تعد عملية تصفية أهم وأقوى رجالات إيران العسكريين والأمنيين من أكثر الضربات الأميركية إيلاما للنظام الإيراني على الرغم من أنها تفتح الباب على مصراعيه لتنامي التصعيد بين طهران وواشنطن في أكثر من مكان، وذلك في ضوء انتشار ميليشيات موالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لكن ما الذي دفع الولايات المتحدة لقتل قاسم سليماني في العراق وماذا كان يخطط ضد القوات الأميركية؟
بغداد – لم يدرك قاسم سليماني الرجل القوي في إيران وقائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، الذي قتل في ضربة أميركية، أن للولايات المتحدة خطوطا حمراء لا يمكن أن تتغافل عنها مع التهديدات المتنامية لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في العراق الذي يشكل ساحة للصراع غير المعلن على النفوذ مع النظام الإيراني.
وتوصف الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس الإيراني في الآونة الأخيرة إلى العراق ضمن “عملية إيرانية عاجلة” لإنقاذ الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وسرقة الثروات والتي تحكم منذ 16 عاما، خاصة في ضوء الانتفاضة الشعبية الرافضة لتنامي النفوذ الإيراني على حساب مصالح العراقيين.
وعملت إيران بكل الوسائل لإنقاذ هذه الطبقة السياسية وميليشياتها الموالية التي تعد الأذرع الإيرانية القوية في المنطقة. فطهران أرسلت قاسم سليماني في أكثر من مرة إلى بغداد ضمن محاولاتها لاحتواء حالة الغضب الشعبي خوفا على مصالحها وأيضا وسط خشية من انتقال الاحتجاجات إلى طهران نفسها.
وعلى الرغم من فشل الحلول الأمنية في إخماد الانتفاضة الشعبية في العراق وجد قادة إيران وميليشياتها العراقية ضرورة حرف البوصلة نحو الأهداف الأميركية واستعادة “خطاب المقاومة” للوجود العسكري الأميركي في محاولة يائسة لإنقاذ أنفسهم من ورطة الاحتجاجات والغضب الشعبي ضد النفوذ الإيراني.
تقول وكالة رويترز إن سليماني اجتمع في منتصف أكتوبر الماضي مع قادة ميليشيات مسلحة عراقية في فيلا على نهر دجلة على الجانب الآخر من مجمع السفارة الأميركية في بغداد حيث أصدر تعليماته إلى أبومهدي المهندس وقادة ميليشيات قوية أخرى بضرورة تكثيف الهجمات على المصالح الأميركية باستخدام أسلحة متطورة جديدة قدمتها لهم إيران.
ووصفت مصادر مطلعة الاجتماع بـ”الاستراتيجي”، والذي لم تتحدث عنه تقارير إعلامية من قبل، حيث جاء في وقت كانت فيه الاحتجاجات الحاشدة ضد النفوذ الإيراني المتنامي في العراق تكتسب زخما، مما وضع النظام الإيراني في صورة بغيضة.
وذكرت المصادر وسياسيون شيعة عراقيون ومسؤولون مقربون من رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي أن خطط سليماني لمهاجمة القوات الأميركية كانت تهدف إلى إثارة رد عسكري من شأنه أن يحوّل ذلك الغضب المتصاعد صوب الولايات المتحدة.
ماذا خطط سليماني
عمل قاسم سليماني بشكل كبير على دعم الميليشيات الموالية لإيران في العراق بالأسلحة المتطورة والطائرات المسيرّة الإيرانية والتي استخدمت في أكثر من هجوم ضد أهداف أميركية داخل العراق.
وتسلط مقابلات مع مصادر أمنية عراقية وقادة ميليشيات مسلحة شيعية بعض الضوء على كيفية عمل سليماني في العراق، البلد الذي وصفه ذات يوم بأنه يعرفه عن ظهر قلب، حيث أمر سليماني الحرس الثوري الإيراني قبل أسبوعين من اجتماع أكتوبر الاستراتيجي بنقل أسلحة أكثر تطورا إلى العراق منها صواريخ كاتيوشا وصواريخ تُطلق من على الكتف يمكن أن تسقط طائرات هليكوبتر وذلك من خلال معبرين حدوديين.
وطلب سليماني من القادة العسكريين المجتمعين في فيلا ببغداد بضرورة تشكيل فصيل مسلح جديد، غير معروف للولايات المتحدة يمكن أن ينفذ هجمات صاروخية ضد الأميركيين الموجودين في قواعد عسكرية عراقية.
وذكرت المصادر بالميليشيات المسلحة، التي اطّلعت على ما دار في الاجتماعات، أن سليماني أمر كتائب حزب الله وهي قوة أسّسها أبومهدي المهندس وتدربت في إيران بتولّي تنفيذ خطة مهاجمة الأهداف الأميركية.
وكان سليماني يعتقد بأنّ الولايات المتحدة ستجد صعوبة في رصد هذه الجماعة، لكنّ مسؤولين أميركيين قالوا إن أجهزة المخابرات الأميركية كان لديها من المعلومات قبل الهجمات ما جعلها تعتقد أن سليماني مشارك في “مرحلة متقدمة” من التخطيط لمهاجمة أهداف أميركية في عدة دول، من بينها العراق وسوريا ولبنان.
رصد الأهداف الأميركية
نجح قاسم سليماني الذي عمل خلال السنوات الأخيرة على توسيع دائرة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط في تنفيذ هجماته ضد قواعد أميركية في العراق، لكن لم يدرك أن الولايات المتحدة كانت قادرة على الوصول إليه شخصياً في أيّ مكان. ويقول مراقبون إن الثمن الذي دفعته إيران مقابل مهاجمة أهداف الولايات المتحدة كان “رأس الأفعى” بذاته، في إشارة إلى حجم قوة تأثير سليماني على القرار في الجمهورية الإسلامية.
ونقلت وكالة رويترز عن قائد بالميليشيات المسلحة قوله إن “سليماني اختار كتائب حزب الله لقيادة الهجمات على القوات الأميركية نظرا لامتلاكها القدرة على استخدام الطائرات المسيرّة لاستطلاع الأهداف قبل مهاجمتها بصواريخ الكاتيوشا”.
وكشف قادة في الميليشيات أن سليماني سلّم في الخريف الماضي جماعات حليفة عراقية طائرة مسيرّة طورتها إيران وقادرة على التخفي عن أعين أنظمة الرادار، وأن كتائب حزب الله العراقية استخدمت هذا النوع من الطائرات لالتقاط صور جوية لمواقع تنتشر بها قوات أميركية.
ونفذت تلك الميليشيا المدعومة من إيران هجمات في أوائل شهر ديسمبر 2019 على قواعد عسكرية أميركية في العراق، واستهدفت أربع صواريخ كاتيوشا قاعدة قرب مطار بغداد الدولي مما تسبب في إصابة خمسة من قوات جهاز مكافحة الإرهاب بالعراق، ولم تعلن أيّ جماعة مسؤوليتها عن الهجوم، لكن الولايات المتحدة كانت تمتلك معلومات، بعد فحص الصواريخ والبطاريات التي استخدمت في إطلاقها، عن وقوف كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، التي يتزعمها قيس الخزعلي، وراء تلك الهجمات.
وكانت التطورات الحاصلة في العراق وحجم المخاوف الإيرانية من فقدانها سطوتها على البلاد في ضوء الانتفاضة الشعبية ضد نفوذها المتنامي وراء الدفع نحو التصعيد مع الولايات المتحدة بعد سنوات طويلة من التوافق غير المعلن حول تسيير نظام الحكم وتقاسم السلطة بين الأحزاب السياسية والمحاصصة الطائفية.
وكانت الولايات المتحدة تدرك أن إيران ستكثّف من هجماتها على القواعد العسكرية الموجودة بالعراق، حيث قال مسؤول عسكري أميركي في الحادي عشر من ديسمبر الماضي إن الهجمات التي تقف وراءها ميليشيات مدعومة من إيران ستزداد وتصبح أكثر تطورا، وأن الأمر يصل إلى تصعيد خارج عن السيطرة.
قواعد اللعبة تغيرت
كان الهجوم الذي نفذ في الـ27 من ديسمبر الماضي على قاعدة عسكرية قرب مدينة كركوك شمال العراق وأودى بحياة متعاقد مدني أميركي وإصابة أربعة آخرين واثنين من العسكريين العراقيين بداية الحسم القاطع مع تمادي النظام الإيراني وميليشياته في العراق باستهداف مصالح الولايات المتحدة.
وعملت القوات الأميركية المنتشرة في العراق على تنفيذ ضربات جوية بعد يومين من هجوم كركوك حيث استهدفت كتائب حزب الله مما أدى إلى مقتل مالا يقل عن 25 مقاتلا وإصابة 55 آخرين، الأمر الذي دفع بقادة ميليشيات الحشد الشعبي والجماعات الموالية لإيران في العراق إلى تنفيذ احتجاجات عنيفة ضد السفارة الأميركية في بغداد.
لكن حادثة السفارة أيضا شكلت تطورا مهما في مدى وصول التصعيد بين إيران وميليشياتها من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، فواشنطن تدرك جيدا حجم المخاطر على مصالحها في العراق حيث أعلن وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر بعد هذا الاعتداء على السفارة أن “قواعد اللعبة تغيرت”، وحذّر حينها من أن الولايات المتحدة قد تضطر لاتخاذ إجراء استباقي لحماية أرواح الأميركيين من هجمات متوقعة من جانب ميليشيات مدعومة من إيران.
لم يفهم النظام الإيراني تصريحات المسؤولين الأميركيين بشأن التحذير من المساس بمصالح بلادهم في منطقة الشرق الأوسط وأن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأرسل سليماني إلى بغداد في تحدّ واضح للتحذيرات الأميركية. ويقول مراقبون إن التردد الأميركي في الرد على الهجمات التي نفذت في المنطقة واتهمت طهران بالوقوف وراءها فهمت على أن “الخصم الأميركي ضعيف” ولا يقدر على الرد.
هدف ثقيل
لم يكن متوقعا على نطاق واسع أن الولايات المتحدة ستقدم على عملية قتل سليماني الذي يعتبر أقوى شخصية في إيران بعد المرشد الأعلى علي خامنئي، والذي عمل على بسط نفوذ بلاده في العراق وبعض دول المنطقة باعتباره من يتولى قيادة فيلق القدس بالحرس الثوري والمسؤول عن العمليات السرية الخارجية لإيران.
ازداد القلق الأميركي من تنامي النفوذ الإيراني على الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، والتي تواجه انتفاضة شعبية منذ أشهر وتتهم الحكومة بالفساد وخدمة مصالح قوى أجنبية، لاسيما إيران، في الوقت الذي يقبع فيه العراقيون في الفقر دون وظائف أو خدمات أساسية.
وكانت خطط طهران وميليشياتها في العراق تنصبّ على حرف الأنظار عن الانتفاضة التي تهدد نفوذهم بإشعال أزمة واسعة مع الولايات المتحدة. فواشنطن تراقب منذ أشهر تحركات سليماني عن قرب، وكان بمقدورها استهدافه قبل عملية يوم الجمعة، لكن شيئا حصل حسب تصريحات المسؤولين الأميركيين دفع إلى اللجوء إلى الحل الأخير والقاضي بتصفيته.
يقول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إن قائد فيلق القدس الإيراني كان يحضّر لـ”عمل كبير” يهدّد أرواح مئات الأميركيين، مشيرا إلى أن “التقييم الاستخباري هو الذي وجه عملية اتخاذ قرارنا”. كما كشف مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت أوبراين أن سليماني “كان يخطط لهجمات على جنود وطيارين ومشاة بالبحرية وبحارة ودبلوماسيين أميركيين”.
وتشير مصادر إعلامية أميركية إلى أن الولايات المتحدة كانت تمتلك معلومات استخبارية عن مسار تحركات سليماني وجدول أعماله واحتياطاته الأمنية قبل أن تقتله بـ”ضربة دقيقة من طائرة مسيّرة”.
ويقول محللون إن عملية استهداف سليماني، التي تعد الأكبر مقارنة بعمليات تصفية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وزعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبوبكر البغدادي، ستطلق موجة جديدة من التصعيد غير المسبوق بين إيران والولايات المتحدة.
وتعتبر كيم غطاس من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أنّه من الصعب توقع تطورات المشهد في المنطقة، وتتساءل “حرب؟ فوضى؟ أعمال انتقامية محدودة؟ لا شيء؟ لا أحد يعرف حقيقة، لا في المنطقة ولا في واشنطن، لأنّ ما حدث غير مسبوق”.
ويتوقع أن تطلق الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن هجمات على قواعد عسكرية أميركية أو منشآت نفطية أو سفن تجارية في مضيق هرمز الذي تهدد إيران بإغلاقه في أيّ وقت. كما يتوقع أن تكون أهداف الميليشيات والنظام في طهران استهداف سفارات أميركية في المنطقة أو حتى في دول أوروبية.
العرب