمبر).
الانفصال. المسار المحتمل الثالث هو الانفصال، سواء بناءً على طلب العراق أو لأن واشنطن قررت تعليق التعاون الأمني والاقتصادي والدبلوماسي. غير أن لا أحد في الحكومة الأمريكية يدافع عن هذا المسار، لكنه قد يصبح ضرورياً إذا أمرت الحكومة العراقية الموظفين الأمريكيين بالخروج من خلال تشريع جديد أو إذا فشلت في حمايتهم من هجمات الميليشيات. وفي كلتا الحالتين، قد تكون العواقب وخيمة، سواء بشكل مؤقت أو على المدى الطويل. وقد يتوقف التعاون الأمني ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” عموماً، وسيغادر الأعضاء غير الأمريكيين ضمن “قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب/»عملية الحل المتأصل«” إلى جانب القوات الأمريكية – بما في ذلك معظم دول “مجموعة العشرين”، حلفاء بغداد الأكثر نفوذاً. وستتراجع أهمية العراق الدبلوماسية بشكل كبير، وقد يتوقف التعاون الاقتصادي أيضاً (على سبيل المثال، حماية الولايات المتحدة للأصول العراقية من الدعاوى القضائية؛ وقدرة العراقيين على إجراء معاملات بالدولار الأمريكي). وفي الوقت نفسه، قد تُطرح خيارات جديدة قوية في مجال السياسة العامة. ومن المرجح أن تزداد العقوبات مع وجود سبب أقل للحدّ منها. كما ستزداد الخيارات العسكرية ضد وكلاء إيران، ليس فقط أمام الولايات المتحدة إنما أمام إسرائيل أيضاً، مما يجعل العراق أكثر شبهاً بمنطقة إطلاق النار بحرية لمكافحة الإرهاب في سوريا. وسيصبح الأفراد الناشطون في السياسة العراقية الذين صنفتهم الولايات المتحدة ضمن قائمة الإرهاب أكثر عرضةً للاستهداف الحركي.
ونظراً إلى قائمة الهجمات وغيرها من الانتهاكات الطويلة التي استهدفت الوجود الأمريكي، خلُصت الحكومة الأمريكية على ما يبدو – وبشكل صائب – إلى أن الاستمرارية ليست خياراً وبالتالي قد يكون التشدد لفترة من الوقت مجدياً. وإذا كانت النتائج غير مرضية، فإن واشنطن تبدو مستعدة للتوجه نحو شكل من أشكال الانفصال. ووفقاً لذلك، فإن الأمر المطلوب اليوم هو إيجاد المزيج المناسب من الاستمرارية والتشدد المجدي.
أولويات الولايات المتحدة في العراق
على غرار غالبية التحالفات الدولية، يتمثل هدف واشنطن في المساعدة على إقامة عراق يتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية. وتتشارك مجموعة من الجهات الفاعلة العراقية البارزة وجهة النظر هذه، وهي: الزعيم الشيعي آية الله علي السيستاني، والرئيس برهم صالح، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ومعظم [عناصر] حركة الاحتجاجات التي تعم البلاد حالياً، والكثير من المعتدلين في البرلمان، والأحزاب السياسية، وقوات الأمن. ويمكن لواشنطن مساعدتهم على إعادة التركيز على وجهة النظر هذه من خلال اتخاذ الخطوات التالية:
تجاهل حملة الانسحاب. يجب على المسؤولين الأمريكيين ألّا يألوا جهداً إضافياً لمواجهة الجهود المستمرة للميليشيات لتقديم اقتراح برلماني بشأن طرد القوات الأمريكية. وإذا تم إقرار مثل هذا التشريع وتنفيذه، فليكن كذلك. فللعراق كل الحق في طرد القوات الأمريكية، والانفصال العسكري خيار قد تتقبله واشنطن. ولحسن الحظ، من غير المحتمل أن تجلي الحكومة القوات الأمريكية، كما ظهر من خلال المساعي الفاشلة الثلاثة للقيام بذلك في عام 2019.
ضمان أمن الأفراد الأمريكيين. يجب على مسؤولي إدارة ترامب الاستمرار في إرسال مؤشرات قوية على أن الهجمات الخطيرة على المنشآت والموظفين الأمريكيين – وليس بالضرورة الهجمات المميتة فقط – ستواجَه بانتقام مؤلم “في الزمان والطريقة والمكان الذي نختاره”، على حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي إسبير. وقد تم نقل هذه الرسالة بوضوح من خلال الأضرار الجسيمة الناتجة عن الضربات الجوية الأمريكية ضد قواعد “كتائب حزب الله” في 29 كانون الأول/ديسمبر، ولكن لا بدّ من التأكيد عليها باستمرار. وفي الوقت نفسه، لا يجب شنّ ضربات استباقية إلا في ظروف معينة – أي عندما تكون الهجمات على منشآت أمريكية وشيكة، وحين يمكن الكشف بسرعة عن الأدلة المصوّرة لهذه التهديدات وتقديمها كمبرر، وعندما تكون مخاطر الأضرار الجانبية ضئيلة.
معاقبة الجهات الفاعلة السيئة. بدءاً من الشهر الجاري، على الحكومة الأمريكية زيادة الموارد البشرية المتاحة لجهود وزارة الخزانة من أجل فرض عقوبات على مجموعة كبيرة من السياسيين وقادة الميليشيات العراقيين بموجب صلاحيات مكافحة الإرهاب و”قانون ماغنيتسكي الدولي”. وتعتبر أفضل طريقة لإطلاق هذه الحملة من خلال فرض عقوبات على فالح الفياض، مستشار الأمن الوطني منذ فترة طويلة المسؤول عن التحريض على سلسلة هجمات بحق المحتجين العراقيين والمواقع الأمريكية. أما بالنسبة للعقوبات الاقتصادية الواسعة النطاق أو غيرها من الإجراءات التي قد تُعتبر عقاباً جماعياً، فينبغي الحفاظ عليها كرادع ضد الهجمات الكبيرة. على الولايات المتحدة أيضاً أن تحث حلفاءها الأوروبيين مثل بريطانيا – التي لاقى جنودها حتفهم على يد “كتائب حزب الله” قبل عام 2011 – على تصنيف هذه الجماعة ككيان إرهابي.
إعادة إرساء الأمن في المنطقة الدولية والمطار. قبل أيام من الهجوم على السفارة الأمريكية، سلّمت الحكومة العراقية مسؤولية أمن المنطقة إلى ضابط الميليشيا أبو منتظر الحسيني (اسمه الحقيقي تحسين عبد مطر العبودي)، العضو في “منظمة بدر” المدعومة من إيران والذي يشغل منصب مستشار رئيس الوزراء لشؤون “قوات الحشد الشعبي”. ينبغي على واشنطن أن تدعو الدول التي لديها سفارات في بغداد إلى التعبير عن توقعاتها المنطقية بأن يتم استبداله بمسؤول محترف جدير بالثقة. وعلى نحو مماثل، إن المدير الحالي لـ”مطار بغداد الدولي” علي تقي، وهو مسؤول استخباراتي في “منظمة بدر”، أوكل مؤخراً خدمات المعاينة الميدانية للطائرات إلى شركة وهمية تابعة لـ “كتائب حزب الله”.
إعادة فرض القيادة والتحكم. نتيجة الضغوط التي مارستها الميليشيات، تمّ طرد العديد من الضباط المحترفين من المراكز القيادية في الجيش العراقي بمن فيهم قائد قوات “جهاز مكافحة الإرهاب” عبد الوهاب الساعدي وقائد “عمليات الأنبار” محمود الفلاحي والمسؤول في “قيادة عمليات بغداد” جليل الربيعي. وإذا استمرت جهود بناء القدرات، على الولايات المتحدة التعاون مع الشركاء الرئيسيين في “قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب/»عملية الحل المتأصل«” – أستراليا وبريطانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا – لمراجعة التعاون الأمني، وإعادة القادة المطرودين إلى أدوارهم المناسبة، والضغط من أجل تنحية القادة السيئين.
إعادة الشرعية إلى الحكومة. ما لم يحظَ العراق بحكومة دائمة برئاسة رئيس وزراء جديد ومجلس وزراء جديد، ستستمر الدولة الظل الميليشياوية في إدارة البلاد. وفي الواقع، من المحتمل أن يكون الجمود الدستوري هو الوضع النهائي المفضل للميليشيات المدعومة من إيران إذ من شأنه أن يبقيها في موقع الحكم الفعلي في البلاد. وكان تمرير قانون انتخابي جديد في 24 كانون الأول/ديسمبر قد منح العراقيين أداة قوية لإحياء نظامهم السياسي، بما أنه أصبح بإمكان المحتجين الآن اللجوء إليه من أجل تحقيق مطالبهم عبر خيار ديمقراطي. ومن أجل تعزيز هذا الجهد وتسهيل إجراء انتخابات مبكرة، على واشنطن مواصلة العمل مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأفراد لدعم تعيين “مفوضية عليا مستقلة للانتخابات” في العراق. وأخيراً، تتمثل الطريقة الأفضل للتعبير عن الدعم الأمريكي للإصلاح في الجهود التي يتم الترويج لها بشكل جيد لتعزيز الحكم الرشيد، وتقديم الخدمات الحكومية، واتخاذ إجراءات لمكافحة الفساد، وتحقيق نمو في القطاع الخاص.
معهد واشنطن